محاكمة الاحتلال النازي لباريس في رواية فرنسية

باريس تحت الاحتلال الألماني 1940
باريس تحت الاحتلال الألماني 1940
TT

محاكمة الاحتلال النازي لباريس في رواية فرنسية

باريس تحت الاحتلال الألماني 1940
باريس تحت الاحتلال الألماني 1940

اختلف النقّاد والدارسون في تصنيف رواية «دورا بروديه» للروائي الفرنسي باتريك موديانو، فهناك مَنْ يراها سيرة، وآخرون ينظرون إليها كمذكّرات، فيما تعتقد فئة ثالثة أنها تاريخ فردي لشخصية فرنسية تتحدر من أصول يهودية، وربما ذهب البعض أبعدَ من ذلك حين نفى عنها صفة الرواية، ويبدو أن الجميع محقّون إلى حدٍّ ما لأن هذا النص السردي يشتمل على كل التصنيفات المُشار إليها سلفًا لكن القراءة النقدية المتفحصة التي تفكّك العمل إلى عناصره الأولية تقول إنها «نوفيلا» مثل العديد من أعماله السردية الأخرى التي تقوم على فعل التذكّر، واسترجاع الماضي، والنبش في أحداثه التي مرّ عليها خمسة عقود إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن باتريك موديانو قد كتب صفحات هذا النص الأدبي في أواخر عام 1996.
تبدو هذه النوفيلا الصادرة عن «دار صفصافة» بالقاهرة ترجمة د. ناهد عبد الحميد، أفقية في بنائها حتى وإن عادت إلى الوراء ثم انطلقت بخطٍ مستقيم حين هربت دورا بروديه من مدرسة الدير الكاثوليكية بباريس في 14 ديسمبر (كانون الأول) 1941. ثم احتجِزت يوم 13 أغسطس (آب) 1942 في سجن «توريل» وأمضت ثمانية أشهر في معتقل درانسي، ورُحّلت من هناك إلى أوشفيتز، معسكر الاعتقال النازي، سيئ الصيت، ولاقت مصيرها المحتوم هناك. هذه هي الثيمة الأفقية التي تتمحور عليها النوفيلا لكن التفاصيل تختبئ وراء طبقات متعددة للأسرة المكوّنة من ثلاثة أفراد وهم الأب إرنست بروديه، والأم سيسيل بورديج، والابنة دورا بروديه، وبالمقابل هناك الراوي أو الوجه الآخر للمؤلف الذي يبحث في كل صغيرة وكبيرة، ويتذكّر، ويمارس فعل التخيّل، ويتماهى في بعض الأحيان مع الشخصية المركزية التي تمثل العمود الفقري للنص السردي.
مَنْ يقرأ روايات موديانو يكتشف بسهولة أنه كاتب متقشف لا يميل إلى الإسهاب، فعبارته بليغة، وجملته الروائية موجزة خالية من الترهل، وهو «يقول أشياء كثيرة بكلمات قليلة» على حد تعبير الناقد الأميركي مارك بوليتزوتي الذي ترجم العديد من روايات موديانو من الفرنسية إلى الإنجليزية مُقدِّمًا إياها إلى القرّاء الأميركيين الذين أُعجبوا بتقنياته السردية الجديدة، ومعالجاته المختلفة لثيمات كثيرة مثل الاحتلال النازي لفرنسا، وسؤال الهُوية بتجلياتها القومية والدينية والثقافية، وعزلة الكائن البشري وما إلى ذلك.
تأثر موديانو بمارسيل بروست ولويس فرديناند سيلين وفلوبير لكنه صنع عوالمه الخاصة به التي تحيل إليه مثل الغوص في الذاكرة، واستنطاق الأمكنة، وخاصة الباريسية منها، ومتابعة المصائر البشرية لبعض الشخصيات الرئيسية التي تشكّل العصب النابض لسردياته التي جاوزت العشرين رواية نال معظمها جوائز رفيعة أبرزها جائزة الغونكور عن رواية «شارع الحوانيت المُعتمة» 1978، وجائزة نوبل في الأدب عام 2014 حيث أوضح القائمون عليها: «إن موديانو كُرّم بفضل فن الذاكرة الذي عالج من خلاله المصائر الإنسانية الأكثر عصيانا على الفهم وكشف عالم الاحتلال». وربما تختزل هذه الجملة أبرز المحاور التي اشتغل عليها موديانو وخلق عالمه السردي الذي يرتكز على فعلي التذكّر والتخيّل المتشابكين اللذين لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. لا شك في أنّ استعمال موديانو لهذا الإعلان الذي نُشر في صحيفة «باريس سوار» هو نوع من الميتا سرد الذي ستعززه الوثائق الشخصية لدورا بروديه، والسجلات المدرسية لها، والتقارير الرسمية التي تحتفظ بها مراكز الشرطة، وإدارات السجون. ومن خلال هذا الإشعار المقتضب يرتدّ موديانو إلى الوراء، ويعود إلى الحي الذي عرفه جيدًا حيث يتماهى الراوي مع حياة دروا بروديه وموتها الغامض الذي سوف يتكشّف تباعًا من وثيقة رسمية إلى أخرى، ومن مكان نابض إلى مكان حميمي يرفض أن يغادر الذاكرة حتى لو تعرّض إلى الطمس والمحو والإلغاء.
