يُعتبر شارع الحبيب بورقيبة الشريان الحيوي لتونس العاصمة. وهو أكبر شارع ويمتد بطول 1.5 كيلومتر، ويشكّل أيضاً رمزاً للثورة التونسية لأنه كان مقصد كلّ الجمعيات والنقابات والأفراد الراغبين في الاحتجاج.
في الأشهر الأخيرة بات هذا "الحبيب بورقيبة" ينبض على وقع "فنّ الشارع" بعدما غزته فرق هاوية لم تكن مألوفة لدى التونسيين قبل ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، وحوّلته إلى مسارح ودور ثقافة مفتوحة أمام الفنانين الذين لم تُتَح لهم فرصة تقديم مواهبهم في القاعات "الراقية"، وسط ترحيب المارة وتسامح السلطات.
في الشارع، وعلى مقاعد بسيطة، يجلس عدد من الشبّان حاملين بين أيديهم آلات موسيقية متنوعة، يعزفون عليها فيستهوون المارّة الذين يتوقفون بابتهاج ممزوج بعلامات استغراب، لأنهم لم يتعوّدوا مشاهدة مثل هذه العروض الموسيقية غير المنظّمة.
يقول نجيب مفتاحي المعروف في الشارع بلقب "بوزينة"، وهو مؤسّس فرقة "أنصار السلام" للأغنية الملتزمة، لـ"الشرق الأوسط": "الحرية رزق للشعوب"، عبارة فسّر بها وجوده في قلب الشارع الرئيسي للعاصمة مع فرقته المكوّنة من ستة عازفين ومغنين يعزفون على آلات من التراث المغاربي والأفريقي الصحراوي مثل "البانجو" و"القمبري" و"البندير" و"الطبيلات" و"الشقاشق" و"الدجمباي" و"البنقوس".
يؤكّد "بوزينة" أنّ الثورة حرّرت الشعب التونسي، وسمحت للفنّانين بممارسة أنشطتهم دون قيد أو شرط، لذلك هو يغنّي اليوم في شوارع المدينة للمارّة والسيّاح، لافتاً إلى أنّ فرقته الموسيقية بدأت نشاطها الغنائي في عهد النظام السابق، غير أنها تعرّضت لمضايقات من الشرطة آنذاك لأنّها سلّطت الضوء على سلبيات النظام، وهو ما أزعج السلطة.
ويضيف المفتاحي، من دون التوقّف عن العزف، أنّ "إدخال البهجة إلى قلوب التونسيين المتعطّشين للفن ومجابهة السيطرة الأمنية التي كانت تقمع التجمعات الموسيقية والفنية في الشوارع، من أبرز أهدافنا".
*موسيقى... وفضول
على مسافة أمتار من الشارع نفسه، يتجمع عدد من المارّة مع أطفالهم، حول فرقة موسيقيّة أخرى، ليحجبوا مصدر الموسيقى، ويغروا بقية الوافدين على الشارع بالاقتراب للإطلاع على مصدر الأصوات المفعمة بالفرح.
تقول حياة زغواني التي كانت تشاهد العرض بتفاعل كبير، إنّها سعيدة جدّاً برؤية هذه المشاهد في تونس، لما لها من دلالة على تحقيق مقدار كبير من الحريّة والوعي. وتضيف لـ"الشرق الأوسط" أنّها تستمتع كثيراً بالموسيقى التي "يؤديها المبدعون الذين ضاقت بهم دور الثقافة، فوجدوا في الشارع ضالتهم"، وهي تتوقف وتستمع إليهم كلّما وجدتهم في الشارع، خاصّة أنّها من عشاق الأغنية الغيوانية - نسبة إلى موسيقى ناس الغيوان المغربية - التي يؤدونها بشكل رائع، وفق تعبيرها.
يقول العازف الشاب مجدي، الذي آثر عدم كشف اسمه كاملاً: "كثير من المارّة تستهويهم موسيقانا، ويتوقفون لمشاهدة عروضنا والاستماع إلينا، وغالباً ما يلتقطون صور سيلفي معنا"، مشيراُ إلى أنّ عائلات تحضر العروض أحياناً، خصوصاً التي يقدمونها في الضواحي.
ويلفت مجدي إلى أنّ هذا النوع من الموسيقى "يطرح من خلال إيقاع سلس قضايا الشباب التونسي الذي يعاني التهميش والبطالة والهجرة غير الشرعية، وهو ما أكسبنا شرعيّة الشارع".
ويتفّق أغلب المارّة على أنّ المعزوفات وبعض الأغاني الملتزمة التي تؤديها الفرق المنتشرة في الشوارع باتت تبث حياة وحيوية في الأزقة والطرق، لذا يشجعونها على أن تنتشر بشكل أوسع وأن لا تتمركز في العاصمة فقط.
*من «مبادرة المراسل العربي»