الحياة جميلة، وغنية بالألوان الزّاهية المتنوعة، والتفاصيل المبهجة، التي على بساطتها واختلاف أحوالها تمتلئ بالحب والأحلام، ودفء شمس النّهار المشرقة، هذا هو الإحساس الذي يتملّكك بمجرد النظر إلى لوحات الفنان حلمي التوني في معرضه الذي يستضيفه حالياً «غاليري بيكاسو» في القاهرة، تحت عنوان «للنساء وجوه»، ويستمر حتى 21 مارس (آذار) الجاري.
ولا يُعدّ مكمن ذلك الإحساس هو الجمال الصبيح الهادئ لبعض نساء لوحاته، أو الجمال الفاتن المشتهى كما رسم بعضهن الآخر، وهو ليس الدلال المفرط وتناسق الجسد وليونته الذي يزدان بثياب ذات ألوان صاخبة خاطفة للعين، أو العيون الواسعة ذات النّظرات الشّاردة أو المُوحية، أو الحُلي ومساحيق الزينة التي تزيدهن جمالاً على جمال، أيضاً ليست هي روعة الأصالة، وروحانية الفضيلة والبراءة لدى بعض نساء أعماله، فلا يوجد شيء واحد وراء الإحساس العميق بجمال الحياة عند تأمل لوحاته.
بعد فترة من التأمل والحيرة نكتشف أنّ ثمّة حالة زاخرة بالحيوية ومازجة بين الأمل وا لطّاقة الإيجابية تسيطر على اللوحات، وتكاد أن تخترق جداريتها، لتنقلنا معها إلى نهار جديد بعد ليل طويل موحش. وأنّ هذه الأجواء أو الحالة هي ما تدفعنا إلى التمتع بإطلالة مختلفة على الحياة.
ومما يرسّخ هذا الإحساس داخل المتلقي، أنّ الفنان القدير لم يتعمد أن يرسم امرأة بعينها أو فئة ما من النساء، إنّما استدعى من مخزونه البصري ومشواره الفني الكثير. يقول التوني في حديثه إلى «الشرق الأوسط»: «عدت بذاكرتي إلى جميع وجوه النساء في أعمالي السابقة، من ثمّ أعدت رسمها. وفي هذه اللحظة أدركت إلى أي مدى تتمتع النساء ــ مهما اختلفت ملامح وجوههن ــ بالجمال والفتنة والتجدد والسكينة، وإلى أي مدى يمكن أن يغيرن العالم من حولهن».
لكن لا يُعد إبراز جمال المرأة في حد ذاته هو المغزى من هذا التجسيد النّسائي المكثّف، فما المرأة هنا سوى رمز للحياة ذاتها بتنوع وجوهها وتقلبات أحوالها، وتعدد أسباب فتنتها وخلاصة جمالها.
ولا يمثل أيضاً استدعاء المرأة كرمز أو أيقونة في الأعمال الفنّية للمبدع حلمي التوني جديداً على أسلوبه الفني، فهي مصدر إلهام لا ينضب بالنسبة له. يقول: «المرأة أيقونة دائمة للجمال، والأصل الحقيقي للحياة، هي أيضاً بداية الفن والإبداع، ولذلك فهي ملهمتي، وملهمة كل الفنانين».
ورغم هذا الاحتفاء الدّائم بالمرأة في فنّه، فإنّ التوني ينجح ببراعة في عدم التكرار، فكأنّ لوحاته تنويعات جديدة على لحن أساسي.
من هنا نستشعر أشكالاً وتعدّدية واسعة تظهر بها المرأة في لوحاته التي تبلغ نحو 45 لوحة بمقاسات مختلفة، داخل تكوينات مختلفة تسرد فيها كل امرأة حكاية مختلفة، لكن يجمع بين اللوحات رابط أساسي، هو الحوار المبهج الثري بين نساء التوني والمتلقّي، الذي يصل بالمتلقي إلى النقطة التي يريدها الفنان من المعرض الذي اختار له عنواناً موحياً يتماهى مع فكره، وهي أن للحياة وجوهاً كثيرة كما النساء، وأنّه رغم اختلافها فإنّه كما يقول: «ينبغي أن نعمل على إدخال السّعادة على قلوبنا وقلوب الآخرين مهما أثقلتها الهموم، وأنّ على الفن أن يلعب دوراً في تحقيق ذلك، عبر ما يبثه في النفوس من بهجة، وما يشبع به العين من جمال».
ولا تٌعد المرأة وحدها مصدر الجمال في أعماله، إذ يغوص أيضاً في التراث بكل أيقوناته ومضامينه وزخمه الإنساني، وذلك ليس مستغرباً على فناننا القدير الذي ينتهج الواقعية السحرية بما تطرحه من جماليات الإبصار في لوحاته، حيث يعيد صياغة الواقع من خلال الاستلهام من الأحلام والأساطير والروائع الانتقائية من الفلكلور الشّعبي والإرث الثّقافي والفني، ويغلف ذلك كله بجموح خياله، وهو ما يفسر لنا كيف يبرع الفنان في تقديم عالم مدهش ومبهر في جمالياته ولغته البصرية في الوقت الذي يطرح موضوعات وأفكار تمسّ «حكايات عادية» من الحياة اليومية.
فمع وجوه لوحات حلمي التوني تسافر إلى رحابة التراث، حيث تروي هذه الوجوه وصاحباتها بعيونها الواسعة وما يحيط بها من رموز مصرية مألوفة، الكثير عن الهوية الوطنية باختلاف الأزمنة والحضارات، فتطل عليك على سبيل المثال، من بين تفاصيل لوحاته السّمكة والهدهد والكردان، جنباً إلى جنب مع زهرة اللوتس وملامح وتسريحات الشّعر التي استدعاها من الحضارة الفرعونية، أو الطربوش وغطاء الشعر من الحقبة العثمانية في مصر، أو تلك التي استعارها من «بنت البلد»، إضافة إلى الزخارف والنقوش الشّعبية، وخلال ذلك كله يعزف ويشدو معا ًبأنشودة «يا حلاوة الدنيا»، عبر لغته البصرية المبهرة.
حلمي التوني يستدعي سيدات رحلته الفنية بحثاً عن السكينة
عبر 45 عملاً في معرض «للنساء وجوه» بالقاهرة
حلمي التوني يستدعي سيدات رحلته الفنية بحثاً عن السكينة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة