هل تصبح وسائل الإعلام قوة ضد الديمقراطية؟

دور الفضائيات في انتفاضات «الربيع العربي»

هل تصبح وسائل الإعلام قوة ضد الديمقراطية؟
TT
20

هل تصبح وسائل الإعلام قوة ضد الديمقراطية؟

هل تصبح وسائل الإعلام قوة ضد الديمقراطية؟

يرى كثير من المراقبين أن دور الإعلام الفضائي العربي كان ملتبسا خلال الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في عدد من البلدان العربية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ويعود ذلك إلى المبالغة في التركيز على قضايا معينة أو الانحياز إلى بعض الأطراف السياسية وتضخيم دورها، وفي نفس الوقت تجاهل دور قوى أخرى. وقد تحكمت الدوافع الآيديولوجية والأهداف السياسية بمتابعة القنوات لأحداث الاحتجاجات، نظرا لأن أغلب وسائل الإعلام الفضائية مملوكة من الدولة، أو تحصل على دعم مالي ولوجيستي من الدول التي تبث.
ورغم ذلك، لعبت القنوات الفضائية وشبكات التواصل الاجتماعي دورا مؤثرا وإيجابيا تمثل في استفادة الجماهير الشعبية من الطاقة التي خلقتها فيها وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، لمواصلة الاحتجاجات ضد محاولات تيار الإسلام السياسي فرض شكل جديد من الاستبداد، بعد فوزه بالسلطة عن طريق الشرعية الانتخابية، خصوصا في مصر وتونس، فتم الانتقال إلى شكل جديد من الاحتجاج بدلا من «التنظيم الفضائي» عندما شكل الشباب الواعي حركات جديدة، تطالب بتحقيق المطالب التي رفعتها الاحتجاجات «حرية، كرامة، عدالة اجتماعية»، وترفض سلطات الشرعية الانتخابية، التي تنكرت لوعودها وانفردت بالسلطة، وحرمت الحركات الاجتماعية والقوى السياسية الأخرى من المشاركة في صنع القرار السياسي، حيث نجحت حركات «تمرد» في مصر وتونس في تنظيم مظاهرات مليونية حقيقية، استطاعت إسقاط سلطة الإخوان في مصر وإضعاف سلطة حركة النهضة في تونس التي فقدت قدرتها على الاستمرار في التحكم بالسلطة، على الرغم من مساندة بعض النخب السياسية لها.
يبدأ الباحث الدكتور سويم العزي، في كتابه الجديد المعنون «نظرة ثانية بخصوص الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي والحراك السياسي العربي»، بطرح تساؤلات عن هدف القنوات الفضائية وشبكات التواصل الاجتماعي، منها: «ما الكيفية التي تتمكن بها شبكات التواصل الاجتماعي من خلق التأثير؟ وهل هناك أهداف محددة وراءه؟ وما الوسائل التي تتمكن بها من جلب الانتباه حول قضايا معينة دون غيرها؟ هل تخفي وراءها عملية التلاعب بالمشاعر بهدف استعمار مشاعر الأفراد؟ ولغرض الإجابة على تلك التساؤلات يقوم الباحث بمعالجة الموضوع من زاويتين، الأولى من الزاوية السسيولوجية لغرض التعرف على ماهية عمل الفضائيات، وثانيا من الزاوية السيكولوجية بهدف الوقوف على الآليات التي تؤثر فيها على السلوك الاجتماعي» ص 5.
وعند تحليله لأسباب تزايد أعداد الذين يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي، التي لم تقتصر على منطقة جغرافية معينة، بل تشمل كل دول العالم المتطورة منها والمتخلفة، يرى أنها تعود إلى حاجة الفرد إلى إثبات الذات. ففي الدول المتطورة أدى المجتمع الاستهلاكي إلى تهميش أعداد واسعة من المواطنين، نتيجة قيام الهرمية الاجتماعية على التملك التي تتمتع بها قلة من السكان، أما في المجتمعات النامية «المتخلفة» فإن القهر السياسي والاجتماعي حرم الأغلبية من ممارسة الحرية. لذلك أصبح كل هؤلاء يبحثون عن وسيلة يتجاوزن بها واقعهم، فوجدوها في شبكات التواصل الاجتماعي كواقع افتراضي لإشباع الذات.
يناقش الباحث هذه الموضوعات وغيرها في خمسة فصول، حيث تناول في الفصل الأول العلاقة بين الديمقراطية ووسائل الإعلام، مشيرا إلى أن وسائل الإعلام يمكن أن تكون قوة ضد الديمقراطية، بسبب عدم قيامها بوظيفتها الإعلامية بشكل صحيح، خصوصا التجارية منها، فتصبح وسائل إعلام تدافع عن ثقافة السلطة القائمة، بسبب تملكها من قبل أقلية من الشركات المتعددة الجنسية التي ترتبط بوشائج متنوعة مع السلطات الحاكمة ونخبها المتنفذة.
أما في الفصل الثاني فقد قام الباحث، بتحليل الآليات السيكولوجية للتأطير السياسي للفضائيات الإعلامية، متناولا مفهوم الخبر كسلعة تقوم بتسويقها، حيث تركز وسيلة الإعلام على خلق علاقة عاطفية بين المعلومات التي تقدمها والفرد، مما يخلق تبعية المشاهد لوسيلة الإعلام باعتبارها «المصدر الرئيس للثقافة والمتعة».
تناول الفصل الثالث الفضائيات العربية الإخبارية، التي دخلت إلى المجتمع العربي في بداية تسعينات القرن الماضي، باعتبارها وسائل إعلام مملوكة للدولة تعكس وجهات نظر الجهات الرسمية حول التناقضات والصراعات السياسية والاجتماعية، مما أدى إلى نقل الصراعات الوطنية من محيطها المحلي إلى المحيط العربي، فلم يعد، على سبيل المثال، الصراع العرقي والقبلي في السودان والعراق وكذلك الصراعات الطائفية في لبنان والعراق وغيرها من البلدان ذات صبغة محلية، بل أصبح المجتمع العربي يتفاعل مع مجريات هذه الصراعات ويؤثر عليها سلبا أو إيجابا، تبعا للمعلومات التي تقدمها الفضائيات العربية.
يناقش الباحث في الفصل الرابع دور شبكات التواصل الاجتماعي في الحراك الشعبي، من خلال تغيير وظيفتها من اللهو والدردشة، إلى التنافس مع القنوات الفضائية ووسائل الإعلام الأخرى في توجيه الرأي العام لأهداف محددة، وتبتعد عما تطرحه القنوات الفضائية ورغبات السلطات الحاكمة ورقابتها مما جعلها تتحول تدريجيا إلى «سلطة خامسة» نتيجة الدور السياسي الذي تقوم به بعد أن أصبحت لها وظائف محددة، حسب رأي سيغريد بارينغورست (Sigrid Baringhorst)، من أهمها: الوظيفة البرنامجية لتعبئة الاحتجاجات، الوظيفة الإدراكية لخلق الإنتاج المعرفي والاتصالات، الوظيفة الوجدانية لتكوين الهيئة الافتراضية، الوظيفة التكنيكية لاستخدام الإنترنت كسلاح وهدف، وأخيرا وظيفة التنظيم الاجتماعي لشبكات عابرة للقارات. كما أن لهذه الشبكات وظيفة سيكولوجية تتمثل في إشباع رغبة الأفراد في إثبات الذات، «ما دمت موجودا على الإنترنت وأرى الآخر والآخر يراني فأنا موجود».
في الفصل الخامس، يحلل الباحث أسباب التخبط الفكري والسياسي التي وقعت فيها حركة الاحتجاجات الشعبية، مشيرا إلى أن ذلك يعود إلى غموض مواقف النخب المثقفة وقلة عطائها الفكري، الأمر الذي أدى إلى أن تقع تحركات الجماهير الشعبية تحت تأثير الشعارات السياسية اليومية، مما أفقدها الديمومة بسبب عدم توفر غطاء فكري لها، بمعنى آخر إن تحرك الناس يقوم على العاطفة السياسية وليس الوعي الثقافي، وهذا ما يفسر ضعف المشاركة في الانتخابات التي أعقبت سقوط الأنظمة الاستبدادية في عدد من البلدان العربية، حيث تراوحت نسبة المشاركة بين 50 - 60% في حين خرج الناس بالملايين إلى الشوارع طلبا للحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية... ص 171.
الكتاب ممتع ومفيد، على الرغم من حاجة القارئ إلى مستوى معين من المعرفة بعلم النفس السياسي والاجتماعي، حيث مزج الباحث بينها لعرض موضوعاته. وتتمثل أهمية الكتاب في:
أولا: إلقاء الضوء على دور القنوات الفضائية وشبكات التواصل الاجتماعي التي نجحت في تحفيز المشاعر لدى أعداد كبيرة من الناس في الكثير من الأقطار العربية للمطالبة بحقوقها، من خلال الاشتراك في الانتفاضات والاحتجاجات، والأسباب التي أدت إلى عدم تحقيق الاحتجاجات النتائج المرجوة منها، بعد أن خطفت القوى التقليدية السلطة، خصوصا قوى تيار الإسلام السياسي، التي امتزجت خبرتها التنظيمية بالمال السياسي والدعم الإعلامي الخارجي.
ثانيا: تناول جديد لدور وسائل الإعلام، التي تحولت وظيفتها من صنع الرأي العام إلى صنع السلوك السياسي للأفراد، أو بمعنى آخر أصبحت وسائل الإعلام هي الرأي العام، بعد أن أصبحت المادة التي يحصل عليها الفرد من القنوات الفضائية قادرة على تعديل السلوك السياسي له، لأن المعلومات التي يقدمها التلفزيون تستند إلى فكرة «إن الخبر الذي أشاهده يجب أن أصدقه لأني أراه أمام عيني»، حسب قول أولكا كوكنا (Olga cuenca). ص 11
«نظرة ثانية بخصوص الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي والحراك السياسي العربي».
المؤلف: د. سويم العزي.
الناشر: دار الحكمة، القاهرة، 2013.
عدد الصفحات 200 من الحجم الكبير.



حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

لمى الكناني في دور عزيزة
لمى الكناني في دور عزيزة
TT
20

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

لمى الكناني في دور عزيزة
لمى الكناني في دور عزيزة

اخترت موضوعاً لهذه المقالة جزءاً صغيراً، فعلاً سردياً ربما لم يلفت انتباه كل مشاهدي «شارع الأعشى». جزء مهم لغرض المقالة، ولوجود تشابه بينه وبين عنصر آخر في المسلسل، ولأنه يشكل، أيضاً، صورة مصغرة لمقام سردي في رواية «غراميات شارع الأعشى». لا يشغل هذا الجزء سوى دقيقة وعدة ثوان من زمن سرد «عزيزة» (لمى الكناني) في الحلقة الأخيرة. وأعني «عزيزة» الصوت بلا جسد، التعليق الصوتي (voice-over)، الذي يأتي من خارج عالم الحكاية، ومن زمن غير زمن الأحداث فيها؛ وعلى نحو متقطع، يرافق المُشاهدَ من الدقائق الأولى إلى الدقائق، بل الثواني، الأخيرة من المسلسل، وليس «عزيزة» الشخصية، صاحبة «فيه شوط طق، فيه شوط مصري»، التي تعيش وتغني وترقص وتقلد سعاد حسني وتتصرف بتهور وتقع في الغرام بدون توقف في عالم الحكاية.

الصمت بعد «عرس الدم»

لو كنت عضواً في الفريق الذي يُشكِّل «المخرج الضمني» لـ«شارع الأعشى»، لجعلت الصمتَ يعقب فاجعة «عرس الدم»، مُنهياً به المسلسل، فلا يبقى في المشهد الأخير سوى صفحات دفتر مذكرات عزيزة والهواء يقلِّبها ويحركها، ثم تستقر مفتوحة وخالية من أي كتابة، في رمزية لنهاية مفتوحة، قد تطلق العنان لخيال المُشاهد ليكتب فيها النهاية التي يتخيلها، أو النهايات، فما إن يستقر على نهاية، حتى تظهر على شاشة خياله نهاية أخرى. سيكون المشاهد حينئذ في وضع يشبه إلى حد ما وضع قارئ رواية «غراميات شارع الأعشى» بنهايتها المفتوحة: «تمددت روحه (أبو فهد) في الغناء... صار وجه الجازي يظهر له من الضوء المنعكس في أعمدة الكهرباء المحاذية للشارع. يسوق سيّارته البويك على مهل... ويدخل من الشارع الملتوي متجهاً إلى بيته، وصوت الحب عالق في أذنه، ويبتسم وحده في السيارة، ويفكر في حبّة الخال السوداء ويغني وحده: (ماهقيت ان البراقع يفتنني)». وتنتهي الرواية بصوت محمد عبده. ويبقى ما يُحتمل حدوثه لـ«أبو فهد» والجازي مشرعاً للتخيلات والتآويل. أتساءل مبتسماً في هذه اللحظة، لماذا لم يختر «أبو فهد» أغنية أخرى يستمع إليها، أو لماذا لم تختر الروائية بدرية البشر أغنية مثل «أنا أشهد أن البدو حلوين حلوين/ وخفة الدم زودتهم حلاوة». وأضحك ضحكة صغيرة صامتة من الفكرة التي أخفقتُ في إبقائها خارج النص، مع الأغنية التي تعود تاريخياً إلى ما قبل زمن أحداث المسلسل بسنوات قليلة.

