منذ سنوات لم تشعر أوروبا بحاجة ماسّة إلى قيادات سياسية كما تشعر اليوم، لمواجهة المدّ الشعبوي الذي بدأ يحاصرها من الداخل بعد أن دخلت المستشارة الألمانية مسيرة الانكفاء التدرّجي عن المشهد السياسي وعادت أشباح الماضي الفاشيّ تطلّ برؤوسها على أكثر من جبهة فيما تطلق السفينة البريطانية الصافرات الأخيرة إيذاناً بمغادرة الميناء الأوروبي.
ويفيد آخر الاستطلاعات بأن رئيس الوزراء الإيطالي جيوزيبي كونتي يحظى بتأييد 62% من الإيطاليين، متقدّماً على زعيم رابطة الشمال ماتّيو سالفيني الذي يحظى بتأييد 53% وزعيم حركة «النجوم الخمس» لويجي دي مايو 43%. وقد بدأ المحللون يلمّحون إلى أن نتائج هذه الاستطلاعات يمكن أن تشكّل انطلاقة لتيّار سياسي جديد تنظر إليه بروكسل بكثير من الارتياح والرضا. بينما أوساط المقرّبين من كونتي تنفي أي نيّة عند رئيس الوزراء للسير في هذا الاتجاه، لكن السلطة قادرة على إيقاظ غرائز جديدة مهما كانت مخفيّة.
التطور الآخر في هذا الاتجاه هو ما أعلنه الإيطالي الثمانيني سيلفيو برلسكوني حول عودته إلى الميدان السياسي، واعداً بأن يضع حداً للشعبويين وعودة اليمين المعتدل.
وفي بلد ليس مألوفاً فيه أن يموت السياسيون بشكل كامل، وبعد شهر واحد من انقضاء عقوبة حرمانه من الحقوق السياسية لأربع سنوات، إثر إدانته بالتزوير المالي عبر شركته الإعلامية الضخمة «ميدياست»، أعلن مؤسس حزب «فورزا إيطاليا» عزمه على الترشّح لانتخابات البرلمان الأوروبي التي ستُجرى أواخر شهر مايو المقبل، مؤكداً أنه الوحيد القادر على وقف صعود الشعبويين في إيطاليا، وإسقاط الائتلاف الحكومي بين حركة «النجوم الخمس» و«رابطة الشمال». عيون بروكسل شاخصة منذ مطلع الصيف الماضي نحو إيطاليا بعد تشكيل الحكومة الائتلافية بين حركة «النجوم الخمس» الشعبوية و«رابطة الشمال» اليمينية المتطرفة، والتي أطلقت سلسلة من التحدّيات السياسية والمالية في وجه الشركاء ورفعت لواء التمرّد على القواعد الأساسية التي يقوم عليها المشروع الأوروبي الذي تجاهر بعزمها على تغييره.
نجحت المفوّضية الأوروبية عندما ضغطت بكل قوتها لمنع تكليف رئيس للحكومة سبق أن دعا مراراً للخروج من اليورو، وارتضت أستاذاً في القانون لا خبرة سابقة له في عالم السياسة الإيطالية المعقّدة، ولا قدرة على التأثير في مسار حكومة لم يضع هو برنامجها ولم يكن له أي قول في اختيار أعضائها.
لم يكن سرّاً على أحد أن رئيس الوزراء الإيطالي جيوزيبي كونتي قد اكتفى خلال الأشهر الأولى من ولايته بدور الكاتب العدل الذي ينفّذ مشيئة الشريكين في الائتلاف الحكومي الذي وقع منذ اليوم الأول رهينة الحسابات الانتخابية لوزير الداخلية وزعيم رابطة الشمال ماتّيو سالفيني واستفزازاته المتتالية في وجه بروكسل والمحور الفرنسي الألماني. قبلت بروكسل التحدّي في المرحلة الأولى، لكنها سرعان ما أدركت أن المواجهة هي الحلبة التي يسعى سالفيني لاستدراجها إليها لزيادة شعبيته وقرّرت المراهنة على كونتي لإبطال مفعول المتفجرة الإيطالية التي يلوّح بها وزير الداخلية ويهدد باستخدامها.
