طري القوام، ذهبي اللون، حلو المذاق، هكذا تقول الصور عن خبز راوية الغفيلي التي طبخت لسنوات بمتعة لكن حين وقعت في حب المخبوزات، إذا به عالم آخر.
وأنت تتحدث مع هذه الفتاة السعودية تشعر أنه بودك أخذ رشفة تلو أخرى من لاتيه الزعفران والعسل أو لاتيه الورد أو لاتيه اللافندر والليلك الذي تعده من جزر بنفسجي اللون. إنها مشروبات من أبسط ما جربته في مطبخها.
قبل سبع سنوات أنشأت مدونتها لتشارك متابعيها كل وصفة من مراحل فشلها الأولى إلى أن صارت تتقنها، كي تمنحهم جرأة التجريب.
مضت أعوام على تخرجها في الجامعة، عملت بعدها في إحدى الشركات ثم استقالت منها لتتفرغ لعملها الجديد في تطوير أطباق المطاعم، والتصوير أحياناً أخرى.
تستهلّ حديثها مع «الشرق الأوسط» بابتسامة ناعمة لتقول: «كل ما أنا بحاجة إليه هو الصبر، استمر بالتجريب حتى أصل إلى أفضل نتيجة، كان أول دخول لي للمطبخ في سن الثالثة عشرة حين أعددت إكلير الفانيلا والشوكولاته، ما زال شكله وطعمه ورائحته عالقة في ذهني، ولا أنسى إطراء والدتي، حفظها الله، وأخواتي».
راوية التي لم تكن صبورة من قبل كما هي الآن، تعدّ طعامها من ألفه إلى يائه، وتتساءل بلهجتها الخليجية: «وش أحلى من أنكم تكونون مِسوين كل الأشياء بأنفسكم»، ومائدتها تشهد حيث تحتفي بجبنة فيتا متبلّة بالفلفل المدخن والنعناع المجفف، وإلى جانبها سلةّ من الخبز المشكّل.
لقد فُتحت لها هذه المدونة آفاق جديدة حين سافرت واطلعت ثم غمست يديها في الدقيق، وجعلت متابعيها يسمعون بأنواع لم يعرفوا عنها من قبل، مثل خبز الكستناء مع اللبنة والطحينية والفستق والعسل، وقد تضيف مكونات غير مألوفة إلى الخبز، مثل الكراوية، فتجعلُ طعمَه «مرّة لذيذ» بالتعبير السعودي، فيما فطنت إلى سر وصفة خبز «الكانلي» الذي يُعد من المخبوزات الكلاسيكية الفرنسية ويتوجب خَبزه بقوالب من نحاس.
وتخبرنا عن سبب ميلها إلى المخبوزات بأنواعها بالقول: «إنها تثير بي الشعور بالتحدي أثناء لهوي بها، إذ تحتاج إلى الكثير من الدقة والصبر والانتظار وفي نهاية المطاف يحصل المرء على متعته حين يراها قد خرجت بشكل متقن».
في أسفارها تحرص على زيارة المخابز، وبحسب ما تقول، فإنها تبحث مطولاً قبل أي رحلة عن المميز منها، موضحة: «لكل منها مذاقات وطرق معينة في الإعداد، أجد في اختلاف المكونات واستخدامها طرقاً جديدة عما عهدناه، ما يوسع مداركي ويجدد أفكاري».
سألناها عن الدول التي يخفق الفؤاد لخُبزها، فأبدت في حديثها كل لهفة وحماس: «في لندن تجتمع المخابز من كل أنحاء العالم، وهذا التنوع يعجبني، لاحظتُ أن المخابز الألمانية تختلف عن السويدية وعن الشرق آسيوية، في فرنسا مثلاً أحب أن أجرّب خبز الباجيت في أكثر من مخبز ليتسنى لي اكتشاف الفروق بينها، أحب أيضاً تذوُّق بعض المخبوزات التي يصعب العثور عليها خارج فرنسا».
- عن إغراء لا يُقاوم
ألا يقال إن الغزل عند المرأة هو خُبز القلب، لكن ثمة أنواعاً من الخبز يليق بها أن تُوضَع في خانة عاطفية حين تنضج برعاية قلب من طراز راوية، تحكي لنا عن كل نوع تحبه وكأنه قطعة منها: «يستهويني خبز البريوش وتنوعه اللامحدود في أشكاله وطرق إعداده، لذا يتطلب صبراً أثناء العجن والتبريد ويستلزم دقة بالتشكيل، ولا أقاوم إغراء خبز ساوردو بالملح المدخن، أما خبز الفوقاس بنكهاته وهيئته التي ترتسم كأوراق الشجر فله فتنة خاصة، ولا أنسى خبز الإيبي حين يتشكّل كسنابل القمح، والباجيت بقشرته اللذيذة ولبّه الطري».
تعلنها بشكل صريح: «لا أسمح بنقل وصفاتي وصوري»، فقد تعرضَتْ كثيراً لسرقة أعمالها، هي التي ساورها الخوف حين تركت وظيفتها لكن صوتاً من الداخل كان يحثها: «اتبعي قلبك، أنت تعرفين تماماً ما تريدين وستنجحين».
هذا المدونة نكهت حياتها ومكّنتها من إسعاد الآخرين بتقديم المساعدة لهم عبر وصفاتها، وتخبرنا بالمزيد: «لقد أنعشَتْ المدونة رصيدي المعرفي، فعندما أقرأ عن الوصفات المختلفة وتاريخها أتعرف على البلدان وعاداتهم المختلفة، وأطلع على أسرار ممتعة. وانتفاع المتابعين بالوصفات تسبّب في إقبال متزايد على المدونة، مما منحني نَفَساً طويلاً لتطويرها على مدار سنوات».
أضفَتْ راوية بعضاً من لمساتها إلى أطباق مطاعم في بلادها، بأناقة أسلوبها الذي يظهر جلياً في أعمالها. تروي لـ«الشرق الأوسط»: «مزجتُ بين مطابخ ومكونات مختلفة، وتفننتُ في أطباق الفطور مثل البيض بيندكت، وهو واحد من أشهر أطباق البيض في وجبة الإفطار بأميركا، وهناك الفرنش توست والكروك مدام، ناهيك بكثير من الحلويات مثل كعكة التمر والميل فاي» وأول كلمتين من النتيجة: «الريحة تجنن».
ومضت قدماً بفضل جرأتها، لا سيما في وصفات الباستا الطازجة التي قدمَتْها بألوان وزخارف مختلفة معتمدة في ذلك على الملونات الطبيعية من خضار وفاكهة.
- تدفق الإلهام من مدونة طعام اسمها Call me cupcake
لقد حرّضتها المدونة بشكلٍ جميل على إنشاء مدونتها التي حصدت زيارات وتعليقات تثنى على المحتوى منذ الشهور الأولى من انطلاقها، وتلقت التشجيع من طهاة محترفين، وفقاً لقولها.
وفي جولة خاطفة بين أروقة المدونة نجدها بالتوت وماء الورد تحضّر «كيك البابا» بعد أن جذبها لونه الأحمر حين زارت فرنسا ذات مرة لكنها لم تجربه يومها لاحتوائه على كحول.
ومن اليونان تقدم لنا باستيلي التي تشبه السمسمية على أوراق من شجر الليمون، فهذه الحركة الصغيرة تصنع للباستيلي شخصية، ولا تكف عن فتح شهيتنا بحلويات من تركيا والهند وباكستان وبنغلاديش والأرجنتين وإيطاليا وغيرها. تعقّب على ذلك: «أحاول تجريب أنواع من المخبوزات حول العالم لم أعرفها من قبل». وبأداء لطيف تكسر رتابة الشكل المعهود لكرواسون الشوكولاته مستلهمة الفكرة من أحد المخابز في نيويورك، مشيرةً إلى أنها تجرِّب الكثير من الوصفات للطبق نفسه مما يرتقي بأدائها ويجعلها تختبر طرقاً أسهل وأسرع.
- جودة المكونات
من أبهج لحظاتها حين تشمّر عن ساعديها وتحضّر الأطباق المفضلة لعائلتها، فتختار بعناية أجود المكونات، وتتجنَّب الملوّنات والمواد المصنعة، ذلك أن راوية الغفيلي لا يصيبها اليأس ولا يهمها الجهد والوقت أثناء محاولاتها المضنية للوصول طبق صحي وبمذاق مُرضٍ.
وحول السبب الذي يجعل لمدونتها نسبة مشاهدات عالية، توضح: «مدوَّنتي بفضل الله تُعد من أوائل المدونات العربية اللي تهتمّ بأدق التفاصيل، بدءاً من تاريخ الوصفات وما تحمله من قصص، مروراً بالصور ذات الجودة العالية التي تعطي انطباعاً واضحاً عن الشكل النهائي، وليس انتهاءً بالشرح الدقيق لكيفية تنفيذ الوصفات بالشكل الصحيح».
تبث روح الثقة في المتصفحين بقولها: «ممكن تسوون بالبيت أشياء ألذ من اللي تشترونها جاهزة، مو شرط يكون عندكم خبرة حتى تسوون أشياء لذيذة المهم يكون عندكم حب وحماس للي تسوونه والأهم ثقة بأنفسكم وقدراتكم». وبنهم تتابع راوية الطهاة المهرة للاستفادة من خبراتهم ومستجداتهم في هذا الحقل، قائلة: «هدفي أن أستمر في التعلم لا أن أنقل الوصفات وحسب، أرغب في أمتلك الخبرة التي تؤهلني لأن أضيف شيئاً للآخرين».
«متى تصفقّين لنفسك بفرح؟»... تتوارى ضحكة خلف الجواب: «عندما أطبّق وصفة وتصبح في الشكل والطعم ألذ مما تذوقته على أيدي طهاة بارزين».
يرتاح ضميرها عندما تكون كل صورة تلتقطها مطابقة لحقيقة الطبق تماماً كما تراه أمامها، وبذلك تخلو صورها اللافتة من أي خدعة بصرية.
وتبدي اهتماماً بهذه النقطة، موضحة: «أمنح أولوية لجودة الأكل ولذّته قبل أي اعتبار آخر، وأكره كل وصفة تبرز الشكل الجميل بينما المذاق لا شيء يُذكر. إن الصور لا تعدو محاولة لإعطاء المُشاهد تصور عن الطبق وتشعل به الحماس لتنفيذه». فبعد ممارسة طويلة أصبحَتْ تجيد تصوير الطعام لتدخل في مرحلة تصوير منتجات دعائية بشكل إبداعي، وبحسب ما تخبرنا فإن كلّ ما لديها أشعة شمس وكاميرا وترتيب لعناصر الطبق وأجوائه، لكن عندما يتعلق الأمر بمنتجات الطعام، فإنه يتعين عليها بذل جهد أكبر كي تبرزها وفق معايير محددة.
حين تُسأل شابة مثلها عما تتمناه، فإن ورد البترفلاي بي الأزرق، الذي به تلّون عصير الليمون، سيبتسم أمام جوابها القائل: «أتطلع لافتتاح مخبزي الخاص، آملةً أن أعتمد فيه على الخميرة الطبيعية. إنه حلم أدعو الله أن يتحقق».