دفتر «عزيزة» يغري بإعادتها

أما في المسلسل، فيبدو أن الدفتر الملطخ بدم عواطف (آلاء سالم)، أوحى لـ«المخرج الضمني» فكرة إنهاء المسلسل بصوت «عزيزة» الساردة، حتى بعد أن تغادر «عزيزة» الشخصية في الداخل «شارع الأعشى»، وتغيبها ظلمة الطريق في رحلة الهروب.

اللافت أن «عزيزة» الساردة (voice-over narrator)، تبدو مختلفةً في الثواني الأخيرة. فلم تعد الذات/ الأنا الساردة التي تستمد مادة سردها وتعليقها من تجربتها، وتجارب من حولها، ومن الأحداث التي تشهدها وتتفاعل معها، كما يتجلى في الاقتباس التالي وفيه تصف، في بداية الحلقة الأولى، بدايات الأيام في حياة أسرتها: «كان يومنا يبدأ لما يُشغِّل أبوي الرادو... صوت إبريق الفواح يتداخل مع أصوات الأغاني اللي بينَّا وبينها بحور... من إذاعة لندن أصوات تملأ بيتنا وتفيض (على) شارع الأعشى».

يشعر المشاهد، و«عزيزة» تتكلم خلال الثواني الأخيرة، أنه يستمع إلى ساردة مختلفة، ساردة ذات معرفة تتجاوز الأحداث في ماضيها وماضي أسرتها، معرفة تحيط بما لم يحدث بعد، وبما يحتمل حدوثه في المستقبل، حين تعلق بنبرة تشي بتأكدها مما تقول: «بنات الأعشى باقين... حكاياتهم وأحلامهم هي اللي ما تموت... راجعين يعبون باقي صفحات دفتري... راجعين ومكملين مشوارنا... معكم». بالإضافة إلى تمدد حدود معرفة عزيزة لتبدو كساردة عليمة، يدرك المشاهد أنها، وخلال هذه الثواني بالذات، تملك وعياً ميتاقصياً، بأنها وبنات «شارع الأعشى» الأخريات شخصيات يعشن في حكاية، في عالم تخييلي، وأن حكايتهن لم تنته بعد، وأنهن عائدات في حكاية، وربما، حكايات أخرى، وتعي بذاتها ساردةً، وبأن هنالك متلقين ينصتون لما تقول، فتوجه كلامها إليهم: «راجعين ومكملين مشوارنا معكم... انتظرونا». لا أتذكر أنها خاطبت المشاهد مباشرة، وبهذه الطريقة من قبل، أو تلفظت بما يدل على وعي «ميتاقصي» بأنها والآخرين شخصيات خيالية في حكاية. في رأيي إن تلفظها الأخير فعل سردي نشاز، غير متسق نوعياً مع تعليقاتها السابقة. ربما يدل على ارتباك المخرج الضمني من ناحية، وعلى حرصه على إنهاء المسلسل بإعلان «برومو» لموسم ثانٍ من ناحية أخرى.

إلهام علي
إلهام علي

في انتظار بنات «شارع الأعشى»

سينتظر المشاهدون عودة بنات «شارع الأعشى»، ولكن هل تعود «عزيزة» الساردة، باختلافها الأخير، الذي اخترقت به أحد أعراف السرد الواقعي بإطلالتها الصوتية بإعلانٍ عن موسم ثان، يفترض ألا يعلم أحد به سوى المخرج الضمني؟ وهل تعود أيضاً بوعي ميتاقصي؟ أم أن تلك اللمحة «الميتاقصية» العابرة حدثت بدون قصد ووعي من المخرج الضمني؟

بالرغم من عنصر المفاجأة فيه، إن تحول «عزيزة» الساردة، ولو لثوانٍ في النهاية، أمر يمكن تَقَبُله إذا ما قورن بظهور الإرهابي المنشق جزّاع/منصور (نايف البحر) ومجيئه إلى «شارع الأعشى» للبحث عن أمه. ظهوره في واقع الحكاية يحدث بطريقة تشبه تطعيم شجرة بغصن من شجرة أخرى ولكن بأيدٍ غير ماهرة ومرتبكة؛ وإدخاله في عالم الحكاية متكلف وتنقصه السلاسة، وإيواؤه في بيت «أبو إبراهيم» (خالد صقر) تحت ذريعة وفاء «أم متعب» (إلهام علي) لأمه (ريم الحبيب)، واستمراراً للعب «أبو إبراهيم» دور «السنيد» (sidekick) لـ«أم متعب»، كلها أمور تتحدى قدرة المشاهد على تعطيل عدم التصديق. بدخول جزّاع فضاء وزمان الحدث ليكون حبيباً آخر لعزيزة تحقق معه حلمها في الهروب، يبدأ الترهل بالنفاذ إلى بنية المسلسل السردية والبطء إلى إيقاع حركة الأحداث إلى حد إثارة الملل في المشاهد.

تحولات صوت «عزيزة»

يشكل تحول «عزيزة» غير المسبوق إلى ساردة عليمة نقطة التقاء وتشابه بين المسلسل ورواية بدرية البشر. يُذَكر بتحول «عزيزة» الساردة بضمير المتكلم في الرواية إلى ساردة عليمة في فصول خمسة في الرواية (22، 13، 11،10 ،7). (ناقشت الموضوع في مقالة عن التقنية السردية في «غراميات شارع الأعشى»، نُشِرَت في صحيفة اليوم في 2016-05-07).

تراوح «عزيزة» في الفصول الخمسة بين سرد الشخصية (character narration) بضمير المتكلم بمحدودية المعرفة المرتبطة به تقليدياً في السرد الواقعي، والسرد العليم بضمير الغائب. فتروي في الفصل السابع، على سبيل المثال، حواراً قصيراً يدور بين الجازي ومزنة في بيت «أم متعب»، بينما هي فوق سطح بيتهم، وتنقل حواراً، لم تشهده، بين وضحى ومزنة في سوق الحريم، وكأنما تفتح في رأس ضاري كوة كالكوى الصغيرة في جدار سطح بيتهم تطل خلالها على أفكاره حين تروي: «بينما لا يجد في منزله سوى امرأة لا يلمس منها إلا حنانها، لأن قوتها الخفية تتحرك فقط في رأسها ولسانها. لا يعرف إلا هذه المرأة التي عملت طويلاً من أجلهم، فيرهقه شعوره بأنه عاجز عن تولي الأمر عنها» (الفصل 7، ص 66). ليس في هذا الفصل الذي يبدأ بصوتها «خرج والدي بعد صلاة العصر وركب سيارته، وقبل أن يدير محركها اكتشف أن مكان الراديو فارغ»، ما يدل على أن «عزيزة» تتوقف عن السرد، لتكمل الساردة العليمة المهمة. ويتكرر هذا المقام السردي في الفصول الأربعة الأخرى.

يرى عالم السرد البلاغي جيمس فيلان أن «سرد الشخصية أرض إنتاج خصبة للسرد المضاد للمحاكاة، غير الطبيعي، خصوصاً لاندلاعات المضاد للمحاكاة (antimimetic) المتفرقة داخل السرد الذي يكون المحاكي (mimetic) شفرته المهيمنة» (بويطقيا السرد غير الطبيعي، 197). يمكن القول إن اندلاعات المضاد للمحاكاة في أداء «عزيزة» بانتقالها من سرد الشخصية إلى السرد العليم هي «إفاضات/ paralepses» بلغة جيرار جينيت، أي سرود معلومات وأحداث تتجاوز محدودية معرفتها، ونقل ووصف ما لا يمكن لها إدراكه مثل أفكار ومشاعر ضاري، ليكون الناتج تمثيلاً سردياً مضاداً للمحاكاة (antimimetic narrative representation)، حسب تنظير علماء السرد غير الطبيعي مثل برايان ريتشاردسون وألبر جان. في رواية البشر، يتجاور المحاكي مع المضاد للمحاكاة، حيث يبدو الأخير تعبيراً عن تمرد على مواضعات السرد الواقعي.

هذه الكتابة حصيلة جولة ممتعة في «شارع الأعشى» في الرواية والمسلسل، وكأي كتابة لم تتسع لكل ما يراد كتابته، ما يعني أنها وكأي كتابة، أيضاً، تخلق الحاجة إلى كتابة أخرى تكملها. ربما تكون الكتابة الأخرى عن موسم ثان من مسلسل «شارع الأعشى»!

* ناقد وكاتب سعودي