مقصود يستذكر محطات في قطار العروبة

كواليس المرحلة التي عاصرها واختبرها عن كثب

من زويا الذاكرة  -  المؤلف: د. كلوفيس مقصود  -  الناشر: الدار العربية للعلوم، بيروت
من زويا الذاكرة - المؤلف: د. كلوفيس مقصود - الناشر: الدار العربية للعلوم، بيروت
TT

مقصود يستذكر محطات في قطار العروبة

من زويا الذاكرة  -  المؤلف: د. كلوفيس مقصود  -  الناشر: الدار العربية للعلوم، بيروت
من زويا الذاكرة - المؤلف: د. كلوفيس مقصود - الناشر: الدار العربية للعلوم، بيروت

يعترف الدكتور كلوفيس مقصود في مذكراته «من زويا الذاكرة»، التي نشرتها في بيروت «الدار العربية للعلوم» أنه لم يدون مرة يوميات تجربته الطويلة في حمل أعباء القضايا العربية ورسالتها، سواء في العواصم الكبرى التي عمل بها أم في المؤتمرات والمنتديات الدولية التي كان يشارك بها. من هنا أهمية تدوينه لما لم تغفله ذاكرته من أحداث عايشها من موقع التفاعل معها ونقلها «من زوايا الذاكرة» لكل قارئ عربي يتطلع إلى استخلاص عبرها القومية.
رحلة كلوفيس مقصود على درب القضايا العربية رحلة طويلة وشاقة في آن واحد، بدأت في بيروت على مقاعد الدراسة في الجامعة الأميركية وتزامنت مع أولى سنوات الاستقلال عن الانتداب الفرنسي في الأربعينات وتجذرت بعد عودته من جامعة جورج واشنطن إلى لبنان في خمسينات القرن الماضي.
منطلق مسيرة النضال السياسي للدكتور مقصود كان إعلان انتمائه إلى الحزب التقدمي الاشتراكي الذي كان يرأسه آنذاك الزعيم اللبناني الراحل كمال جنبلاط.
ولكن المرحلة السياسية التي أثرت وجدانيا في مسيرته كانت المرحلة التي سبقت وتلت تأميم الرئيس جمال عبد الناصر لشركة قناة السويس، فقرار التأميم كان، في نظره، تطورا ثوريا رفع القومية العربية إلى مستوى وحدة الشعوب. (ومن أطرف ما يرويه في سياق لقائه الأول مع الرئيس عبد الناصر أنه بادره بالقول، مازحا: «عامل شيخ عروبة واسمك كلوفيس»؟ وحين سأله عن اسم بديل اقترح عبد الناصر «قحطان».
تأييده للمد القومي العربي لم يحل دون إعجابه بنهج اللاعنف الذي اعتمدته الحركة الوطنية الهندية بقيادة المهاتما غاندي، والتي طورها لاحقا رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو إلى سياسة خارجية «تمكنت من كسر نظام القطبين الذي حدد معالم الحرب الباردة بين الشرق والغرب».
في الهند ترسخ إيمان الدكتور مقصود بحركة عدم الانحياز وجاء تكليفه تمثيل جامعة الدول العربية فيها، برتبة سفير، عام 1960، بمثابة «ذروة» ما كان ينادي ويكتب عنه.
سنوات الهند كانت الأغنى في تجربة مقصود السياسية فخلالها توثقت علاقته مع نهرو ونجح في نسج علاقات صداقة وطيدة بين الهند ومعظم دول الجامعة العربية.
وفي أواخر عام 1966 استدعته الأمانة العامة لجامعة الدول العربية من الهند ليلتحق بمقرها في القاهرة. ولكن انتقاله إلى القاهرة لم يخفف من تعلقه بسياسة عدم الانحياز بل ازداد تمسكا بها بعد هزيمة عام 1967 في فلسطين.
ويبدو أن سبعينات القرن الماضي كانت المرحلة الأكثر تحديا لقناعات مقصود السياسية فخلالها عمل مبعوثا خاصا للجامعة العربية في الولايات المتحدة ومن ثم رئيسا لبعثتي الجامعة العربية في واشنطن والأمم المتحدة في نيويورك.
هذه المرحلة شهدت توقيع مصر على اتفاقية كامب ديفيد التي يقول إنها «سلبت» العرب وزن مصر في المواجهة مع إسرائيل. وهذه المرحلة، رغم ما أفرزته من إحباط على الصعيد القومي، كانت، كما يصفها، «الأغنى بالدروس وبوسع الاطلاع على صناعتي القرار الأميركي والدولي وتشابك العوامل والاعتبارات والمصالح التي تحكمهما».
يعترف الدكتور مقصود أن «خليط الحساسيات والخلافات وأجواء الارتياب» عرقل عمل البعثة العربية في واشنطن وحدّ من فعاليته. وخلال تلك الفترة كانت القضية الفلسطينية الحاضر العربي الدائم في الأمم المتحدة بحكم توالي التمدد الاستيطاني الإسرائيلي وتصاعد النزوع العدواني. وعلى هذا الصعيد يلاحظ مقصود تطابق كلمات المندوب الأميركي في مجلس الأمن مع المواقف الإسرائيلية من النزاع العربي الإسرائيلي. ويؤكد، بحكم تجربته في الأمم المتحدة، أن دبلوماسية واشنطن تعتمد باستمرار على ممارسة الضغوط على الجانبين العربي والفلسطيني، وعلى تغييب المساءلة حيال انتهاكات إسرائيل المتواصلة للقوانين الدولية.
يقول الدكتور مقصود: «لكل تجربة دروسها». أما ميزة دروس تجاربه فلا تقتصر على أسلوب سردها الشيق فحسب، بل تتعداه إلى استكشاف «كواليس» المرحلة العربية التي عاصرها واختبرها عن كثب، فرغم حلوها ومرّها كانت مرحلة تقاس فيها الزعامات العربية بالتزامها بعروبتها واستقلال بلادها في وقت كان باب الاستقلال فيه لا يدق إلا «بكل يد مضرجة».



أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.