ملمح من فكاهة المصريين وثقافتهم تعكسه الكتابات على واجهات المطاعم وعربات المأكولات والمشروبات المنتشرة في الشوارع والميادين، لا سيما الشعبية منها، لتضفي «مذاقاً» خاصاً على الأطباق التي تقدمها، بما يزيد من نكهتها المرتبطة بطريقة الإعداد.
وإذا كانت السيارات ووسائل المواصلات الأخرى لها نصيبها من الكلمات التي تزين هيكلها، وهو ما دأب على تحليله قديماً رائد علم الاجتماع المصري الدكتور سيد عويس، في كتابه «هتاف الصامتين»، فإن هذا «الهتاف» لا يزال يُردد، ليصل صداه إلى المطاعم وعربات المأكولات الخفيفة، حيث تتزين بعبارات ساخرة تارة، في محاولة لجذب الزبائن ولفت الأنظار إليها، وتارة أخرى نجد التبرك بأدعية، كمحاولة لتوسيع الرزق وجلب البركة.
وتعد عربات الفول المنتشرة في الشوارع، بتصميمها المعروف، وألوانها التي لا تخرج عن الأحمر والأخضر، من أكثر الأماكن التي يمكن ملاحظة هذه العبارات الفكاهية عليها، لكن يظل أشهرها «إن خلص الفول... أنا مش مسؤول»، وهي عبارة تدعو قارئها للإسراع في تناول الفول قبل أن يلتهمه الآخرون، وكذلك «كُل فول وصلي عالرسول»، و«فول مدمس... تعالى وغمس»، و«لو عايز الفول... كلمني ع المحمول».
وتلجأ عربات أخرى إلى تحريف أغنية شهيرة أو مقولة صائتة، وأبرز تلك العبارات «ما خطرتش على بالك يوم... تفطر عندي»، وهي مستوحاة من أغنية «يا مسهرني»، لـ«كوكب الشرق» أم كلثوم؛ أو استخدامها كما هي، مثل: «يا حلو صبح... يا حلو طل»، لمحمد قنديل، وذلك في إشارة إلى أهمية الفول في الصباح.
وكذلك يلجأ كثيرون لكتابة أدعية وأذكار، مثل: «صلي على النبي»، و«يا رب سترك»، و«اذكر الله»، و«سبحان الله»، و«الله أكبر»، و«توكلت على الله».
عم جمعة، صاحب إحدى عربات الفول التي تزينها عبارات كثيرة، يوضح لـ«الشرق الأوسط» أن هذه العبارات تكون محاولة لجذب المواطنين إلى الفول، الأكلة الشعبية الأولى، مهما اختلفت أعمارهم أو وظائفهم أو مستوياتهم الاجتماعية، مؤكداً أن مثل هذه العبارات «تفتح شهية» زبائنه لتناول الفول لديه، بما تعكسه من روح الدعابة، موضحاً أنه رغم قيامه بتغيير كثير من العربات، فإن ما يجمعها دائماً هو مثل هذه العبارات.
وتمتد تلك العبارات إلى عربات بيع الكبدة والسجق والكشري، وعربات بيع «الآيس كريم» وحمص الشام، وكثيراً ما تلجأ إلى أمثال شعبية، مثل: «عضة أسد ولا نظرة حسد»، و«إيه يعمل الحاسد في الرازق»، و«الصبر طيب يا بني آدمين»، و«الصبر مفتاح الفرج»، و«كده رضا»، و«يا بركة دعاء الوالدين».
الطريف أنه مع تدشين الحكومة المصرية مؤخراً لتجمعات بالقاهرة والمحافظات لأصحاب المشروعات الصغيرة من الشباب الجامعي، بهدف عرض بضائعهم عبر الأكشاك الصغيرة وعربات المأكولات السريعة المصممة على الطراز الغربي، مثل «شارع مصر»، و«شارع شباب العبور»، و«شارع مصر بشبين الكوم»، امتدت هذه العبارات الفكاهية إلى عرباتهم، وإن كانت في شكل حديث يتماشى مع روح العصر، أو تكتب أحياناً بالإنجليزية.
وحول سوسيولوجية هذه التعبيرات، يقول الدكتور جمال حماد، أستاذ علم الاجتماع بجامعة المنوفية، لـ«الشرق الأوسط»: «هذه التعبيرات تفاهمات مشتركة بين الناس عبر اللغة المكتوبة، حيث تعكس مواقف وواقع معاش، وتحولات اجتماعية واقتصادية، وما نراه حالياً من زيادة هذه العبارات في أماكن مختلفة هو إفراز للواقع الحالي، وتبدو طبيعية في إطارها عندما نتحدث عن الواقع المصري بعد ثورتين ومخاض صعب جداً مر به المجتمع».
وبسؤاله عن سبب ظهور مثل هذه التعبيرات على عربات الفول خاصة، يجيب أستاذ علم الاجتماع: «هي من أكثر الأماكن التي يوجد حولها فئات فقيرة أو بقايا الطبقة الوسطى، وهي فئات تحاول أن تخرج همومها في أشياء بسيطة، مثل أغنية أو نكتة أو طبق فول، بما يعبر عن الحالة التي يعيشونها أو تنتابهم، بعكس الطبقات الأخرى التي يكون الواقع لديها مليئاً بتحولات واهتمامات أخرى».
وعن امتداد فكرة التعبيرات إلى بيئات أخرى جديدة، يقول حماد إن كل فرد يرى في عربته أو مساحته الخاصة منطقة حرية، فهي ملكية خاصة يمكنه أن يخرج فيها حالته والتنفيس عنها، بمعنى أن يفعل فيها ما يشاء، وكل فرد يفعل ذلك بمنظوره المختلف طبقاً لخبراته السابقة وأوجاعه وهمومه واهتمامه.
العبارات على عربات الطعام... تعبير عن الهموم وجذب للزبائن
جزء لا يتجزأ من شوارع مصر
العبارات على عربات الطعام... تعبير عن الهموم وجذب للزبائن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة