لم يختر رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد محمد اشتيه الذهاب إلى مكتبه في أول يوم عمل رسمي سيراً على الأقدام حباً في ممارسة هذا النوع من الرياضة، بل أراد بذكائه المعهود إرسال رسالة رئيسية من خلال صورة واحدة فقط «هذا عهد جديد». ولم يخفِ اشتيه أنه يشكل هذه المرة حكومة غير تقليدية أقرب للناس. وليس سراً أن سلفه رامي الحمد الله كان مبالغاً في الإجراءات الأمنية... حراس كثيرون ومواكب تسابق الريح... واحتياطات لم يتخذها أسلافه، ضمن سياسة أشمل جعلته أبعد عن الناس الذين يودّ اشتيه أن يقربهم مرة أخرى. لقد اختار اشتيه أن يرسم صورة مختلفة، وهي صورة سرعان ما ضجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي لمتفاعلين «هللوا» لرئيس الوزراء «الزاهد»، في حين لم يرَ آخرون فيما فعله شيئاً استثنائياً يُشكر عليه لأنه أمر طبيعي. أما البقية الباقية فراحت تشكك أو تتدارس الصورة «يا ترى كم مشى؟ وأين كانت الحراسات؟ ومن أين وإلى أين وماذا يريد؟».
لقد نجح الدكتور محمد اشتيه، رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد، في إثارة نقاش مهم في أول دقيقة بدأ فيه يومه الأول في مقر الماصيون الراقي في رام الله، وعلى الأغلب، هذا ما أراده بالضبط. لكن الرجل نفسه هو أفضل من يتحدث عن نفسه.
حدس الصحافي
يعرف اشتيه أن أمامه مهمات كثيرة معقدة: إعادة غزة، الوحدة الوطنية، الوضع المالي الصعب، بناء المؤسسات، مواجهة السياسات الإسرائيلية، وأشياء أخرى كثيرة معقدة، لكنه كان ذكياً حين قال إنه لا يملك عصا سحرية. إلا أن مسألة واحدة ركز عليها اشتيه بقوله: «الحكومة جاءت لخدمة الناس، والذهاب إليهم أينما كانوا». وأضاف: «هذه حكومة الكل الفلسطيني، وستكون مفتوحة للجميع، وسيتم تشكيل البرنامج بعد الاستماع لأولويات المواطنين». وتابع: «سنحمل المسؤولية لكل من هو في موقع المسؤولية». ثم تابع بشكل يكشف عن طريقة تفكيره: «كل شيء ليس له لزوم وكل ما يؤذي مشاعر الناس لن يكون موجوداً، ولا نريد المبالغة في شيء... نريد أن ندير البلاد بأقل تكلفة وبأفضل نجاعة»، مشيراً إلى أنه منتبه لمساعي إسرائيل «لتوسيع الفجوة بين القيادة وشعبنا».
وبشكل يترجم ما يفكر به اشتيه، فإنه كتب على «فيسبوك» بعد اختيار الوزراء وأدائهم اليمين الدستورية: «أجدد تمنياتي عليكم، أخواتي وإخواني، تجنب نشر التهاني المدفوعة بالصحف والمواقع الإلكترونية وغيرها، للوزراء الجدد أو لي بمناسبة أداء اليمين القانونية، والاستعاضة عنها بالتبرع للمؤسسات التي تخدم المحتاجين». وأردف: «دعونا نعزّز ثقافة يوقن فيها المسؤول أن واجبه يحتّم عليه خدمة المواطن، وتلمّس احتياجاته، والبقاء قريباً من نبض الشارع». ثم استطرد: «أحد أهداف الحكومة، هو إعادة الثقة بين الحكومة والمواطنين»، داعياً إلى تعزيز صمود الفلسطينيين في ظل الأزمات السياسية، والاقتصادية، والصحية، والتعليمية التي ستواجهها حكومته. إذن، جاء الرجل كي يكون قريباً من الناس، وهي مهمة يعرف أنها ستكون الأسهل من بين كل مهمات الحكومة الأخرى، في بلد منقسم ويعيش تحت الاحتلال. ربما كان هذا حدس الصحافي الذي سبق السياسي، فقد عمل اشتيه في مهنة المتاعب قبل أن يلج إلى مهنة فن الممكن.
بطاقة هوية
وُلد محمد إبراهيم اشتيه في قرية تل القريبة من مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية، عام 1958. وأنهى دراسته في القرية الصغيرة، ثم انتقل إلى جامعة بيرزيت ليحصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد وإدارة الأعمال عام 1976. فوراً انتقل بعدها إلى بريطانيا، حيث حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراه في دراسات التنمية الاقتصادية من جامعة ساسكس، قبل أن يعود إلى الأراضي الفلسطينية في أواخر عام 1980. عمل اشتيه بعد عودته من بريطانيا محرراً في جريدة «الشعب» التي كانت تصدر في القدس وتموّلها منظمة التحرير الفلسطينية، ثم صار أستاذاً وعميداً في جامعة بيرزيت.
في بداية التسعينات شارك اشتيه في عضوية وفد منظمة التحرير إلى مفاوضات مدريد ومباحثات واشنطن والمفاوضات الاقتصادية مع إسرائيل. بعد أعوام طويلة تقلّد مناصب وزارية عدة، وترأس «المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار» (بكدار)، كما شغل رئاسة مجلس أمناء الجامعة العربية الأميركية، وعضوية مجالس أمناء جامعات القدس والنجاح والاستقلال.
كان محمد اشتيه أحد مؤسسي «المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار» (بكدار) عام 1994، الذي يعدّ المؤسسة الأولى على طريق تشكيل السياسات التنموية في فلسطين ووضع البناء الأساسي الذي تستطيع السلطة الفلسطينية من خلاله القيام بمسؤولياتها نحو دولة فلسطين المستقبلية. ثم تولى مهمة الإدارة العامة لهذه المؤسسة في بداية عام 1996 حين عيّنه الرئيس الراحل ياسر عرفات ليكون المدير العام، ولاحقاً أصبح رئيساً لـ«بكدار».
وفي مارس (آذار) 2002 شهد اشتيه إنشاء «نادي موناكو» الذي يرأسه الأمير رينيه، وأصبح عضواً فيه. وهذا النادي ذو الطابع غير الرسمي يضم أفراداً وشخصيات لها وزن سياسي في العالم. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2002 نال عضوية مؤسسة الإبداع العالمي World Innovation Foundation التي تركز على التعاون العالمي من خلال التعاون الاقتصادي العلمي، ومعظم أعضاء هذه المؤسسة من الحائزين جوائز نوبل.
مواقع سياسية
انتُخب محمد اشتيه عضواً في اللجنة المركزية لحركة «فتح» في عام 2009، وشارك في إطلاق مفاوضات الحل النهائي في واشنطن عام 2010، وقبل ذلك عام 2005 شغل منصب وزير للأشغال العامة والإسكان وبقي حتى 2009. وكان السكرتير العام للجنة الانتخابات الفلسطينية 1996 - 2004. وفي 2016 أُعيد انتخابه مرة ثانية في اللجنة المركزية للحركة. كذلك أسّس «المعهد الوطني لتكنولوجيا المعلومات» و«المعهد الوطني للإدارة» لتدريب كوادر السلطة وتحسين الأداء والمساهمة في عملية الإصلاح. كما شغل منصب محافظ البنك الإسلامي للتنمية عن فلسطين 2006.
ويصعُب حصر المواقع التي شغلها اشتيه، لكن من بينها: رئيس الوفد الفلسطيني للمفاوضات المتعددة حول التعاون الاقتصادي الإقليمي (التجارة، المالية، البنية التحتية، والسياحة)، ورئيس لجنة السياحة الإقليمية التي انبثق عنها وكالة شرق المتوسط للسياحة والسفر، رئيس المركز الفلسطيني للدراسات الإقليمية في البيرة - رام الله، وعضو لجنة توجيهية للجان الفنية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس 1993 – 2004، وعميد شؤون الطلبة في جامعة بيرزيت 1992 – 1994، ومؤسس وعضو في مجلس الإسكان الفلسطيني، وعضو في مجالس استشارية ووزارية ولجان ومجالس أمناء وصناديق ومناصب أخرى كثيرة.
وعلى غرار المواقع التي شغلها اشتيه حضر الكثير من المؤتمرات، وله مؤلفات عدّة، لكنها متخصّصة في القرى والجغرافيا والاقتصاد الفلسطيني. كما أنه حاصل على وسام الاستحقاق الوطني برتبة «فارس» مقدّم من الرئيس الفرنسي جاك شيراك في 31 مايو (أيار) 1997.
آراء حوله
وحول شخصية اشتيه، قال منير الجاغوب، رئيس المكتب الإعلامي لحركة «فتح»، باختصار، «إنه منا وفينا». وتابع: «أهم ما يميزه أنه لا يتغير. جاء من أسرة فقيرة وبقي يحمل همّ الفلسطينيين كلهم... رجل مقبول حتى لدى خصوم (فتح) السياسيين». وحقاً، لم يعرف عن اشتيه أنه دخل سابقاً في مناكفات مع فصائل فلسطينية. وحتى عندما رفضت فصائل فلسطينية المشاركة في حكومته، قال إنه سيسمع منهم لماذا، معتبراً أن هذا حقهم.
هذا التواضع هو الذي جعل الروائي بهاء رحّال يعلق على تسلم اشتيه منصبه بالقول: «جميل أن نكون مع رئيس وزراء جريء ومختلف، ولا تغريه طول المواكب وعرضها والبساط الأحمر والمرافقات، وغيرها». أما عضو المجلس الثوري لحركة «فتح» محمد اللحام فشبّه اشتيه بـ«فدائي»، موضحاً أنه «رغم معرفتي، والكثير من أبناء الطريق، بإمكاناتك وقدراتك ومهاراتك التي تؤهلك للقيادة وسط جموع المطبّات والصعاب والعراقيل، فإن قبولك بالتكليف هو فدائية كبيرة كما وصفها أخونا أبو جهاد العالول». في المقابل، علق إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» التي هاجمت الحكومة بشدة، بأنه كان يتمنى ألا يضع اشتيه نفسه في هذا الموقع.
تناقض مع غرينبلات
لكن جايسون غرينبلات، مبعوث الرئيس الأميركي لعملية السلام، دخل فوراً في مناكفة فورية مع اشتيه. إذ كتب غرينبلات عبر حسابه على موقع «تويتر» متسائلاً: «لماذا يأمل رئيس الوزراء الجديد للسلطة الفلسطينية أن تولد خطتنا ميتة، ولماذا يريد للسلام أن يفشل؟». وأردف: «من خلال العمل معنا، ربما يحدث شيء رائع للفلسطينيين... لقد قلنا مراراً وتكراراً أن هذا الخطة لن تكون سوى خطة اقتصادية». وتابع غرينبلات: «رئيس الوزراء اشتيه بدأ عمله الجديد بإدانة خطة لم يرها واعتبرها غير عادلة للفلسطينيين»، على حد تعبيره. ثم وجّه كلامه إلى اشتيه قائلاً: «عليك الاطلاع عليها أولاً قبل أن ترفضها. تستطيع السلطة الفلسطينية أن تواصل دفعنا بعيداً، لكن ذلك لن يحسّن شيئاً في حياة الفلسطينيين». وتجدر الإشارة إلى أن اشتيه كان قد وصف خطة السلام الأميركية المرتقبة بأنها «ولدت ميتة لأن إسرائيل تشن بالتعاون مع الولايات المتحدة حرباً اقتصادية على الفلسطينيين... وأن الفلسطينيين لن يكتفوا بأقل من دولة ذات سيادة». واستطرد: «في أعقاب كل التحركات الأميركية لصالح إسرائيل، خصوصاً نقل السفارة إلى القدس، لم يعد هناك شيء للتفاوض عليه». وتابع: «كل اقتراح يتجاهل المطالب الأساسية للفلسطينيين سيقابل بالرفض من قبل المجتمع الدولي... أين ستكون لنا دولة فلسطينية؟ نحن غير معنيين بكيان، نحن نريد دولة ذات سيادة».
وفي تطرّقه إلى التقارير بشأن خطة السلام الأميركية بأنها ترتكز على مبادرات اقتصادية للفلسطينيين، قال اشتيه: «الفلسطينيون لا يرغبون في سلام اقتصادي. نحن نريد إنهاء الاحتلال. لا يمكن العيش تحت الاحتلال». وأضاف أنه بالنسبة للرئيس الأميركي دونالد ترمب «لا يوجد شركاء..». وأردف رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد: إن «إسرائيل تشارك في حرب اقتصادية أعلنتها الولايات المتحدة علينا، النظام برمته يهدف إلى دفعنا للانصياع والموافقة على اتفاق سلام لا يتقبله العقل. الحديث يدور عن ابتزاز اقتصادي نحن نرفضه».
مواقف اشتيه هذه هي مواقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي يعتبر اشتيه واحداً من المقربين له حتى قبل تسلمه منصبه الجديد. ولقد وقع الاختيار على اشتيه، خصيصاً؛ لأنه «فتحاوي» أكاديمي اقتصادي سياسي، وهادئ جداً، ومنظم كذلك، وخبير مؤسسات، وأهم من ذلك أنه مقرّب للغاية من عباس، وعليه يعوّل «الفتحاويون» باستعادة الدور في قيادة مؤسسات الدولة.