محمد اشتيه... أكاديمي يعوِّل عليه «الفتحاويون»

صحافي دخل عالم السياسة الفلسطينية من أوسع الأبواب

محمد اشتيه... أكاديمي يعوِّل عليه «الفتحاويون»
TT

محمد اشتيه... أكاديمي يعوِّل عليه «الفتحاويون»

محمد اشتيه... أكاديمي يعوِّل عليه «الفتحاويون»

لم يختر رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد محمد اشتيه الذهاب إلى مكتبه في أول يوم عمل رسمي سيراً على الأقدام حباً في ممارسة هذا النوع من الرياضة، بل أراد بذكائه المعهود إرسال رسالة رئيسية من خلال صورة واحدة فقط «هذا عهد جديد». ولم يخفِ اشتيه أنه يشكل هذه المرة حكومة غير تقليدية أقرب للناس. وليس سراً أن سلفه رامي الحمد الله كان مبالغاً في الإجراءات الأمنية... حراس كثيرون ومواكب تسابق الريح... واحتياطات لم يتخذها أسلافه، ضمن سياسة أشمل جعلته أبعد عن الناس الذين يودّ اشتيه أن يقربهم مرة أخرى. لقد اختار اشتيه أن يرسم صورة مختلفة، وهي صورة سرعان ما ضجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي لمتفاعلين «هللوا» لرئيس الوزراء «الزاهد»، في حين لم يرَ آخرون فيما فعله شيئاً استثنائياً يُشكر عليه لأنه أمر طبيعي. أما البقية الباقية فراحت تشكك أو تتدارس الصورة «يا ترى كم مشى؟ وأين كانت الحراسات؟ ومن أين وإلى أين وماذا يريد؟».
لقد نجح الدكتور محمد اشتيه، رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد، في إثارة نقاش مهم في أول دقيقة بدأ فيه يومه الأول في مقر الماصيون الراقي في رام الله، وعلى الأغلب، هذا ما أراده بالضبط. لكن الرجل نفسه هو أفضل من يتحدث عن نفسه.

حدس الصحافي
يعرف اشتيه أن أمامه مهمات كثيرة معقدة: إعادة غزة، الوحدة الوطنية، الوضع المالي الصعب، بناء المؤسسات، مواجهة السياسات الإسرائيلية، وأشياء أخرى كثيرة معقدة، لكنه كان ذكياً حين قال إنه لا يملك عصا سحرية. إلا أن مسألة واحدة ركز عليها اشتيه بقوله: «الحكومة جاءت لخدمة الناس، والذهاب إليهم أينما كانوا». وأضاف: «هذه حكومة الكل الفلسطيني، وستكون مفتوحة للجميع، وسيتم تشكيل البرنامج بعد الاستماع لأولويات المواطنين». وتابع: «سنحمل المسؤولية لكل من هو في موقع المسؤولية». ثم تابع بشكل يكشف عن طريقة تفكيره: «كل شيء ليس له لزوم وكل ما يؤذي مشاعر الناس لن يكون موجوداً، ولا نريد المبالغة في شيء... نريد أن ندير البلاد بأقل تكلفة وبأفضل نجاعة»، مشيراً إلى أنه منتبه لمساعي إسرائيل «لتوسيع الفجوة بين القيادة وشعبنا».
وبشكل يترجم ما يفكر به اشتيه، فإنه كتب على «فيسبوك» بعد اختيار الوزراء وأدائهم اليمين الدستورية: «أجدد تمنياتي عليكم، أخواتي وإخواني، تجنب نشر التهاني المدفوعة بالصحف والمواقع الإلكترونية وغيرها، للوزراء الجدد أو لي بمناسبة أداء اليمين القانونية، والاستعاضة عنها بالتبرع للمؤسسات التي تخدم المحتاجين». وأردف: «دعونا نعزّز ثقافة يوقن فيها المسؤول أن واجبه يحتّم عليه خدمة المواطن، وتلمّس احتياجاته، والبقاء قريباً من نبض الشارع». ثم استطرد: «أحد أهداف الحكومة، هو إعادة الثقة بين الحكومة والمواطنين»، داعياً إلى تعزيز صمود الفلسطينيين في ظل الأزمات السياسية، والاقتصادية، والصحية، والتعليمية التي ستواجهها حكومته. إذن، جاء الرجل كي يكون قريباً من الناس، وهي مهمة يعرف أنها ستكون الأسهل من بين كل مهمات الحكومة الأخرى، في بلد منقسم ويعيش تحت الاحتلال. ربما كان هذا حدس الصحافي الذي سبق السياسي، فقد عمل اشتيه في مهنة المتاعب قبل أن يلج إلى مهنة فن الممكن.

بطاقة هوية
وُلد محمد إبراهيم اشتيه في قرية تل القريبة من مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية، عام 1958. وأنهى دراسته في القرية الصغيرة، ثم انتقل إلى جامعة بيرزيت ليحصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد وإدارة الأعمال عام 1976. فوراً انتقل بعدها إلى بريطانيا، حيث حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه في دراسات التنمية الاقتصادية من جامعة ساسكس، قبل أن يعود إلى الأراضي الفلسطينية في أواخر عام 1980. عمل اشتيه بعد عودته من بريطانيا محرراً في جريدة «الشعب» التي كانت تصدر في القدس وتموّلها منظمة التحرير الفلسطينية، ثم صار أستاذاً وعميداً في جامعة بيرزيت.
في بداية التسعينات شارك اشتيه في عضوية وفد منظمة التحرير إلى مفاوضات مدريد ومباحثات واشنطن والمفاوضات الاقتصادية مع إسرائيل. بعد أعوام طويلة تقلّد مناصب وزارية عدة، وترأس «المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار» (بكدار)، كما شغل رئاسة مجلس أمناء الجامعة العربية الأميركية، وعضوية مجالس أمناء جامعات القدس والنجاح والاستقلال.
كان محمد اشتيه أحد مؤسسي «المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار» (بكدار) عام 1994، الذي يعدّ المؤسسة الأولى على طريق تشكيل السياسات التنموية في فلسطين ووضع البناء الأساسي الذي تستطيع السلطة الفلسطينية من خلاله القيام بمسؤولياتها نحو دولة فلسطين المستقبلية. ثم تولى مهمة الإدارة العامة لهذه المؤسسة في بداية عام 1996 حين عيّنه الرئيس الراحل ياسر عرفات ليكون المدير العام، ولاحقاً أصبح رئيساً لـ«بكدار».
وفي مارس (آذار) 2002 شهد اشتيه إنشاء «نادي موناكو» الذي يرأسه الأمير رينيه، وأصبح عضواً فيه. وهذا النادي ذو الطابع غير الرسمي يضم أفراداً وشخصيات لها وزن سياسي في العالم. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2002 نال عضوية مؤسسة الإبداع العالمي World Innovation Foundation التي تركز على التعاون العالمي من خلال التعاون الاقتصادي العلمي، ومعظم أعضاء هذه المؤسسة من الحائزين جوائز نوبل.

مواقع سياسية
انتُخب محمد اشتيه عضواً في اللجنة المركزية لحركة «فتح» في عام 2009، وشارك في إطلاق مفاوضات الحل النهائي في واشنطن عام 2010، وقبل ذلك عام 2005 شغل منصب وزير للأشغال العامة والإسكان وبقي حتى 2009. وكان السكرتير العام للجنة الانتخابات الفلسطينية 1996 - 2004. وفي 2016 أُعيد انتخابه مرة ثانية في اللجنة المركزية للحركة. كذلك أسّس «المعهد الوطني لتكنولوجيا المعلومات» و«المعهد الوطني للإدارة» لتدريب كوادر السلطة وتحسين الأداء والمساهمة في عملية الإصلاح. كما شغل منصب محافظ البنك الإسلامي للتنمية عن فلسطين 2006.
ويصعُب حصر المواقع التي شغلها اشتيه، لكن من بينها: رئيس الوفد الفلسطيني للمفاوضات المتعددة حول التعاون الاقتصادي الإقليمي (التجارة، المالية، البنية التحتية، والسياحة)، ورئيس لجنة السياحة الإقليمية التي انبثق عنها وكالة شرق المتوسط للسياحة والسفر، رئيس المركز الفلسطيني للدراسات الإقليمية في البيرة - رام الله، وعضو لجنة توجيهية للجان الفنية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس 1993 – 2004، وعميد شؤون الطلبة في جامعة بيرزيت 1992 – 1994، ومؤسس وعضو في مجلس الإسكان الفلسطيني، وعضو في مجالس استشارية ووزارية ولجان ومجالس أمناء وصناديق ومناصب أخرى كثيرة.
وعلى غرار المواقع التي شغلها اشتيه حضر الكثير من المؤتمرات، وله مؤلفات عدّة، لكنها متخصّصة في القرى والجغرافيا والاقتصاد الفلسطيني. كما أنه حاصل على وسام الاستحقاق الوطني برتبة «فارس» مقدّم من الرئيس الفرنسي جاك شيراك في 31 مايو (أيار) 1997.

آراء حوله
وحول شخصية اشتيه، قال منير الجاغوب، رئيس المكتب الإعلامي لحركة «فتح»، باختصار، «إنه منا وفينا». وتابع: «أهم ما يميزه أنه لا يتغير. جاء من أسرة فقيرة وبقي يحمل همّ الفلسطينيين كلهم... رجل مقبول حتى لدى خصوم (فتح) السياسيين». وحقاً، لم يعرف عن اشتيه أنه دخل سابقاً في مناكفات مع فصائل فلسطينية. وحتى عندما رفضت فصائل فلسطينية المشاركة في حكومته، قال إنه سيسمع منهم لماذا، معتبراً أن هذا حقهم.
هذا التواضع هو الذي جعل الروائي بهاء رحّال يعلق على تسلم اشتيه منصبه بالقول: «جميل أن نكون مع رئيس وزراء جريء ومختلف، ولا تغريه طول المواكب وعرضها والبساط الأحمر والمرافقات، وغيرها». أما عضو المجلس الثوري لحركة «فتح» محمد اللحام فشبّه اشتيه بـ«فدائي»، موضحاً أنه «رغم معرفتي، والكثير من أبناء الطريق، بإمكاناتك وقدراتك ومهاراتك التي تؤهلك للقيادة وسط جموع المطبّات والصعاب والعراقيل، فإن قبولك بالتكليف هو فدائية كبيرة كما وصفها أخونا أبو جهاد العالول». في المقابل، علق إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» التي هاجمت الحكومة بشدة، بأنه كان يتمنى ألا يضع اشتيه نفسه في هذا الموقع.

تناقض مع غرينبلات
لكن جايسون غرينبلات، مبعوث الرئيس الأميركي لعملية السلام، دخل فوراً في مناكفة فورية مع اشتيه. إذ كتب غرينبلات عبر حسابه على موقع «تويتر» متسائلاً: «لماذا يأمل رئيس الوزراء الجديد للسلطة الفلسطينية أن تولد خطتنا ميتة، ولماذا يريد للسلام أن يفشل؟». وأردف: «من خلال العمل معنا، ربما يحدث شيء رائع للفلسطينيين... لقد قلنا مراراً وتكراراً أن هذا الخطة لن تكون سوى خطة اقتصادية». وتابع غرينبلات: «رئيس الوزراء اشتيه بدأ عمله الجديد بإدانة خطة لم يرها واعتبرها غير عادلة للفلسطينيين»، على حد تعبيره. ثم وجّه كلامه إلى اشتيه قائلاً: «عليك الاطلاع عليها أولاً قبل أن ترفضها. تستطيع السلطة الفلسطينية أن تواصل دفعنا بعيداً، لكن ذلك لن يحسّن شيئاً في حياة الفلسطينيين». وتجدر الإشارة إلى أن اشتيه كان قد وصف خطة السلام الأميركية المرتقبة بأنها «ولدت ميتة لأن إسرائيل تشن بالتعاون مع الولايات المتحدة حرباً اقتصادية على الفلسطينيين... وأن الفلسطينيين لن يكتفوا بأقل من دولة ذات سيادة». واستطرد: «في أعقاب كل التحركات الأميركية لصالح إسرائيل، خصوصاً نقل السفارة إلى القدس، لم يعد هناك شيء للتفاوض عليه». وتابع: «كل اقتراح يتجاهل المطالب الأساسية للفلسطينيين سيقابل بالرفض من قبل المجتمع الدولي... أين ستكون لنا دولة فلسطينية؟ نحن غير معنيين بكيان، نحن نريد دولة ذات سيادة».
وفي تطرّقه إلى التقارير بشأن خطة السلام الأميركية بأنها ترتكز على مبادرات اقتصادية للفلسطينيين، قال اشتيه: «الفلسطينيون لا يرغبون في سلام اقتصادي. نحن نريد إنهاء الاحتلال. لا يمكن العيش تحت الاحتلال». وأضاف أنه بالنسبة للرئيس الأميركي دونالد ترمب «لا يوجد شركاء..». وأردف رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد: إن «إسرائيل تشارك في حرب اقتصادية أعلنتها الولايات المتحدة علينا، النظام برمته يهدف إلى دفعنا للانصياع والموافقة على اتفاق سلام لا يتقبله العقل. الحديث يدور عن ابتزاز اقتصادي نحن نرفضه».
مواقف اشتيه هذه هي مواقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي يعتبر اشتيه واحداً من المقربين له حتى قبل تسلمه منصبه الجديد. ولقد وقع الاختيار على اشتيه، خصيصاً؛ لأنه «فتحاوي» أكاديمي اقتصادي سياسي، وهادئ جداً، ومنظم كذلك، وخبير مؤسسات، وأهم من ذلك أنه مقرّب للغاية من عباس، وعليه يعوّل «الفتحاويون» باستعادة الدور في قيادة مؤسسات الدولة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.