الإعلام التركي يمارس «التنظيف الذاتي» للفرز بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها

الصحافي أكيول لـ {الشرق الأوسط}: إذا عارضت إردوغان لا تسجن.. لكنك تصبح عاطلا عن العمل

الإعلام التركي يمارس «التنظيف الذاتي» للفرز بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها
TT

الإعلام التركي يمارس «التنظيف الذاتي» للفرز بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها

الإعلام التركي يمارس «التنظيف الذاتي» للفرز بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها

انعكس الصراع الدائر بين الحكومة التركية، وجماعة الداعية الإسلامي فتح الله غولن، على وسائل الإعلام التي انقسمت بين مؤيد ومعارض، كما امتد النزاع إلى داخل المؤسسات الإعلامية التركية التي بدأت عملية «تنظيف ذاتي» أسفرت عن خروج قرابة 1000 صحافي من مؤسساتهم، خصوصا من الصحف الموالية للحكومة، فخرجت عدة أسماء بارزة من الصحف التركية، كما شهدت جريدة «حرييت» إحدى كبريات الصحف التركية خضة كبيرة تمثلت بخروج رئيس تحريرها وعدد من كتابها البارزين بتهمة «التعامل مع الجماعة».
وتعمل جماعة غولن بقوة في الوسط الإعلامي التركي، وهي تسيطر على جمعية الكتاب والصحافيين، التي هي بمثابة نقابة الصحف التركية. وقد كشف تقرير برلماني تركي مستقل عن فصل 981 صحافيا من عملهم، منذ مطلع العام الحالي، إضافة إلى معاقبة وسائل الإعلام التي تنتقد سياسات الحكومة بواسطة وزارة المالية والمجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون، وتخصيص إعلانات الوظائف بالقطاع العام لوسائل الإعلام المؤيدة للحكومة.
التقرير الذي أعده النائب المستقل بالبرلمان التركي عن مدينة كوتاهيا إدريس بال، حول الضغوط التي تمارسها الحكومة التركية على وسائل الإعلام غير الموالية لها، والمشاكل التي يعانيها العاملون في هذا القطاع، أشار إلى أن «الإعلام الموالي» يتألف من ست صحف وست قنوات تلفزيونية مملوكة لرجال أعمال مقربين من حكومة حزب العدالة والتنمية، مشددا على أن الحكومة كونت جيشا إلكترونيا قوامه نحو 10 آلاف شخص، بأموال الدولة، بهدف شن هجمات عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت بغية إسكات الحركات والأحزاب المعارضة للحكومة. ولفت التقرير إلى وجود عدد كبير من الصحف والقنوات التلفزيونية التي لا تدار من قبل الحكومة، يتم الضغط عليها من خلال المناقصات والإعلانات والضرائب وحملات التفتيش، كما تُمنَع من بث برامجها وأخبارها المعارضة للحكومة.
ويقول تورجان باش تورك، رئيس منتدى «ميديا لوغ» الإعلامي، لـ«الشرق الأوسط»، إن التقرير الذي قدمه النائب إدريس بال «يدل على الوضع المزري الذي يعيشه الوسط الإعلامي في تركيا، كما أنه يبين للقاصي والداني مستوى الديمقراطية التي تطبق الآن في تركيا وكيف يضرب بعرض الحائط المواثيق والأعراف الدولية ومبادئ حرية الصحافة التي أبرمتها الأمم المتحدة». وأشار إلى عدة أسباب وراء طرد هذا الكم الهائل من الإعلاميين، لكنه شدد على أن السبب الأهم هو أن «الحكومة تعيد ترتيب وضع الإعلام في تركيا ليكون أداة لخدمتها وقوة رادعة إلى جانب القوة التنفيذية التي تتحكم بها».
وقال «نحن في المنتدى أعددنا دراسة نشرت العام الماضي، وطلبنا فيها أن تكون مؤسسات الإعلام بعيدة عن أي استثمارات غير إعلامية، وأن يمنع أصحاب المؤسسات الإعلامية من ممارسة أي أعمال تجارية خارج نطاق الإعلام». وأضاف «ما يجري حاليا هو أن أصحاب هذه المؤسسات الإعلامية لهم استثمارات تجارية أخرى، ولهذا السبب تكون لهم علاقات مباشرة مع الدولة والحكومة، مما يجبرهم على السعي لنيل رضا الحكومة، فلا يسمحون بأن يكون في مؤسساتهم صحافيون معارضون للحكومة، أو يكتبون بما يخالف توجهاتها»، معتبرا أن صاحب المؤسسة الإعلامية «يكون في هذه الحال العائق الكبير أمام حرية التعبير للصحافي». وأوضح أن «مسودة قانون أعدت عام 2003 كانت تنص على منع أي رجل اعمل من أصحاب المؤسسات الإعلامية من دخول أي مناقصات للدولة، ولكن باتفاق مع بعض رجال الأعمال والمتنفذين في الحكومة حيل دون صدور هذا القانون، وبهذه الطريقة استخدم رجال الأعمال مؤسساتهم الإعلامية للضغط على الحكومة وأخذ مناقصات كبيرة جدا من الدولة، وبهذه الطريقة استطاعت الحكومة أن توجه الإعلام من خلال أصحابه».
وأشار باش تورك إلى أن فضيحة الفساد التي عاشتها تركيا العام الماضي كانت نقطة تحول بالنسبة للحكومة للتضييق على وسائل الإعلام، خاصة التي كانت تكشف خفايا فضائح الوزراء وأبنائهم، ولهذا السبب بدأت الحكومة باستخدام جميع وسائل الضغط والترهيب على الصحف وأصحابها. ومن لم تستطع أن تقيله من عمله كانت تبدأ ضده حملة تشويه من خلال الإعلام الموالي لها فيجبر الصحافي على الاستقالة أو يقيله رب العمل».
ويعتبر مصطفى أكيول واحدا من أبرز الصحافيين الذين طردوا من وظائفهم لمعارضتهم حكومة حزب العدالة والتنمية، وتحديدا رئيس الحكومة السابق، ورئيس الجمهورية الحالي، رجب طيب إردوغان. وقد حرض أكيول على التمييز بين سياسة إردوغان، وسياسات رئيس الحكومة الجديد أحمد داود أوغلو، متوقعا أن يكون عهده أفضل لجهة الحريات الصحافية. وقال أكيول لـ«الشرق الأوسط»: «بدأت العمل في جريدة (ستار) عام 2007 كاتبا في الجريدة، ولكن قبل عدة أشهر تقدمت إدارة الجريدة وقالت لي بأنها لن تستطيع الاستمرار بالعمل معي، وإنهم قرروا إنهاء عقدهم معي لأن كتاباتي لم تعد تتماشى مع سياسة الجريدة، فقمت بشكرهم وغادرت المؤسسة»، مشيرا إلى أن «السبب في طلبهم إيقاف التعامل معي هو مساندتهم التامة لإردوغان، وبما أن مقالتي الأخيرة لم تكن تحمل كلمات المدح والتفخيم له فقد قرروا فسخ عقدي». وقال «منذ أن بدأ حزب العدالة والتنمية حكم تركيا كانت جريدة (ستار) من بين الوسائل الإعلامية التي كانت تمدح حكم إردوغان، ولكن في السنوات الأخيرة تحولت إلى ناطق باسم الحزب والحكومة». ويضيف «كانت الجريدة في السابق تحاول أن تعطيني قدرا من الحرية مع أنني كنت أنتقد إجراءات الحكومة فقط من أجل خلق توازن للقراء، لكنها الآن لا تحتاج إلى هذا التوازن ولا تحتاج إلى القراء الآخرين، ولا يوجد لها همّ زيادة المبيعات لأنها تمول مباشرة من الحكومة، ومن الطبيعي أن يقوموا بملء الفراغ بأناس يتمتعون بأسلوب أدبي ولكن لا علاقة لهم بالإعلام.
وتوقع أكيول أن يصبح الإعلام التركي شبه بوق للحكومة، وأن تشهد الفترة المقبلة طرد العشرات من الصحافيين قريبا، وذلك لتأهيل الإعلام ليتناسب مع المرحلة المقبلة لحكم العدالة والتنمية.
لكن جيم كوجوك، من صحيفة «يني شفق» الموالية، أعلن أنه لا يؤمن بهذا التقرير، معتبرا أن 70 في المائة من المؤسسات الإعلامية في تركيا تعمل ضد حكومات العدالة والتنمية وعلى رأسها مجموعة «دوغان» الإعلامية ومجموعة «جينار» الإعلامية. وقال كوجوك لـ«الشرق الأوسط»: «الجميع يذكر اسم حسن جمال من صحيفة (ملليت)، فاستقالة هذا الصحافي لم تأت نتيجة مواقفه من الحكومة، ولكن نتيجة مواقف أصحاب الجريدة الذين لم يتفقوا معه، ولهذا يلقون باللوم على الحكومة بأنها ضغطت على إدارة الجريدة». وأضاف «لو كانت الحكومة تضغط على المؤسسات الإعلامية لطرد الصحافيين فإننا لن نجد هذا اليوم أيا من الصحافيين يكتب في مجموعة (دوغان) الإعلامية، لأنها ومنذ الأزل معارضة للحكومة». وأشار إلى أنه منذ نحو خمس سنوات هناك حملات مباشرة استهدفت بعض الصحافيين من قبل إعلام جماعة فتح الله غولن، مما أدى إلى توقف الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى عن التعامل مع هؤلاء الصحافيين، متحديا أن «يقدم الذين يتهموا الحكومة دليلا على أنها ضغطت على وسيلة من وسائل الإعلام لطرد فلان أو فلان، ولكن في المقابل يوجد العشرات من الصحافيين الانقلابيين الذي عملوا وما زالوا يعملون جنبا إلى جنب لدعم أي حركات للانقلاب على الحكومة الشرعية في هذه البلاد، كما يوجد صحافيون يعملون تحت إمرة الانقلابيين من جماعة فتح الله غولن».
وأوضح أن «في تركيا أغلبية عظمى من المحافظين، ولهذا فإنه من الطبيعي أن تظهر زمرة من الصحافيين الفاشلين الذين يعتبرون أنفسهم فوق المجتمع وينظرون إليه نظرة دونية، ولهذا لا يستطيعون التماشي مع متطلبات الجماهير وينعكس هذا على أدائهم الإعلامي فينبذون من قبل الشعب وإدارة مؤسساتهم لأنهم دافعوا عن الانقلابات العسكرية ولأنهم يدافعون عن الهيكلية الموازية، فيطردون من أعمالهم، وهنا يحملون الحكومة مسؤولية فشلهم، ولهذا نراهم يكتبون في صفحات إلكترونية من الدرجة الثالثة».
ويشير كوجوك إلى أن الجميع يتحدث عن إنهاء عقود العمل مع صلاح الدين جينار ومصطفى أكيول اللذين كانا يعملان في جريدة «ستار»، موضحا أن «السبب في فسخ العقد مع صلاح الدين جينار أن هذا الشخص كان وما زال يدافع عما تقوم به جماعة فتح الله غولن من انقلابات وافتراءات وتشويه لسمعة الحكومة التركية المنتخبة بأغلبية عظمى في هذه البلاد. أما بالنسبة لمصطفى أكيول فهو أول من اتهم الجماعة قبل عدة سنوات بأنها دبرت مكيدة لمدير الأمن حنفي افجي وألقت به في السجن، ومع مرور الزمن ثبتت صحة كلامه، ولكن عندما بدأت الهيكلية الموازية بالتحرك للانقلاب على الشرعية كان مع والده أيضا من بين من أنكروا وجود هيكلية موازية رغم اكتشاف الدولة لهؤلاء واعتقال العشرات من رجال الأمن بتهمة التجسس والتخطيط للانقلاب». وقال «منذ عدة سنوات بدأت الصفوف تتضح في تركيا، وبما أنهم اختاروا الصف الآخر فإنهم يدفعون الثمن، ولكن أكرر وأقول بأن الحكومة لم تتدخل لإيقاف عمل صلاح الدين جينار ومصطفى أكيول»، معتبرا أن والد مصطفى أكيول، طه، هو من أكبر الإعلاميين في تركيا ويحاول اللعب على وتر عبد الله غل لشق صف «العدالة والتنمية»، لكنه باء بالفشل.
أما التغييرات التي شهدتها صحيفة «حرييت» فهي ليست بالمفاجئة، لأن الجريدة بقيادة أنيس بربر أوغلو عملت ما في وسعها لإنجاح الانقلاب على الشرعية في زمن رئيس التحرير السابق، وتطاول أحمد جوشكن ويلماز أوزديل وشتما رئيس الوزراء مباشرة وهما من أهم الكتاب في الجريدة، والسبب في هذا أن صاحب المجموعة الإعلامية أيدن دوغان كانت له دعوى أمام القضاء عام 2011 وبعد أن أصدرت جماعة فتح الله غولن قرارا لصالحه لأنها كانت تسيطر على القضاء، جلسوا للتفاوض معه، وعلى هذا الأساس قبل أن يعين أنيس بربر أوغلو رئيسا لتحرير الجريدة لأنه مقرب جدا من الجماعة، ومنذ ذلك الحين بدأت جريدة «حرييت» تلعب دور العدو للدولة والحكومة، لدرجة أن أحد الكتاب عنون مقالته بـ«رجل يستحق البصق في وجهه»، وهنا يعني رئيس الوزراء آنذاك إردوغان. التغييرات الآن في «حرييت» ليست لأن الحكومة تضغط، وإنما لأن الإدارة رأت أنها تمشي في الطريق الخطأ وتحاول أن تخفف حدة القتال مع الحكومة فقط لا غير، ولهذا أقيل بربر أوغلو من رئاسة التحرير، وعين مكانه سدات ارجين، وهذا قرار من أيدن دوغان نفسه.
أما بالنسبة للصحافيين المعتقلين فلا أحد منهم اعتقل نتيجة كتابته لرأي أو وجهه نظر معينة، وما أعرفه أن أغلبية المعتقلين من الصحافيين يتهمون بتهمة دعم ومؤازرة الإرهاب، وأتعجب أن مؤسسات الإعلام وحرية الصحافة العالمية تضع تركيا في قائمة الدول مثل العراق وكوريا الشمالية، وحسب رأيي فإنه يوجد مشروع دولي ضد حكومة إردوغان ومحاولة إظهارها بأنها حكومة قمعية تحارب حتى الصحافيين والإعلاميين.
في المقابل، يؤيد أكيول كوجوك أنه لا يوجد من بين الصحافيين المعتقلين من هو معتقل رأي، بل بسبب قضايا إرهاب. ويقول «إذا انتقدت إردوغان فأنت لن تعتقل، ولكن ستفقد عملك وتقف إلى جانب العاطلين من الإعلاميين». ويوضح أكيول أنه «ليس في كل الأحيان يكون طرد الصحافي بتدخل من الحكومة، ولكن بعض أصحاب المؤسسات الإعلامية يقومون بطرد غير الموالين للحكومة ليكسبوا رضاها».



إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.