خفايا خطط كيندي لإبعاد كاسترو

أسرار العلاقات بين واشنطن وهافانا في كتاب لباحث مصري

كيندي يوقع قرار الحصار البحري على كوبا عام 1963
كيندي يوقع قرار الحصار البحري على كوبا عام 1963
TT

خفايا خطط كيندي لإبعاد كاسترو

كيندي يوقع قرار الحصار البحري على كوبا عام 1963
كيندي يوقع قرار الحصار البحري على كوبا عام 1963

يكشف الباحث المصري الدكتور إسحق عزيز أسرار وجذور الصراع الأميركي - الكوبي منذ عهد رئيس كوبا الأسبق فولغنسيو باتيستا زالديفار الذي حكم بلاده منذ 1933 إلى 1944 ومن 1952 إلى 1959، قبل أن يسقط نتيجة الثورة الكوبية.
ويتابع عزيز في كتابه «الصراع الأميركي الكوبي» الصادر حديثاً عن «هيئة الكتاب» المصرية، قراءة ما جرى من أحداث حتى عام 1963 الذي شهد قمة الصدام بين «واشنطن» و«هافانا» واغتيال الرئيس جون كيندي وتولي الرئيس ليندون جونسون مقاليد الأمور في البيت الأبيض، مما عكس تحولاً في اتجاهات السياسة الأميركية التي انشغلت عن جارتها بالانغماس في مستنقع فيتنام الذي شغل كل الساسة الأميركيين.
ورغم انهيار الشيوعية والاشتراكية في كثير من بلدان العالم؛ وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي، فإن هناك بلداناً ظلت صامدة أمام المد الرأسمالي تقاوم الحصار الذي ضُرِب عليها لإطاحة أنظمتها، ولتغيير آيديولوجية رجالها، ومن هذه البلدان التي استمرت تقاوم الضغوط الرأسمالية؛ كوبا، وها هي حتى الآن؛ تحت رئاسة كاسترو وخليفته، تقف أمام دولة عظمى هي الولايات المتحدة الأميركية.
ولمعرفة كيف استطاعت كوبا مقاومة الضغوط الأميركية، وكيف وصلت الأمور إلى ما هي عليه الآن، سعى عزيز إلى دراسة الجذور الأهم في تشكيل أي علاقة دولية سياسية، وتناول بالتحليل كيف خرجت كوبا عن الفلك الأميركي بمجرد أن اعتلى كاسترو سدة الحكم فيها واستمرار نظامه حتى وقتنا هذا.
وبرر عزيز اختياره عام 1959 بدايةً لفترة دراسته، مشيراً إلى أنه شهد انتصار الثورة في كوبا، وبداية مرحلة جديدة من العلاقات بين الثورة وقادتها في هافانا، وبين الولايات المتحدة، ومواجهة واشنطن حقيقة أن النظام الجديد في هافانا قد وصل إلى السلطة في البلاد دون دعم وموافقة ضمنية منها.
ولقراءة تفاصيل العلاقات الأميركية - الكوبية، وما جرى من أحداث وصراعات؛ منها ما فجّر أزمة دولية عرفت بـ«أزمة الصواريخ»، بين أميركا وروسيا؛ القطبين الأساسيين في السياسة العالمية في ذلك الوقت، اتبع عزيز، الباحث في كلية الآداب بجامعة عين شمس، المنهج السردي التحليلي باحثاً عن علل الأحداث التاريخية، ونتائجها. واعتمد على عدد كبير من المصادر، تمثلت في وثائق وزارة الخارجية المصرية، وأرشيف الأمن القومي الأميركي، وملفات وزارة الخارجية الأميركية السرّية، ومجموعة الوثائق السوفياتية المنشورة باللغة الإنجليزية، فضلاً عن مجموعة من مجموعة الوثائق الأميركية المنشورة تحت عنوان «علاقات أميركا الخارجية»، و«سياسة أميركا الخارجية»، خلال الأعوام من 1950 حتى 1963.
ولم يتوقف عزيز في بحثه علاقات أميركا بجارتها الصغرى كوبا عند الوثائق المتاحة فقط، لكنه استعان بأوراق الرئيس الأميركي آيزنهاور، الذي شهد عهد رئاسته الولايات المتحدة نجاح الثورة الكوبية، ووصول فيدل كاسترو إلى الحكم، وكان لسياسته أثر كبير فيما آلت إليه العلاقة بين الولايات المتحدة وكوبا.
واعتمد المؤلف أيضاً على عدد من المذكرات الشخصية؛ يأتي في مقدمتها مذكرات الرئيس آيزنهاور، والرئيس خروتشوف، والسفير فيليب بونسال، وريتشارد بيسل، وريتشارد نيكسون، وتشي جيفارا، وآندريه جروميكو، فضلاً عن عدد من المراجع والدراسات العربية والأجنبية.
وتضمن الكتاب في بدايته تمهيداً، حاول الباحث من خلاله طرح الخلفية التاريخية للعلاقات الأميركية - الكوبية قبل عام 1959، وسعى فيه لإبراز الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية لكوبا بالنسبة للولايات المتحدة، وازدياد المصالح والاهتمامات الأميركية بها في ظل السيطرة الإسبانية، والمحاولات الأميركية المختلفة للسيطرة عليها، وهو ما تحقق لها بعد الحرب الإسبانية - الأميركية، واحتفاظ الولايات المتحدة بقدر قوي من النفوذ على هافانا، بعد وضع ملحق للدستور الكوبي، سمح لأميركا بالتدخل في شؤونها دون قيد أو شرط، والذي استمر العمل به إلى أن تم التوقيع على معاهدة أميركية - كوبية جديدة ألغت حق أميركا في التدخل المسلح.
وأبرز الكتاب الجهود الأميركية لاحتواء المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وموقف واشنطن من انقلاب باتيستا في مارس (آذار) 1952، والهجوم على ثكنات مونكادا في يوليو (تموز) 1953، وما أعقبه من تنامٍ للمعارضة الداخلية لنظام الرئيس باتيستا الذي ظلت واشنطن تسانده حتى اتضح لها جليّاً أن استمراره في الحكم يهدد مصالحها، ولذلك قررت حظر الأسلحة عنه في محاولة منها لاستبعاده والبحث عن بديل جديد يقوم بتأمين المصالح الأميركية، لكنها فشلت في إيجاد قوة ثالثة بعيدة عن كاسترو وباتيستا الذي فرّ من البلاد بعدها.
وخصص المؤلف الفصل الأول من كتابه لدراسة الأوضاع في كوبا عقب رحيل باتيستا، والاعتراف الأميركي بالحكومة الجديدة، واستعرض موقف فيدل كاسترو من الولايات المتحدة في المراحل الأولى للثورة، والمحاكمات التي قام بها النظام الجديد في كوبا لأركان النظام السابق، وتأثير هذا على علاقة كاسترو بالولايات المتحدة، ثم ركز على الاختلافات التي برزت داخل الإدارة الأميركية حول أسلوب التعامل مع كاسترو، والذي كان يختلف كل الاختلاف عن تعاملها مع الأنظمة السابقة التي توالت على كوبا، ثم تطرق إلى محاولات الطرفين استجلاء موقف الآخر خلال الزيارة التي قام بها كاسترو للولايات المتحدة، وموقف مسؤوليها من قانون الإصلاح الزراعي، والتفكير في التخلص من الزعيم الكوبي بعد أن وجدت فيه تهديداً خطيراً لمصالحها في كوبا.
وتناول عزيز في الفصل الثاني طبيعة العلاقة التي كانت تجمع الولايات المتحدة مع الحكومة الثورية في هافانا، والتي بدأت تتحول من انتهاج سياسة الحياد في تعاملاتها في ظل الحرب الباردة، إلى الاقتراب من الاتحاد السوفياتي لتقليل الهيمنة الأميركية القوية على اقتصادات الجزيرة، وهو ما تجلى في الاتفاقيات التجارية بين كوبا والاتحاد السوفياتي. كما تعرض لمحاولة واشنطن الضغط على هافانا من خلال رفض مصافي النفط الغربية الموجودة داخل كوبا تكرير النفط السوفياتي، وإنقاص حصة السكر الكوبي في السوق الأميركية، واستخدام منظمة الدول الأميركية في مواجهتها مع كاسترو، والعقوبات الاقتصادية الأميركية على هافانا، وقطع العلاقات الدبلوماسية معها.
وخصص الباحث الفصل الثالث من كتابه لدراسة محاولة الولايات المتحدة الإطاحة بالنظام الكوبي باستخدام المنفيين الكوبيين، وتناول دور القضية الكوبية في حملة الرئاسة الأميركية، وتطور العملية العسكرية التي وضعتها الإدارة السابقة في ظل إدارة الرئيس كيندي، وفشل محاولة الإطاحة بالنظام الكوبي في عملية «خليج الخنازير»، ودور وكالة المخابرات الأميركية وهيئة الأركان المشتركة ومستشاري الرئيس والرئيس نفسه في صنع هذا الفشل في العملية.
وتناول الفصل الرابع جهود الرئيس كيندي في محاولة إسقاط كاسترو عبر عملية «النمس» التي كانت بمثابة استراتيجية أميركية جديدة في علاقتها بكوبا، ودشنت العملية استراتيجية متعددة المسارات من العمل شبه العسكري، والتخريب، والحرب الاقتصادية، والدبلوماسية، والنفسية، فضلاً عن إطلاقها عنان القوة الكاملة لاستخدام إمكانات العمليات العسكرية السريّة الأميركية ضدّ النظام الكوبي، وتشبث الرئيس كيندي باستخدام العمليات العسكرية السريّة من أجل إثارة انتفاضة شعبية ضدّ كاسترو بعيداً عن التدخل العسكري الأميركي المباشر بسبب مخاوفه من عمل سوفياتي انتقامي. وأوضح عزيز كيف تغلبت مخاوف كيندي بشأن النتائج على المستوى العالمي على ضرورات العملية، وكيف قاد إصراره على التخلص من كاسترو إلى دفع الولايات المتحدة نحو ما يمكن أن يتطور إلى مواجهة نووية مع موسكو. وفي الفصل الخامس تناول الباحث المخاوف الكوبية من الغزو الأميركي مع بداية عام 1962، وكيف قادتها هذه المخاوف إلى الموافقة على إدخال الصواريخ السوفياتية النووية إلى أراضيها، والتغير في موقف الرئيس كيندي نحو كوبا، ونتائج ذلك على السياسة الأميركية اللاحقة، والاكتشاف الأميركي للصواريخ السوفياتية في كوبا، واتخاذ كيندي قرار فرض الحصار. كما تناول محاولات كيندي استخدام آلية القناة الخلفية من أجل الوصول إلى حل سلمي للنزاع، ثم عودته مرة أخرى بعد أزمة الصواريخ إلى سياسة العمل السري من أجل اقتلاع كاسترو من كوبا... وغيرها من جذور الصراع الخفي بين واشنطن وهافانا، التي يكشف عنها الكتاب في نسق سردي شيق، ترفده حزمة من الوثائق التاريخية، تؤكد مصداقيته على مستوى الرؤية والرصد والتحليل وتحري الحقيقة.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.