حتى نهاية السنة الماضية لم يصدر عن كونتي أي موقف يعارض الخطوط التي يرسمها زعيما حركة «النجوم الخمس» و«رابطة الشمال» داخل الحكومة، ولم يُسمع منه أي تصريح يلطّف أجواء العلاقات مع الشركاء الأوروبيين التي كانت استفزازات سالفيني وتحدياته تشحنها باستمرار. لكن بعد نجاحه في المفاوضات المعقّدة مع المفوضية الأوروبية حول مشروع الموازنة، شعر كونتي بأن الساعة قد أزفت للخروج عن طوق الائتلاف وممارسة صلاحياته كاملة، بعد أن لمس أن ثمّة قابليّة شعبية متزايدة لهذه الخطوة وترحيباً أوروبياً واضحاً بها.
خلافاً لكل السياسيين الإيطاليين الذين يعشقون الظهور في البرامج التلفزيونية، يميل كونتي إلى العمل والتحرّك بعيداً عن الأضواء. لكنه فاجأ الجميع عندما قرر منذ أسبوع أن يظهر مع الصحافي الشهير برونو فيسبا في برنامجه المعروف، وكانت تصريحاته الأولى بمثابة تحدٍّ مباشر لوزير الداخلية حول موضوع المهاجرين عندما قال: «إذا رفض وزير الداخلية استقبالهم في الموانئ الإيطالية، سأذهب بالطائرة لإحضارهم». تلك كانت الهزيمة الأولى التي يتعرّض لها وزير الداخلية في الملفّ الذي تدور حوله استراتيجيته السياسية والانتخابية.
تحدّث كونتي، للمرة الأولى، عن الحدود الأخلاقية التي لا يمكن للحكومة أن تتجاوزها، واستعادة «كرامة الدولة التي لطّختها عنتريّات وزير الداخلية»، كما جاء في تعليق لمحلّل مقرّب من رئاسة الجمهورية.
وُلد كونتي في كنف عائلة متواضعة من الجنوب ومارس المحاماة في روما ثم التعليم الجامعي في فلورانسا، لكنه كان بعيداً كل البعد عن دوائر النفوذ والسلطة التي يتدرّج فيها السياسيون الإيطاليون عادةً. لم ينتمِ أبداً إلى أي حزب، علماً بأنه كان من مؤيدي الأحزاب اليسارية في الانتخابات كما يقول أحد أصدقائه. أدرجته حركة «النجوم الخمس» على لائحة مرشحيها للحكومة كوزير للإدارة العامة، لكن المفاوضات التي أثمرت الائتلاف الحكومي الراهن اقتضت الاتفاق على شخصية محايدة لرئاستها ووقع الاختيار على كونتي.
طوال الأشهر الستة الأولى من ولايته لم يخرج كونتي عن الدور الثانوي المرسوم له في خريطة الطريق الحكومية، لكن مع بروز الخلافات بين الحركة والرابطة بدأ يلعب دور الوسيط ويوسّع دائرة تحرّكه، مستنداً إلى وزيري الاقتصاد والخارجية بعيداً عن الصخب المفرط في المشهد السياسي الإيطالي. وعلى عكس زعيمي الحركة والرابطة يقيم كونتي علاقات ممتازة مع رئيس الجمهورية، يجمع بينهما الاختصاص القانوني واحترام القواعد في بلد اعتاد على تطويع القواعد والقوانين لخدمة الأهداف السياسية والمصالح الشخصية.
أوروبا تبحث عن قيادات سياسية تضع حداً للتطرف اليميني
أوروبا تبحث عن قيادات سياسية تضع حداً للتطرف اليميني
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة