زحمة السير الخانقة على الطرقات الرئيسية لم تكن توحي بأن هناك أي شيء غير طبيعي يحدث في العاصمة الجزائرية. يوم عادي كبقية أيام الأسبوع. الموظفون يهرعون إلى مراكز أعمالهم. التلاميذ والطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم. عمال النظافة يقومون بأعمالهم. شرطيون يقفون عند حواجزهم، المنتشرة في أنحاء العاصمة منذ سنوات، وهم ينظمون حركة السير ويحررون أحياناً محاضر في حق المخالفين.
لكن هذا اليوم العادي في حياة الجزائريين يخفي في الواقع قلقاً لدى كثيرين منهم حول مستقبل بلدهم، في ظل أزمة سياسية مستفحلة مرتبطة بمطالب الحراك الشعبي، الذي تشهده الجزائر منذ فبراير (شباط) الماضي. ورغم أن هذا الحراك بدأ بالمطالبة بعدم ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة (ولاية) خامسة، إلا أنه بات يصر اليوم، ليس فقط على تنحيه عن السلطة، بل على «رحيل» نظامه، وهو مطلب «مطاط» لا يبدو أن الحراك الشعبي نفسه يتفق على رأي حول من يجب أن يشمله تحديداً من أركان السلطة.
وسيكون يوم الجمعة محطة أساسية بلا شك في قياس طريقة التعاطي الشعبي مع القرارات الأخيرة، الصادرة عن الرئاسة، بما في ذلك التعهد بأن بوتفليقة سيتنحى قبل انتهاء العهدة الرابعة في 28 من أبريل (نيسان) الجاري. ويلبي هذا التعهد، إلى حد كبير، جزءاً أساسياً من مطلب الشارع، الذي أرغم بوتفليقة في البداية على عدم الترشح للعهدة الخامسة، قبل أن يعلن الموافقة على التنحي قبل نهاية هذا الشهر. وكان جزء من الحراك يخشى أنه يريد تمديد العهدة الرابعة على أساس أنه لم يحدد موعداً لمغادرة قصر المرادية، عقب إعلانه عدم الترشح للخامسة، وإلغاء الانتخابات الرئاسية، التي كانت مقررة هذا الشهر. وليس واضحاً حتى الآن هل سيتراجع حجم الحراك يوم الجمعة، وهو يوم اعتاد المحتجون، بطريقة سلمية، على «استعراض عضلاتهم» فيه من كل أسبوع منذ فبراير الماضي. وإذا ما تراجعت الحشود فإن ذلك سيعني أن خطوات الرئاسة لبت مطالب شريحة من المحتجين على الأقل. لكن تعيين الرئاسة وزير الداخلية السابق نور الدين بدوي على رأس الحكومة الجديدة لن يرضي بلا شك شريحة من المحتجين، الذين يعتبرونه جزءاً من نظام يريدون رحيله.
وبرز في الأيام الأخيرة اختلاف داخل أطراف الحكم في شأن طريقة التعاطي مع مطالب الشارع. وتجسد ذلك من خلال الدور المتعاظم للجيش، ودفعه الرئاسة إلى القبول بتنحي بوتفليقة، أو اللجوء إلى تفعيل المادة 102 من الدستور، التي تتحدث عن شغور منصب الرئيس بسبب العجز عن أداء مهامه. لكن المجلس الدستوري، المنوط به دستورياً دعوة مجلسي البرلمان إلى التصويت على «الشغور»، لم يجتمع حتى الآن للبت في طلب الجيش، ما يرجّح أن الخيار استقر على تنحي الرئيس، وإطلاق مرحلة انتقالية، ليس واضحاً كم ستدوم، ولا من سيديرها.
والظاهر أن ضغوط الجيش، ممثلاً بقائد الأركان نائب وزير الدفاع الفريق أحمد قائد صالح، أدت إلى فتور في العلاقة القوية سابقاً مع الرئاسة. وما زاد الطن بلة أن الطاقم المحيط ببوتفليقة، وتحديداً شقيقه السعيد، بات يشعر بأنه مستهدف من خلال ملاحقة مجموعة من كبار رجال الأعمال النافذين المرتبطين به، والذين يشتبه في أنهم راكموا ثروات ضخمة بسبب قربهم من الرئاسة. وجاء استهداف هؤلاء الأثرياء بأمر من قيادة أركان الجيش، التي قالت إن ملاحقتهم تلبي مطالب المحتجين، الذين يشتكون من وجود فساد في السلطة. لكن هذه الملاحقات تزامنت مع نشر وسائل إعلام محلية تقارير عن لقاءات جمعت السعيد بوتفليقة مع مسؤولين كبار حاليين وسابقين في جهاز المخابرات، الأمر الذي أطلق تكهنات بأن الرئاسة ربما تكون تحاول الاستعانة بالمخابرات في مواجهة قيادة الأركان.
وأمس أصدر الرئيس السابق اليمين زورال بياناً أكد فيه أنه اجتمع بالرئيس السابق لجهاز المخابرات اللواء محمد مدين (توفيق)، بناء على طلب الأخير لمناقشة «اقتراحات»، نقلها إليه لقيادة مرحلة انتقالية، بناء على اتفاق مع السعيد بوتفليقة، مضيفاً أنه رفض العرض. وأصدر «توفيق» بدوره بياناً رد فيه على مزاعم بخصوص لقاءاته، نافياً تحديداً أن يكون قد اجتمع بمسؤولين أمنين فرنسيين، تردد أنهم شاركوا في تلك اللقاءات.
وقاد «توفيق» لسنوات طويلة جهازاً استخباراتياً، مثّل أحد «أضلاع» السلطة في الجزائر، إلى جانب الرئاسة وقيادة أركان الجيش. وكان لافتاً في هذا الإطار أن بياناً وزّع باسم مسؤول في الرئاسة أعلن عن تنحية قائد صالح من منصبه، وهو أمر نفته قيادة الجيش ومسؤول الرئاسة نفسه. لكن اللغط الذي أثاره البيان المزور أشار بوضوح إلى أن هناك من يحاول اللعب على وتر خلافات متوهمة أو حقيقية، بين أركان الحكم الجزائري.
الجزائر: يوم «عادي» يخفي قلقاً على المستقبل
الجزائر: يوم «عادي» يخفي قلقاً على المستقبل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة