البنوك المركزية تدفع ثمن سياسة «شراء الوقت»

مع خروج السياسات الاقتصادية عن النص

مبنى البنك المركزي الأميركي في واشنطن (رويترز)
مبنى البنك المركزي الأميركي في واشنطن (رويترز)
TT

البنوك المركزية تدفع ثمن سياسة «شراء الوقت»

مبنى البنك المركزي الأميركي في واشنطن (رويترز)
مبنى البنك المركزي الأميركي في واشنطن (رويترز)

رغم أن القواعد الاقتصادية عادة هي ما تتحكم في الكثير من القرارات الخاصة بالسياسات المالية والنقدية حول العالم، إلا أن لكل دولة أهدافها وإمكانياتها التي تساعدها في سرعة تحقيق مستهدفاتها المالية، على أن تداخل السياستين (المالية والنقدية) قد يؤدي في النهاية إلى خلل اقتصادي وتشوه مالي.
غير أن أزمة مالية واحدة، من شأنها أن تقلب هرم القرارات الاقتصادية، فمن رفع الفائدة لكبح التضخم إلى تخفيضها لزيادته، مع الأخذ في الاعتبار البيانات الاقتصادية الكلية في البلاد، بجانب الحفاظ على استقرار سعر العملة، وهذا دور أصيل وأساسي للبنوك المركزية.
لكن خروج السياسات الاقتصادية في عدد من الدول عن النص، في الفترة الأخيرة، أعاد البنوك المركزية لدائرة الضوء وبقوة من جديد، منذ أن كان دورها إبان الأزمة المالية العالمية العام 2008 هو المسيطر على تحركات الأسواق.
ونجحت البنوك المركزية في تجاوز تقلبات الأسواق مع خروجها من الأزمة، من خلال خفض أسعار الفائدة وشراء كميات ضخمة من سندات الديون، ومن خلال خروجها عن مسارها المعتاد بتعزيز أسعار الأصول كوسيلة لدعم الاقتصاد.
بيد أن ما بدا عملية سلسة إلى حدٍّ ما وقت الأزمة، تحول بمرور الوقت إلى إشكالية ومعضلة للبنوك المركزية، خصوصاً بالنسبة إلى البنك المركزي الأميركي، الذي يواجه اتهامات بتأجيج حالة عدم الاستقرار المالي في البلاد.
ومثلما أشار الخبير الاقتصادي محمد العريان في أحد كتبه إلى سياسة «شراء الوقت» التي لجأت لها البنوك المركزية وقت الأزمة المالية العالمية، حتى يضمّد الاقتصاد جراحه، كانت لها تكاليفها وتداعياتها غير المقصودة.
وعليه، فإنه عندما حانت الظروف لإعادة السياسات لنهجها الطبيعي، توقف المركزي الأميركي عن شراء الأصول ورفع أسعار الفائدة تسع مرات. وحذا البنك المركزي الأوروبي من جانبه حذوه. وبعد تقليصه برنامج شراء الأصول الخاص به على مدار الشهور القليلة الماضية، أوقف البرنامج تماماً، وقال إنه يدرس رفع معدلات الفائدة، التي تقارب الصفر.
ومع محاولات البنوك المركزية إعادة الاقتصاد العالمي إلى مساره الصعودي، (يتوقع صندق النقد معدل نمو 3.3 في المائة العام الجاري) تدور في الأفق مؤشرات أزمة مالية جديدة، حال عدم اتباع سياسات نقدية ذكية أكثر منها نقدية تتوافق والقواعد الاقتصادية.
أول من أمس، أقال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان محافظ البنك المركزي، بحجة أنه لم يخفض أسعار الفائدة، لدعم اقتصاد البلاد المترنح، فيما يبدو أن البنوك المركزية بدأت تدفع ثمن «شراء الوقت» وقت الأزمة المالية، وانكمش الاقتصاد التركي بشدة للربع الثاني على التوالي في مطلع 2019 فيما نالت أزمة العملة وارتفاع معدل التضخم وأسعار الفائدة من الإنتاج الكلي بشكل كبير.
ونقل عن إردوغان قوله بعد عزل محافظ المركزي «أبلغناه مرارا خلال اجتماعات اقتصادية أنه ينبغي خفض أسعار الفائدة. أبلغناه أن خفض سعر الفائدة سيسهم في خفض التضخم. لم يفعل ما كان ضروريا».
والمركزي التركي يبقي سعر الفائدة الأساسي عند 24 في المائة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي لدعم الليرة المتعثرة، ولكبح التضخم الذي يقارب 20 في المائة.
في حين واصل الرئيس الأميركي دونالد ترمب هجومه على البنك المركزي الأميركي، قائلا إن «أصعب مشكلة لدينا ليست المنافسين إنها مجلس الاحتياط الاتحادي».
وقال ترمب إن مجلس الاحتياط يرفع أسعار الفائدة بشكل مبكر للغاية وكثيرا للغاية و«لا يعرف ما يفعله». وأضاف أنه لو لم يشدد البنك المركزي السياسة «لكان قد تم تحقيق ثروة إضافية هائلة».

معركة الحكومات مع بنوكها المركزية
تفاقمت الخلافات الحكومية مع بنوكها المركزية، وبدأت تظهر للعلن في الكثير من الدول، رغم أنها واضحة وضوح الشمس في الولايات المتحدة وتركيا، فضلا عن بعض الخلافات المتناثرة في الاتحاد الأوروبي بالنسبة لسياسات ماريو دراغي محافظ البنك المركزي الأوروبي، والذي وجه إليه الرئيس الأميركي دونالد ترمب اتهامات بالتلاعب في العملة لمصلحة اليورو أمام الدولار.
كان ترمب قد اتهم أوروبا والصين بالتلاعب في العملة للتنافس مع الولايات المتحدة. لأنه يريد دولارا ضعيفا للمساعدة في تعزيز الصادرات، ويسعى لدى مجلس الاحتياطي الفيدرالي للمساعدة في حدوث ذلك.
وأي تضارب بين السياسات النقدية للبنوك المركزية مع السياسات المالية الحكومية، من شأنه أن يفضي إلى حرب عملات، مع التأثير السلبي على معدلات نمو الاقتصاد العالمي، مما يعد عنصرا أساسيا لتشكيل أزمة مالية عالمية جديدة.
وظهر هذا جليا في انتقاد ترمب مرارا للبنك المركزي الأميركي لزيادته أسعار الفائدة، ووجه معظم انتقاداته إلى رئيس مجلس الاحتياطي جيروم باول الذي كان قد رشحه للمنصب. لكن مسؤولي مجلس الاحتياطي جادلوا بأن زيادات أسعار الفائدة العام الماضي كانت إجراء احترازيا مناسبا.
غير أن موقف مسؤولي البنك المركزي الأميركي بدأ يتغير في مايو (أيار) وسط مخاوف من أن سياسة ترمب التجارية تهدد بتقويض المعنويات الاقتصادية واستثمارات الشركات والنمو.

استقلالية البنوك المركزية
مع عزل تركيا محافظ البنك المركزي بعد تفاقم الخلاف بين الحكومة والبنك بشأن السياسات النقدية في مواجهة التباطؤ الاقتصادي وتقلب العملة ونسبة التضخم المرتفعة، فإن استقلالية البنك المركزي في البلاد تتلاشى، مما لا يساعد بدوره الاستثمار الأجنبي وحتى المحلي على الثقة في هذا الاقتصاد. رغم أن المحافظ الجديد قال إنه سيواصل العمل بشكل مستقل وإنه سيركز على الحفاظ على استقرار الأسعار كهدف رئيسي.
ومع ترقب الأسواق والمستثمرين اجتماع البنك المركزي الأميركي المقبل، وما سيؤول إليه الاجتماع إن كان بخفض الفائدة أو برفعها أو بتثبيتها، فإن الآراء تميل إلى التأثير المتعمد على صانع القرار في البنك المركزي لأكبر اقتصاد في العالم، وعليه فإن خفض الفائدة، الذي يريده ترمب سيساهم أيضاً في خفض معدل الثقة في الاقتصاد.



الصين تتعهد بتحفيز الاقتصاد عبر زيادة الديون وتخفيض الفائدة

الرئيس الصين شي جينبينغ يُلقي خطاباً خلال مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي في بكين (وكالة أنباء شينخوا)
الرئيس الصين شي جينبينغ يُلقي خطاباً خلال مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي في بكين (وكالة أنباء شينخوا)
TT

الصين تتعهد بتحفيز الاقتصاد عبر زيادة الديون وتخفيض الفائدة

الرئيس الصين شي جينبينغ يُلقي خطاباً خلال مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي في بكين (وكالة أنباء شينخوا)
الرئيس الصين شي جينبينغ يُلقي خطاباً خلال مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي في بكين (وكالة أنباء شينخوا)

تعهدت الصين، يوم الخميس، بزيادة العجز في الموازنة، وإصدار مزيد من الديون، وتخفيف السياسة النقدية، للحفاظ على استقرار معدل النمو الاقتصادي، وذلك في ظل استعدادها لمزيد من التوترات التجارية مع الولايات المتحدة مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض.

جاءت هذه التصريحات في بيان إعلامي رسمي صادر عن اجتماع سنوي لتحديد جدول أعمال كبار قادة البلاد، المعروف بمؤتمر العمل الاقتصادي المركزي (CEWC)، الذي عُقد في 11 و12 ديسمبر (كانون الثاني)، وفق «رويترز».

وقالت هيئة الإذاعة والتلفزيون الصينية بعد الاجتماع المغلق للجنة الاقتصادية المركزية: «لقد تعمق الأثر السلبي الناجم عن التغيرات في البيئة الخارجية». ويُعقد هذا الاجتماع في وقت يعاني فيه ثاني أكبر اقتصاد في العالم من صعوبات شديدة، نتيجة أزمة سوق العقارات الحادة، وارتفاع ديون الحكومات المحلية، وضعف الطلب المحلي. وتواجه صادراتها، التي تعد من بين النقاط المضيئة القليلة في الاقتصاد، تهديداً متزايداً بزيادة الرسوم الجمركية الأميركية.

وتتوافق تعهدات اللجنة الاقتصادية المركزية مع اللهجة التي تبناها أكثر تصريحات قادة الحزب الشيوعي تشاؤماً منذ أكثر من عقد، التي صدرت يوم الاثنين بعد اجتماع للمكتب السياسي، الهيئة العليا لصنع القرار.

وقال تشيوي تشانغ، كبير الاقتصاديين في «بين بوينت أسيت مانجمنت»: «كانت الرسالة بشأن رفع العجز المالي وخفض أسعار الفائدة متوقعة». وأضاف: «الاتجاه واضح، لكنَّ حجم التحفيز هو ما يهم، وربما لن نكتشف ذلك إلا بعد إعلان الولايات المتحدة عن الرسوم الجمركية».

وأشار المكتب السياسي إلى أن بكين مستعدة لتنفيذ التحفيز اللازم لمواجهة تأثير أي زيادات في الرسوم الجمركية، مع تبني سياسة نقدية «مرنة بشكل مناسب» واستخدام أدوات مالية «أكثر استباقية»، بالإضافة إلى تكثيف «التعديلات غير التقليدية المضادة للدورة الاقتصادية».

وجاء في ملخص اللجنة الاقتصادية المركزية: «من الضروري تنفيذ سياسة مالية أكثر نشاطاً، وزيادة نسبة العجز المالي»، مع رفع إصدار الديون على المستوى المركزي والمحلي.

كما تعهد القادة بخفض متطلبات الاحتياطي المصرفي وبتخفيض أسعار الفائدة «في الوقت المناسب».

وأشار المحللون إلى أن هذا التحول في الرسائل يعكس استعداد الصين للدخول في مزيد من الديون، مع إعطاء الأولوية للنمو على المخاطر المالية، على الأقل في الأمد القريب.

وفي مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي، تحدد بكين أهداف النمو الاقتصادي، والعجز المالي، وإصدار الديون والمتغيرات الأخرى للعام المقبل. ورغم أن الأهداف يجري الاتفاق عليها في الاجتماع، فإنها لن تُنشر رسمياً إلا في الاجتماع السنوي للبرلمان في مارس (آذار).

وأفادت «رويترز» الشهر الماضي بأن المستشارين الحكوميين أوصوا بأن تحافظ بكين على هدف النمو عند نحو 5 في المائة دون تغيير في العام المقبل.

وقال تقرير اللجنة الاقتصادية المركزية: «من الضروري الحفاظ على نموٍّ اقتصادي مستقر»، لكنه لم يحدد رقماً معيناً.

التهديدات الجمركية

وأثارت تهديدات ترمب بزيادة الرسوم الجمركية حالة من القلق في المجمع الصناعي الصيني، الذي يبيع سلعاً تزيد قيمتها على 400 مليار دولار سنوياً للولايات المتحدة. وقد بدأ كثير من المصنِّعين في نقل إنتاجهم إلى الخارج للتهرب من الرسوم الجمركية.

ويقول المصدِّرون إن زيادة الرسوم الجمركية ستؤدي إلى تآكل الأرباح بشكل أكبر، مما سيضر بالوظائف، والاستثمار، والنمو. وقال المحللون إنها ستفاقم أيضاً فائض القدرة الإنتاجية في الصين والضغوط الانكماشية التي تولدها.

وتوقع استطلاع أجرته «رويترز» الشهر الماضي أن الصين ستنمو بنسبة 4.5 في المائة في العام المقبل، لكنَّ الاستطلاع أشار أيضاً إلى أن الرسوم الجمركية قد تؤثر في النمو بما يصل إلى نقطة مئوية واحدة.

وفي وقت لاحق من هذا العام، نفَّذت بكين دفعة تحفيزية محدودة، حيث كشف البنك المركزي الصيني في سبتمبر (أيلول) عن إجراءات تيسيرية نقدية غير مسبوقة منذ الجائحة. كما أعلنت بكين في نوفمبر (تشرين الثاني) حزمة ديون بقيمة 10 تريليونات يوان (1.4 تريليون دولار) لتخفيف ضغوط تمويل الحكومات المحلية.

وتواجه الصين ضغوطاً انكماشية قوية، حيث يشعر المستهلكون بتراجع ثرواتهم بسبب انخفاض أسعار العقارات وضعف الرعاية الاجتماعية. ويشكل ضعف الطلب الأسري تهديداً رئيسياً للنمو.

ورغم التصريحات القوية من بكين طوال العام بشأن تعزيز الاستهلاك، فقد اقتصرت السياسات المعتمدة على خطة دعم لشراء السيارات والأجهزة المنزلية وبعض السلع الأخرى.

وذكر ملخص اللجنة الاقتصادية المركزية أن هذه الخطة سيتم توسيعها، مع بذل الجهود لزيادة دخول الأسر. وقال التقرير: «يجب تعزيز الاستهلاك بقوة».