لم ينس الفرنسيون والأوروبيون أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصل إلى السلطة حاملاً مشروعاً أوروبياً طموحاً. إلا أن المعارضة التي واجهته من داخل الاتحاد وخصوصاً من بلدان أوروبا الوسطى والشرقية وملف البريكست وفتور المستشارة الألمانية لمجاراته في مشاريعه، أعاقت تقدم طروحاته. وها هو اليوم يعود إلى الواجهة مستبقاً استحقاقاً انتخابياً رئيسياً وهو الانتخابات الأوروبية في 26 مايو (أيار) القادم التي «سترسم صورة أوروبا المستقبلية». وعمد ماكرون إلى توجيه رسالة من أربع صفحات نشرت أمس في 28 بلداً أوروبياً وضمنها مشروعه الأوروبي «المعدل» الذي سبق له أن فصله بصيغته الأصلية في خطابين رئيسيين: الأول في جامعة السوربون، خريف عام 2017، والثاني بمناسبة منحه جائزة شارلماني في 10 مايو الماضي التي تسلمها من يدي المستشارة الألمانية بسبب «رؤيته القوية لأوروبا متجددة».
بداية تتعين الإشارة إلى أن ماكرون رغم ضعفه السياسي هو الرئيس الوحيد الذي رغب في، أو تجرأ على، طرح رؤية لمشروع أوروبي في زمن لم يعد فيه الاتحاد الباب السحري لإيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها القارة. وواضح أن ماكرون يريد أن يربح معركة الرأي العام. لذا، فإن رسالته موجهة لـ«المواطنين» الأوروبيين الذين يريد أن يقيم معهم علاقة مباشرة تمر من فوق رؤوس المسؤولين. ومبتغى الرئيس الفرنسي أن يكون مجدداً حامل راية الاتحاد بمواجهة الشكوك والانتقادات التي تنصب عليه من اليمين المتطرف والشعبويين وكل الذين «فقدوا الإيمان به». ويقرع ماكرون ناقوس الخطر ويؤكد أن «لم تكن أبداً مهددة بهذا الشكل». أما «وجوه» الأخطار المحدقة فهو البريكست أولاً، الذي يعني هدم ما سبق أن أنشئ والانطواء القومي وصعود التذمر والأكاذيب التي تساق بحق الاتحاد والخنوع، واعتبار أن الاتحاد «سوق للتبادل وليس مشروعا» والشكوك التي تهدم الديمقراطيات وتضرب القيم الأوروبية... إزاء هذه المخاطر مجتمعة، يقترح ماكرون مشروعاً ينهض على ثلاثة أعمدة رئيسية هي الدفاع عن الحرية وتوفير الحماية والدفع باتجاه التقدم، ما سيمكن أوروبا من النهوض وتحقيق «الانبعاث» الأوروبي. ولا يكتفي ماكرون بالتنظير بل يطرح تسعة مقترحات عملية يرغب في مناقشتها في إطار مؤتمر أوروبي مختلف عن الاجتماعات الدورية على كل المستويات التي يشهدها الاتحاد. وما يريده الرئيس الفرنسي، وعلى غرار الحوار الكبير الذي ابتدعه في فرنسا ضم المواطنين، بحيث لا تكون القرارات فوقية، أو المقررون بعيدين عن القاعدة الشعبية.
تحت باب الدفاع عن الحرية، يدرج ماكرون في المنزلة الأولى حرية الإنسان والرأي والإبداع والنظام الديمقراطي، بعيدا عن التأثيرات الآتية من قوى الخارجية. وإن كان ماكرون لا يشير إلى جهة بعينها، فإنه من الواضح أنه يستهدف روسيا التي يزعم أنها أثرت إلكترونياً على الانتخابات الأميركية ويمكن أن تقوم بالشيء نفسه بمناسبة الانتخابات الأوروبية. وما يريده ماكرون هو إنشاء «وكالة أوروبية لحماية الديمقراطيات» التي تستطيع توفير الخبرات لأي بلد أوروبي يطلب المساعدة، كما تمنع التمويل الأجنبي للأحزاب الأوروبية، وتحرص على إبعاد «خطاب الكراهية» والعنف عن الشبكة العنكبوتية.
بيد أن أهم ما جاء به ماكرون يتناول «حماية أوروبا»، أي حماية المواطنين الأوروبيين والحدود الأوروبية. من هنا، فإن الرئيس الفرنسي يريد إعادة النظر باتفاقية شنغن التي ألغت الحدود الداخلية بين الدول الموقعة عليها وعددها 22 دولة. إلا أن الهجرات المكثفة والإرهاب قلبا المزاج الأوروبي ووفرا أرضية خصبة لمعارضي الاتحاد للانقضاض عليه بحجة أنه لم يعد يحمي المواطن ومصالحه. ويريد ماكرون من الدول التي تريد أن تبقى داخل الاتفاقية أن تلتزم وتنفذ مجموعة من المهمات مثل الرقابة المشددة للحدود الخارجية، والعمل بمبدأ التضامن (في التعامل مع المهاجرين)، وإيجاد قانون موحد للجوء، وإنشاء شرطة حدود موحدة ومكتب مشترك للجوء، ويكون ذلك كله تحت إدارة «المجلس الأوروبي للأمن الداخلي». ويرى ماكرون أنه بمواجهة أزمة الهجرات، «يتعين على أوروبا أن تحمي قيمها وحدودها» على السواء.
لا يقتصر أمن أوروبا على الداخل الأوروبي بل أيضا على توفير وسائل الدفاع. وطموح الرئيس الفرنسي يذهب إلى حد الدعوة إلى إبرام «معاهدة الدفاع والأمن» بين البلدان الأوروبية، وذلك «على صلة» بالحلف الأطلسي والحلفاء الأوروبيين. وعملياً، يريد ماكرون أن يزيد الأوروبيون من ميزانياتهم الدفاعية ويقروا مبدأ الدفاع المشترك والمتبادل بينهم وإيجاد مجلس الأمن الأوروبي يضم بريطانيا للتحضير للقرارات الجماعية. وجديد ماكرون أنه يريد الدفاع الأوروبي مستقلاً إلى حد بعيد عن الملف الأطلسي، ما يذهب في اتجاه ما طرحه سابقا عن إنشاء «جيش أوروبي موحد وحقيقي». ومن المنتظر أن تثير المقترحات الدفاعية جدلاً واسعاً في أوروبا التي ترفض الكثير من دولها التخلي عن الحلف الأطلسي والمظلة النووية الأميركية مقابل دفاع أوروبي غير موجود.
يبقى باب التقدم الأوروبي وأهم ما يدعو إليه ماكرون هو إنشاء «درع اجتماعية» تضمن حداً أدنى للرواتب في أوروبا تأخذ وضع كل بلد في الحسبان ويتم إقرارها سنويا بشكل جماعي. ولا ينسى ماكرون معركة البيئة. لذا يدعو لإنشاء «البنك الأوروبي للمناخ» لتمويل النقلة البيئوية، إضافة إلى وكالة أوروبية خاصة بالصحة ومتطلباتها. ويدفع الرئيس الفرنسي إلى نظام أوروبي للرقابة على شركات الإنترنت والاقتصاد الرقمي وتحفيز الإبداع، من خلال إنشاء المجلس الأوروبي للإبداع يتمتع بميزانية واسعة مشابهة لما هو الحال في الولايات المتحدة لخوض التنافس في الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي... كذلك يدعو ماكرون للعمل بمبدأ «التفضيل الأوروبي» وحماية مصالح أوروبا الاقتصادية والاستراتيجية وإقامة شراكة مع أفريقيا التي تأتي منها أكثرية المهاجرين.
ختاماً، يدعو ماكرون لـ«مؤتمر من أجل أوروبا» لطرح أفكار ومشاريع للتغيير من غير ممنوعات بما فيها إمكانية تعديل المعاهدات الأساسية التي نشأ الاتحاد على هديها، وأن يفتح المؤتمر بوجه المواطنين والباحثين والجامعيين ورجال الدين.
والخلاصة، يجب أن تكون التوصل إلى «خريطة طريق» جماعية تترجم التوجهات الكبرى لأعمال ملموسة بحيث «تستعيد الشعوب الإمساك بمصيرها» و«تشكل الطريق للانبعاث الأوروبي».
الرئيس الفرنسي يطرح خطته لـ«انبعاث أوروبي»
يريد تعديل اتفاقية شنغن وإبرام معاهدة دفاع مشترك بين دول الاتحاد
الرئيس الفرنسي يطرح خطته لـ«انبعاث أوروبي»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة