بعد التوتر الذي أصاب العلاقات الفرنسية - التركية بسبب قرار الرئيس إيمانويل ماكرون تخصيص يوم 24 أبريل (نيسان) من كل عام، لإحياء ذكرى إبادة الأرمن وردود الفعل التركية على هذا القرار، ها هي العلاقات الفرنسية - الإيطالية تدخل منطقة التوتر العالي الذي أفضى أمس إلى قرار باريس استدعاء سفيرها في روما، كريستيان ماسيه، «للتشاور».
وحتى عصر أمس، لم تكن روما قد قررت خطوة مماثلة. ويبين التطور الذي حصل أمس بوضوح أن باريس «فقدت صبرها» إزاء طريقة التعامل الإيطالية والتدخل في شؤونها. وليس سراً أن العلاقات بين العاصمتين القريبتين دخلت منذ تشكيل الحكومة الإيطالية الحالية من الشعبويين - ممثلين بحركة «النجوم الخمس»، واليمين المتشدد ممثلاً بـ«الرابطة» - منطقة من «المطبات الهوائية» الخطرة. وليس واضحاً بعدُ ما إذا كان التباعد بينهما سوف يقف عند هذا الحد، أم أن خلافاتهما السياسية ستدفع بهما إلى القطيعة التامة، علماً بأن البلدين عضوان مؤسسان للاتحاد الأوروبي، وينتميان لمنطقة اليورو وللحلف الأطلسي ولجناحه المتوسطي، وتربطهما علاقات تاريخية سياسية واقتصادية وثقافية وبشرية وثيقة.
أما القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد تمثّلت بلقاء نائب رئيس الحكومة الإيطالية وزعيم حركة «النجوم الخمس» لويجي دي مايو، في باريس، الثلاثاء الماضي، مسؤولين في الحركة الاحتجاجية «السترات الصفراء» التي ينادي بعض من ينتمي إليها إلى رحيل ماكرون عن السلطة، فضلاً عن المطالبة بإصلاحات سياسية ودستورية ومطالب اقتصادية واجتماعية.
ومن أبرز هؤلاء المسؤولين إنغريد ليفافاسور، التي قررت مع لائحة من «السترات الصفراء» خوض غمار الانتخابات الأوروبية نهاية مايو المقبل، وكريستوف شالنسون، أحد مندوبي الحركة المذكورة. وجاء رد الفعل الفرنسي على «زيارة» دي مايو، الذي أعلن في تغريدة عقب لقائه «السترات الصفراء» أن «رياح التغيير اجتازت جبال الألب» (وهي السلسلة الجبلية التي تفصل بين إيطاليا وفرنسا) على مرحلتين؛ الأولى، أول من أمس (الأربعاء)، حيث أعلن ناطق باسم الخارجية الفرنسية أن «هذا الاستفزاز الجديد غير مقبول بين بلدين متجاورين وشريكين في الاتحاد الأوروبي»، وأن «دي مايو الذي يتولى مسؤوليات حكومية، يجب أن يسهر على عدم إلحاق ضرر عبر تدخلاته المتكررة بعلاقاتنا الثنائية، لصالح فرنسا وكذلك إيطاليا». والثانية يوم أمس، عندما أصدرت وزارة الخارجية على لسان الناطقة باسمها أنييس فان در مول بياناً مطولاً، كشفت فيه عن استدعاء السفير في روما، ودعت فيه الطرف الإيطالي إلى العمل «من أجل استعادة علاقة الصداقة والاحترام المتبادلين، تكون بمستوى التاريخ والمصير المشترك».
وبحسب البيان، فإن فرنسا «متمسكة» بعلاقة الصداقة مع إيطاليا التي «تتغذى من التعاون في جميع المجالات ومن القرابة بين الشعبين»، مضيفة أنها «ضرورية أكثر من أي وقت مضى لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين».
إلا أن باريس لم تتردد في الردّ بعنف على ما تعتبره «حملات لا شيء يبررها وتصريحات مخزية» لم تعرفها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية من الجانب الإيطالي. ووجهت باريس سهامها الحادة إلى روما التي اتهمتها بتسخير الخلافات في الرأي بين البلدين «لأهداف انتخابية».
وأكثر من ذلك، اعتبرت «التدخلات الأخيرة (في الشؤون الفرنسية) استفزازاً إضافياً لا يُمكن القبول به». ولمح بيان الخارجية إلى تصريحات سالفيني السابقة، التي تمنى فيها إبعاد ماكرون عن السلطة بالقول إن التدخلات المتكررة «تنتهك الاحترام الواجب للخيار الديمقراطي لشعب (فرنسي) صديق وحليف، كما تنتهك التعامل المتزن بين حكومات انتُخِبت بطريقة حرة وديمقراطية».
وتساءلت باريس عن أهداف هذه الممارسات التي توجد «وضعاً خطيراً»، وعن «نيات الحكومة الإيطالية» إزاء علاقتها بفرنسا.
حقيقة الأمر أنها ليست المرة الأولى التي يتواجه فيها لويجي دي مايو وزميله ماتيو سالفيني وزير الداخلية وزعيم «الرابطة» اليميني المتشدد، مع باريس، خصوصاً مع الرئيس ماكرون. وقد سعت فرنسا، في الأسابيع الماضية، إلى احتواء التدهور وقلب صفحة الخلافات. إلا أن الملفات الخلافية بين البلدين و«العداء» الشخصي بين ماكرون من جهة، وسالفيني ودي مايو من جهة أخرى يضع علاقات البلدين في مهب الريح.
ومع اقتراب الانتخابات الأوروبية التي يريدها ماكرون بين جبهتين، تضم الأولى الليبراليين والمنضوين تحت الشعار الأوروبي وقيم الاتحاد ويقودها هو شخصياً، والثانية القوميين والشعبويين وعلى رأسهم سالفيني ودي مايو، فإن الأمور مرشحة للتفاقم، حيث إن كل أنواع الضربات تصبح متاحة.
ومنذ أسابيع طويلة، لم يكفّ الجانب الإيطالي عن التعبير عن دعمه لـ«السترات الصفراء» ودعوته لهم بالاستمرار في تحركهم، في الوقت الذي يجهد فيه ماكرون من خلال الحوار الوطني والتدابير المالية التي أقرتها حكومته إلى احتواء التحرك، ووضع حد له.
بيد أن الملفات الخلافية بين العاصمتين كثيرة وعميقة. أولها ملف الهجرات، واتهام روما لباريس بأنها تغلق حدودها أمام المهاجرين، بينما تهاجم إيطاليا لأنها تريد الحد من تدفقهم إلى شواطئها. وثانيها الملف الليبي والخلافات السياسية في طريقة التعامل معه والتنافس بين الجانبين، ما يؤثّر حقيقة على الجهود المبذولة لإحداث اختراق ما بشأنه. وثالثها الشعور المنتشر في إيطاليا بأن فرنسا وشركاتها «تستفيد» من الوضع الإيطالي الراهن لوضع اليد على قطاعات صناعية إيطالية. ورابعها الملف الأوروبي وتضارب توجهات البلدين بين باريس التي تريد مزيدا من الاندماج وروما التي تسعى لـ«فرملة» اندفاعة ماكرون.
وبينما وقَّعت باريس وبرلين أخيراً على معاهدة صداقة جديدة، فإن باريس وروما تبدوان مندفعتين نحو مزيد من التصعيد. والسؤال المطروح هو: هل تسوء الأمور بين الجانبين إلى درجة قطع العلاقات الدبلوماسية؟ وهذا الأمر، إن حصل، سيشكل سابقة بين بلدين عضوين في الاتحاد الأوروبي وسيضرب بلا شك مساعي الراغبين بمزيد من التكامل، في الوقت الذي يكافح فيه الاتحاد للخروج من أزمة «بريكست».
باريس تستدعي سفيرها من روما للتشاور
أربعة ملفات رئيسية تسمم العلاقات الثنائية
باريس تستدعي سفيرها من روما للتشاور
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة