مرة أخرى يتجدد موعد تركيا مع الانتخابات، عندما يتوجه أكثر من 57 مليون ناخب إلى صناديق الاقتراع في 31 مارس (آذار) الحالي لاختيار رؤساء البلديات والمدن والأحياء والقرى في الانتخابات المحلية التي يخوضها نحو نصف مليون مرشح من 13 حزباً سياسياً. وتختلف هذه الانتخابات عن سابقاتها، من جوانب عدة، أهمها أنها الأولى بعد إتمام انتقال تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المبكرة التي أجريت في 24 يونيو (حزيران) 2018 على أساس التعديلات الدستورية التي أُقرت في الاستفتاء على تعديل الدستور في 16 أبريل (نيسان) 2016.
كذلك تجري هذه الانتخابات في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة تمرّ بها تركيا تركت مؤشراتها بصمات قوية على الحياة اليومية للمواطن التركي، لا سيما مع تراجع الليرة التركية والقفزة الضخمة لمعدل التضخم إلى حدود 20 في المائة، وتباطؤ الاقتصاد وارتفاع البطالة إلى أكثر من 12 في المائة، مع موجة إفلاس تضرب الشركات الكبرى التي لم تعد قادرة على الاستمرار في ظل الأوضاع الاقتصادية الضاغطة.
ترى المعارضة التركية في الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا والارتفاع الجنوني في أسعار السلع الرئيسية، خصوصاً الخضراوات والفواكه والمواد الغذائية بشكل عام، وكذلك حالة الركود التي يعانيها الاقتصاد، فرصة مواتية للضغط على حزب العدالة والتنمية الحاكم ورئيسه، الرئيس رجب طيب إردوغان. أما إردوغان فيرغب في أن تكون الانتخابات المحلية خطوة أخرى على طريق تثبيت أركان نظام حكمه الجديد في ظل النظام الرئاسي الذي كفل له صلاحيات شبه مطلقة.
- الوضع الاقتصادي
وبدا من خلال متابعة سير الحملات الانتخابية أن الوضع الاقتصادي يحتل مقدمة جدول أعمال الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة. ويحاول كمال كليتشدار أوغلو، رئيس حزب «الشعب الجمهوري» (أكبر أحزاب المعارضة)، وحليفته في الانتخابات ميرال أكشنار رئيسة حزب «الجيد»، اللذان يخوض حزباهما الانتخابات تحت مظلة «تحالف الأمة» استغلال الأزمة الاقتصادية في الضغط على «تحالف الشعب» المكون من حزبي «العدالة والتنمية» الحاكم و«الحركة القومية». وسلاح «تحالف الأمة» يتمثّل في التركيز على عجز الحكومة عن إدارة الأزمة إلى الحد الذي دفعها إلى طرح الخضراوات والفواكه في منافذ بيع حكومية بأسعار مخفّضة، بعدما كانت الحكومة تتحدث عن مشروعات عملاقة.
حزب «العدالة والتنمية» الحاكم يسعى إلى تأمين الفوز بنسبة أكثر من 50 في المائة من المقاعد، من أجل تحقيق هدف إردوغان بتأسيس «تركيا الجديدة» مع حلول عام 2023، الذي يوافق الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك.
ولقد استشعر إردوغان الضغط الشديد من جانب المعارضة بعد النجاحات التي تحققت لها خلال الاستفتاء على تعديل الدستور في 2017، ثم في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المبكرة في يونيو 2018. وهي نجاحات دفعتها لمواصلة الضغط على حزبه في الانتخابات المحلية، التي يُنظَر إليها في تركيا على أنها المؤشر على نتائج الانتخابات البرلمانية التي ستليها، لأنها تهيئ الأرضية لمن يفوز بهذه الانتخابات فيما بعد.
- منافسة شرسة
انطلاقاً من استشعار خطورة الموقف في هذه الانتخابات، قرّر إردوغان الدفع بأسماء بارزة في بلديات المدن الكبرى الثلاث المهمة، حيث هددته فيها المعارضة في الاستفتاء على تعديل الدستور والانتخابات البرلمانية، وهي إسطنبول وأنقرة وإزمير. ولذا، اختار بن علي يلدريم، آخر رئيس للوزراء قبل النظام الرئاسي، والحليف الذي كان يتولى منصب رئيس البرلمان بعد إلغاء منصب رئيس الوزراء، للترشح على مقعد رئيس بلدية إسطنبول، قائلا إنه يختار «رفيق دربه» لخوض هذه المعركة.
أيضاً دفع إردوغان باثنين من الوزراء في حكومته السابقة، هما محمد أوزهسكي، وزير البيئة السابق، للترشح لمنصب رئيس بلدية العاصمة أنقرة، ونهاد زيبكجي وزير الاقتصاد السابق، لرئاسة بلدية إزمير.
ولئن كانت التوقّعات تشير إلى فوز مريح ليلدريم في إسطنبول، فإن استطلاعات الرأي تظهر تقدّم مرشح حزب الشعب الجمهوري منصور ياواش على مرشح العدالة والتنمية أوزهسكي في أنقرة، وأن المعركة بينهما لن تكون سهلة على الإطلاق. وفي الأيام الأخيرة سلطت وسائل الإعلام، التي بات 95 في المائة منها تقريباً موالياً لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم، الضوء بكثافة على قضية تزوير قيل إن ياواش لعب دوراً فيها. وردّ حزب «الشعب الجمهوري» متّهماً الإعلام الموالي للحكومة بأنه يحاول بشتى السبل تلطيخ سمعة ياواش بعدما أظهرت استطلاعات الرأي تفوّقه على مرشح «العدالة والتنمية».
الرئيس إردوغان عمد من جانبه إلى التقليل من أهمية هذه الاستطلاعات، عندما قال في أحد لقاءاته التلفزيونية المتعدّدة في إطار الحملة الانتخابية، إنه لم يعد يثق بنتائج استطلاعات الرأي. وهو ما دفع رئيس حزب الشعب الجمهوري كليتشدار أوغلو إلى السخرية من هذا التصريح، لأن المعروف أن إردوغان كان يعوّل كثيراً من قبل على استطلاعات الرأي حيث يجري حزب العدالة والتنمية الحاكم استطلاعات دورية مكثفة، كما يكلف شركات متخصّصة بإجراء استطلاعات للوقوف على فرص فوزه في الانتخابات، فضلاً عن أن استطلاعات الرأي هي إحدى الآليات المهمة في الدول الديمقراطية.
في المقابل، تعمل المعارضة على «خلخلة» القاعدة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية، بعدما تسبب ظهور حزب «الجيد» بزعامة ميرال أكشنار - الملقبة في تركيا بـ«المرأة الحديدية» - خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة في استقطاع نسبة من ناخبي العدالة والتنمية والحركة القومية.
ويأمل حزب أكشنار بأن يتمكّن من دخول البرلمان، بالتعاون حزب الشعب الجمهوري، وليقررا الاستمرار في «تحالف الأمة» في الانتخابات المحلية مثلما فعل العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية في «تحالف الشعب»، وهو ما اعتبره مراقبون خطوة اضطرارية في ظل استمرار تآكل شعبية العدالة والتنمية منذ عام 2015.
من جهة ثانية، يحظى «تحالف الأمة» المعارض بدعم حزب السعادة الإسلامي، كما يقف في صف المعارضة حزب «الشعوب» الديمقراطي الموالي للأكراد. ويعمل حزب الشعب الجمهوري المعارض من خلال تحالفه مع حزب «الجيد» على بناء جبهة انتخابية قوية تستطيع مواجهة العدالة والتنمية، وكسر سلسلة الانتصارات التي يحققها الحزب منذ تأسيسه عام 2002.
والجدير بالذكر، أن الانتخابات المحلية لها أهمية كبيرة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، إذ تعقبها فترة طويلة تمتد إلى 4 سنوات خالية من الانتخابات، وستكون هذه فترة استقرار من شأنها منح الفرصة لالتقاط الأنفاس بعد نحو 4 سنوات انتخابية بامتياز. هذا الأمر قد ينعكس بشكل إيجابي على الاقتصاد المأزوم، لا سيما على صعيد الاستثمار الأجنبي. وفضلاً عن ذلك، فإن حصول «العدالة والتنمية» على الأغلبية في الانتخابات المحلية سيساعد النظام الرئاسي الجديد بقيادة إردوغان على تنفيذ سياساته وبرامجه بسهولة.
- وقت التغيير
يعتبر مراقبون أنه لا يمكن القول بارتياح - بعكس ما كان معتاداً من قبل - إن نتيجة الانتخابات محسومة لصالح «العدالة والتنمية» اعتماداً على رصيده من الخدمات في البلديات والأحياء، لأن هناك عاملاً آخر يبقى قائماً في كل انتخابات في تركيا، وهو التصويت للأحزاب على أساس المبادئ. وفي الوقت نفسه، تسعى المعارضة التركية جاهدة لإقناع الناخب بأن «وقت التغيير قد حان» بعد 16 سنة من احتكار «العدالة والتنمية» للسلطة. وبالفعل كان هذا الحزب الإسلامي قد فاز في كل المناسبات الانتخابية التي خاضها في مواجهة المعارضة، وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، وهو ما دفع ميرال أكشنار، رئيسة حزب «الجيد»، إلى دعوة الناخبين «للتصويت بحرية، لأن تركيا أصبح فيها بديل للحزب الحاكم الآن».