أشرنا إلى أنّ هذه النوفيلا تتألف من أربع طبقات في أقل تقدير حيث يكشف الراوي من خلال البطاقات التي أعدت بعد عشرين عامًا من الحرب الاستعمارية التي كانت تشنّها فرنسا في القارة الأفريقية أن الأب إرنست بروديه المولود في فيينا عام 1899 «كان مُجندًا من الفئة الثانية في الفيلق الأجنبي الفرنسي» لكنه لم يتمكن من تحديد التاريخ سواء أكان عام 1919 أم 1920؟ ثم يتابع الراوي شخصية الأب إرنست من دون أن يعرف مكان وكيفية تجنيده، وهل أنجز معاملة التجنيد في النمسا أم في فرنسا لكنه يأخذنا إلى مرسيليا ومنها إلى شمال أفريقيا لأن ليوتي، الحاكم الفرنسي في المغرب كان في أمس الحاجة إلى 30 ألف جندي كي يفرض الأمن في المناطق الثائرة في بعض المدن المغربية. هكذا يتقصى موديانو شخصياته ويقتفي أثرها بغية الحصول على المعلومات الأساسية التي تفيد القارئ في رحلة القراءة والاستكشاف إلى أن نتوصل في خاتمة المطاف إلى معلومة مهمة تفيد بأن المجند إرنست بروديه قد أصبح معاقًا بنسبة في المائة 100 الأمر الذي اضطر قائد الفيلق الأجنبي إلى تسريحه، ومع ذلك فلم يُمنَح الجنسية الفرنسية، بل ظلّ يتعرض إلى أعمال الدهم والتفتيش حتى رُحل في النهاية إلى أوشفيتز ليواجه الموت المرعب خنقًا بالغاز أو رميًا بالرصاص.
في الطبقة الثانية من النوفيلا نتعرّف على سيسيل بورديج المولودة في بودابست عام 1907 وكانت تنتمي إلى عائلة يهودية من أصل روسي استقرت في بودابست في بداية القرن. وكانت تعمل خيّاطة، وفي عام 1924 تزوجت من إرنست بروديه، وظل الزوجان يقيمان في الفنادق حتى بعد ولادة دورا لأبوين تطاردهما مراكز التفتيش وسلطات الاحتلال النازي لأنهما من أصول يهودية لا غير.
أما الطبقة الثالثة من الرواية فتتمحور على شخصية دورا بروديه التي التحقت في سنّ الرابعة عشرة بمدرسة الدير الكاثوليكية، وقُيدت باسم «سوزان ألبير»، وأمضت فيها عامًا ونصف العام لكنها قررت الهرب يوم 14 ديسمبر (كانون الأول) 1941، فهذه المدرسة كانت تضم فتيات مجهولات الهُوية، أو صبايا يتحدرنَ من عوائل فقيرة جداً، ولم يعرف أحد من صديقاتها أو الراهبات هويتها الحقيقية. ارتكبت دورا مخالَفتَين من وجهة نظر الشرطة والسلطات الألمانية فهي يهودية قاصر وهاربة من مدرسة الدير «قلب السيدة مريم» كما أنها تفتقر إلى ملف الرقم اليهودي الذي يتيح للجهات المعنية الوصول إليها في أي وقت تشاء. وإذا كان الأب مُجنّداً مُعاقاً والأم خيّاطة فإن الابنة كانت مثقفة، تهوى المسرح والشعر، وتعلّمت تفصيل وخياطة ملابس التمثيل المسرحي. لم تلتقِ الشخصيات الثلاث دفعة واحدة، فلقد غادر الأب والابنة سجن «درانسي» يوم 18 ديسمبر (كانون الأول) 1943. فيما غادرت سيسيل السجن ذاته بعد خمسة أشهر من ترحيل زوجها وابنتها ويموتوا في أوشفيتز، مركز الاعتقال النازي.
ربما تكون الطبقة الرابعة والأخيرة هي ذاكرة الراوي التي تقنّع بها المؤلف باتريك مودياني، فهو الأقدر من الشخصيات الثلاث على رؤية الجانب المظلم من التاريخ الفرنسي في ظل الاحتلال النازي، ولعله الأكثر قدرة على الغوص في العوالم الضائعة التي فقدت هُويتها لكن الرائحة ما تزال عالقة هناك في الأحياء المقوّضة، والشوارع المطموسة التي أعاد تشكيلها من جديد، وبعث الحياة في أزقتها، وشققها السكنية المهجورة. إنه استدعاء مبهر للزمان والمكان والشخصيات التي عانت من الآلام الممضّة في أقسى لحظات التاريخ عُنفاً وتوتراً وجنونا.



مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
TT

مصر: الكشف عن صرح معبد بطلمي في سوهاج

المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)
المعبد البطلمي تضمّن نقوشاً ورسوماً متنوّعة (وزارة السياحة والآثار)

أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية، السبت، عن اكتشاف صرح لمعبد بطلمي في محافظة سوهاج (جنوب مصر). وذكرت البعثة الأثرية المشتركة بين «المجلس الأعلى للآثار» في مصر وجامعة «توبنغن» الألمانية أنه جرى اكتشاف الصرح خلال العمل في الناحية الغربية لمعبد أتريبس الكبير.

وعدّ الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، الدكتور محمد إسماعيل خالد، هذا الكشف «النواة الأولى لإزاحة الستار عن باقي عناصر المعبد الجديد بالموقع»، وأوضح أنّ واجهة الصرح التي كُشف عنها بالكامل يصل اتساعها إلى 51 متراً، مقسمة إلى برجين؛ كل برج باتّساع 24 متراً، تفصل بينهما بوابة المدخل.

ولفت إسماعيل إلى أنّ الارتفاع الأصلي للصرح بلغ نحو 18 متراً، وفق زاوية ميل الأبراج، ما يضاهي أبعاد صرح معبد الأقصر، مؤكداً على استكمال أعمال البعثة في الموقع للكشف عن باقي المعبد بالكامل خلال مواسم الحفائر المقبلة، وفق بيان للوزارة.

جانب من صرح المعبد المُكتشف (وزارة السياحة والآثار)

بدوره، قال رئيس «الإدارة المركزية لآثار مصر العليا»، ورئيس البعثة من الجانب المصري، محمد عبد البديع، إنه كُشف عن النصوص الهيروغليفية التي تزيّن الواجهة الداخلية والجدران، خلال أعمال تنظيف البوابة الرئيسية التي تتوسَّط الصرح، كما وجدت البعثة نقوشاً لمناظر تصوّر الملك وهو يستقبل «ربيت» ربة أتريبس، التي تتمثّل برأس أنثى الأسد، وكذلك ابنها المعبود الطفل «كولنتس».

وأوضح أنّ هذه البوابة تعود إلى عصر الملك بطليموس الثامن الذي قد يكون هو نفسه مؤسّس المعبد، ومن المرجح أيضاً وجود خرطوش باسم زوجته الملكة كليوباترا الثالثة بين النصوص، وفق دراسة الخراطيش المكتشفة في المدخل وعلى أحد الجوانب الداخلية.

وقال رئيس البعثة من الجانب الألماني، الدكتور كريستيان ليتز، إنّ البعثة استكملت الكشف عن الغرفة الجنوبية التي كان قد كُشف عن جزء منها خلال أعمال البعثة الأثرية الإنجليزية في الموقع بين عامَي 1907 و1908، والتي زُيّن جانبا مدخلها بنصوص هيروغليفية ومناظر تمثّل المعبودة «ربيت» ورب الخصوبة «مين» وهو محوط بهيئات لمعبودات ثانوية فلكية، بمثابة نجوم سماوية لقياس ساعات الليل.

رسوم ونجوم تشير إلى ساعات الليل في المعبد البطلمي (وزارة السياحة والآثار)

وأضاف مدير موقع الحفائر من الجانب الألماني، الدكتور ماركوس مولر، أنّ البعثة كشفت عن غرفة في سلّم لم تكن معروفة سابقاً، ويمكن الوصول إليها من خلال مدخل صغير يقع في الواجهة الخارجية للصرح، وتشير درجات السلالم الأربع إلى أنها كانت تقود إلى طابق علوي تعرّض للتدمير عام 752.

يُذكر أنّ البعثة المصرية الألمانية المشتركة تعمل في منطقة أتريبس منذ أكثر من 10 سنوات؛ وأسفرت أعمالها عن الكشف الكامل لجميع أجزاء معبد أتريبس الكبير، بالإضافة إلى ما يزيد على 30 ألف أوستراكا، عليها نصوص ديموطيقية وقبطية وهيراطيقة، وعدد من اللقى الأثرية.

وعدَّ عالم الآثار المصري، الدكتور حسين عبد البصير، «الكشف عن صرح معبد بطلمي جديد في منطقة أتريبس بسوهاج إنجازاً أثرياً كبيراً، يُضيء على عمق التاريخ المصري في فترة البطالمة، الذين تركوا بصمة مميزة في الحضارة المصرية». وقال لـ«الشرق الأوسط» إنّ «هذا الاكتشاف يعكس أهمية أتريبس موقعاً أثرياً غنياً بالموروث التاريخي، ويُبرز تواصل الحضارات التي تعاقبت على أرض مصر».

ورأى استمرار أعمال البعثة الأثرية للكشف عن باقي عناصر المعبد خطوة ضرورية لفهم السياق التاريخي والمعماري الكامل لهذا الصرح، «فمن خلال التنقيب، يمكن التعرّف إلى طبيعة استخدام المعبد، والطقوس التي مورست فيه، والصلات الثقافية التي ربطته بالمجتمع المحيط به»، وفق قوله.

ووصف عبد البصير هذا الاكتشاف بأنه «إضافة نوعية للجهود الأثرية التي تُبذل في صعيد مصر، ويدعو إلى تعزيز الاهتمام بالمواقع الأثرية في سوهاج، التي لا تزال تخفي كثيراً من الكنوز».