أكثر من هذا، فكرة ضرورة التغيير لم تعد مطروحة من جانب المعارضة وحدها، بل نبعت أيضاً من داخل حزب العدالة والتنمية نفسه. وتصاعدت النقاشات، في أجواء الاستعداد للانتخابات المحلية، حول احتمالات ظهور حزب سياسي جديد يتولّى قيادته عدد من القيادات القديمة في حزب العدالة والتنمية، في مقدمتهم الرئيس السابق عبد الله غل ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو.
ويبدو أن هذه النقاشات لها ظل من الحقيقة، بدليل أنها دفعت إردوغان إلى القول إن «هناك كثيرين من المنشقين عن حزب العدالة والتنمية، ولا داعي لذكر أسماء، فهؤلاء يستحيل أن نسير معهم ثانيةً في طريق واحد». وحاول إردوغان التقليل من شأن ما يتردّد عن الحزب المرتقب، قائلاً: «إن هناك مَن أسّسوا أحزاباً من قبل، والجميع يعرف عاقبتهم... الصدق والإخلاص أمران مهمان للغاية... هؤلاء لم يقولوا شيئاً عندما كنا نمنحهم المناصب. ولكن عندما قلنا لهم إن عليهم أن يستريحوا بدأوا في الحديث عن أحزاب جديدة... إن الذين نزلوا من القطار لا يمكن أن يعودوا إليه من جديد».
كانت النقاشات تتصاعد حول الحزب الجديد، المفترض أن يظهر قريباً، مع تلميحات صدرت عن الصحافي التركي أتيان محجوبيان، المستشار السابق لداود أوغلو، حول وجود مساعٍ يبذلها عدد من المنتمين لحزب العدالة والتنمية الحاكم من أجل تأسيس حزب جديد.
وفي ردّ منه على سؤال عن حقيقة وجود مساعٍ لتأسيس حزب جديد بعد الانتخابات المحلية المقبلة، قال محجوبيان خلال مقابلة أجراها مع إحدى محطات التلفزيون التركية: «نعم... هناك مساعٍ في هذا الاتجاه تجري حالياً، وهذا أمر لا بد منه، لأن تركيا لا تُدار جيداً»، ثم أردف: «الجميع يرون جيداً أن تركيا لا تُدار بالشكل اللائق... هناك بعض الشرائح داخل (العدالة والتنمية) غير راضية بالمرّة عن التعيينات التي تتمّ من خلال ممارسات بعيدة كل البعد عن معايير اللياقة والكفاءة، وغير راضين أيضاً عن الطرق التي تمنح بها مناقصات الدولة».
- مخاوف الحزب الحاكم
هذه التلميحات من أحد الذين كانوا داخل المطبخ السياسي في تركيا، والذين ما زالوا على صلة مع الشخصيات البارزة التي شاركت في قيادة البلاد، جاءت تأكيداً لحالة الجدل التي تشهدها الأروقة السياسية في تركيا منذ فترة. وضمن ما يُثار الهمس عن استعداد الرئيس السابق غل ورئيس الوزراء الأسبق داود أوغلو لتأسيس حزب سياسي جديد. ولا يقتصر الهمس على غل وداود أوغلو بل يشمل أيضاً نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية الأسبق علي بابا جان، الذي شغل أيضاًم نصب وزير الخارجية، قبل أن يختفي من المشهد السياسي في 2013، الذي تُنسب إليه الطفرة الكبيرة في الاقتصاد التركي، ونائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية محمد شيمشك، الذي استكمل مسيرة باباجان في حقل الاقتصاد، وأبعد من المشهد أيضاً عقب الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة في يونيو الماضي.
هذه التلميحات، التي صدرت عن محجوبيان في السادس من فبراير (شباط) الحالي، سبقتها تلميحات أخرى للكاتب التركي أحمد طاقان، مستشار غل وممثل صحيفة «يني تشاغ» في العاصمة أنقرة، الذي نشر مقالاً في سبتمبر (أيلول) الماضي تحت عنوان: «مشروع غل الجديد من الباب الخلفي»، ادعى فيه أن الرئيس السابق ومعه رئيس الوزراء الأسبق المقرب منه أحمد داود أوغلو وبابا جان وشيمشك يتأهبون لتأسيس «حزب مركزي جديد» سيكون في صفوف المعارضة الرئيسية.
ورغم ابتعاد غل، الذي يُعدّ من أبرز المؤسسين الأوائل لحزب العدالة والتنمية الحاكم إلى جانب إردوغان، عن الساحة السياسية منذ تركه رئاسة الجمهورية عام 2014، فإنه أبدى عدداً من المواقف التي تعبر عن رفضه بعض السياسات التي يتبعها إردوغان.
ومن مواقفه الرافضة ما يتعلق بتعامل إردوغان مع معارضي سياساته، سواء من خارج الحزب أو داخله. وعلى النهج نفسه عبّر داود أوغلو عن قلقه بشأن الأوضاع في تركيا، ورأى أنها «تسير نحو الفوضى»، في إشارة ضمنية للانتهاكات التي يتهم حزب التنمية والعدالة بارتكابها تجاه الشعب التركي. ولكن، مع هذا، يقول مراقبون إنه على الرغم مما يتردد عن هذه المساعي لتشكيل الحزب فإنه قد لا يرى النور قريباً، وإن الأطراف الفاعلة في تأسيسه سيتريثون بانتظار نتائج الانتخابات المحلية.
في أي حال، يثير ما يتردد بشأن هذا الحزب «المرتقب» القلق لدى الجماعات الموالية لإردوغان، لا سيما أن الأسماء المذكورة كنواة له هم ممن يمتلكون كتلاً تصويتية ضخمة يمكنها أن تهدد الحزب الحاكم. ولذا، ثمة توجّه عند مناصري إردوغان نحو تحريك وسائل الإعلام الموالية للحكومة للهجوم عليهم والتهكم على محاولاتهم تأسيس حزب منافس لحزبهم القديم، واصفين الحزب الجديد بأنه سيكون «حزب البيجاما» أو «حزب المتخلفين عن القطار». وفي المقابل، يردّ مؤيدو الفكرة أن تركيا بحاجة إلى دماء جدية، ويذكّرون مَن يهاجمون مجموعة غل وداود أوغلو بما فعله إردوغان ورفاقه مع رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان، عندما انشقوا عنه ليؤسسوا حزب «العدالة والتنمية» الحاكم.
- الانتخابات التركية بالأرقام
> يجري خلال الانتخابات اختيار رؤساء بلدية لـ30 مدينة كبرى و1351 منطقة إدارية، بالإضافة إلى 1251 عضو مجلس ولاية و20 ألفاً و500 عضو مجلس بلدية.
> حصل حزب العدالة والتنمية، بزعامة الرئيس رجب طيب إردوغان، في الانتخابات المحلية يوم 30 مارس 2014 على نسبة 45.6 في المائة من أصوات الناخبين، بينما تشير استطلاعات الرأي حتى الآن إلى أنه قد يحصل على نسبة تتراوح ما بين 36 و38 في المائة من الأصوات في الانتخابات المقبلة.
> شهدت تركيا 6 انتخابات برلمانية ورئاسية واستفتاءً واحداً على تعديلات دستورية في غضون 4 سنوات و3 أشهر، خلال الفترة منذ مارس 2014
- أكبر المدن التركية لجهة عدد السكان
> يتجاوز عدد سكان سبع مدن تركية - وفق تقديرات عام 2015 - حاجز المليون نسمة، مع الإشارة إلى أن تعداد سكان تركيا يُقدّر حالياً بأكثر من 82 مليون نسمة. وفيما يلي أكبر المدن التركية وفق أرقام 2015:
1 - إسطنبول: 14.025.646 مليون نسمة
2 - أنقرة (العاصمة): 4.587.558 ملايين
3 - إزمير: 2.847.691 مليونان
4 - بورصة: 1.854.285 مليون
5 - أضنة: 1.563.545 مليون
6 - غازي عينتاب: 1.495.050 مليون
7 - قونية: 1.003.373 مليون
8 - أنطاليا: 955.573 ألف
9 - قيصري: 911.984 ألف
10 - مرسين: 842.230 ألف
11 - إسكيشهر: 617.215 ألف
12 - ديار بكر: 614.310 ألف
13 - صمسون: 511.601 ألف
14 - دنيزلي: 492.815 ألف
15 - أورفة (شاتلي أورفا): 465.748 ألف
16 - آدابازان: 399.022 ألف
17 - ملطية: 388.590 ألف
18 - مرعش (قهرمان مرعش): 384.953 ألف
19 - أرضروم: 358.344 ألف
20 - وان (فان): 352.292 ألف