نموذج السياب لا يزال متحكماً في الشعرية العربية

في الذكرى الرابعة والخمسين لرحيله

بدر شاكر السياب  -  علي محمود خضير  -  ناجح المعموري  -  إبراهيم البهرزي
بدر شاكر السياب - علي محمود خضير - ناجح المعموري - إبراهيم البهرزي
TT

نموذج السياب لا يزال متحكماً في الشعرية العربية

بدر شاكر السياب  -  علي محمود خضير  -  ناجح المعموري  -  إبراهيم البهرزي
بدر شاكر السياب - علي محمود خضير - ناجح المعموري - إبراهيم البهرزي

ما زال الشاعر السياب بعد 54 عاماً على رحيله حاضراً في التجارب الشعرية الحديثة، على الرغم من التباين فيما بينها وتنوع علاقاتها والحوار فيما بينها. لكن ما حققه السياب كان وما زال مثيراً لاهتمامات الشعراء والنقاد والأكاديميين، فقد استطاع خلال عمر قصير إرساء خصائص فنية تحولت إلى ملمح أساسي في تجربة الشعر العربي الحديث، وربما الأكثر حضوراً وتمركزاً في هذه التجربة، على الرغم من إنجازات معاصريه، كنازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري، ولاحقاً صلاح عبد الصبور وخليل حاوي وغيرهما.
علام يرتكز هذا الحضور والتميز؟ هنا آراء عدد من الشعراء والنقاد العراقيين:
- ناجح المعموري: أدخل القصيدة فضاءات جديدة
ما زالت تجربة مثيرة... مثيرة لاهتمام التنوعات الثقافية والنقدية بوصفها محاولة رائدة أسست لحظة الانتقال من القافية إلى التفعيلة مع تطوير بالرؤى والعلاقة مع المألوف التقليدي المغايرة عما كانت عليه بالسابق. واتسعت هذه التجربة وتنوعت من خلال الذهاب نحو مفاهيم مغايرة وابتكار وسائل أدخلت القصيدة الحديثة إلى فضاءات جديدة، كالصورة المرئية، والتشكيل، والمكان. وعلينا أن نسجل ريادة السياب المبكرة بالذهاب نحو الأسطورة وتوظيفها للاستفادة من إمكاناتها الفنية المعروفة التي تغذى بها الشعر بوقت مبكر. وهذا يمثل نوعاً من حوار السياب مع جماعة «أبوللو» و«الديوان»، فهما أدخلتا الميثولوجيا في التجربة التحديثية للشعر. وكانت مساهمة عبد الرحمن شكري والعقاد والمازني في التنظير عبر مقالات نقدية منذ 1911، وظهرت في كتاب مشترك للعقاد والمازني باسم «الديوان» في جزأين، وأيضاً لعبت جماعة «أبوللو» دوراً جوهرياً عمق هذا التوجه الذي ابتدأه إليوت بعد الحرب العالمية، وذهب السياب في حواره مع مختلف الموضوعات التي كانت غائبة، كما في قصيدته «بنلوب» (1947)، مثلما ذكر د. محسن أطيمش، وظل اهتمامه متنوعاً وعميقاً، لكنه لم تتجاور معه رؤى ثقافية ونقدية من قبل الشاعر.
وأرى أنه من الخطأ أن نتحدث عن المتبقي من إرث السياب، فهو ما زال مثيراً للجدل والحوار، وهنا مكمن جوهر تجربته وسيرورتها.
- إبراهيم البهرزي: فاصلة معيارية
باعتقادي المتواضع على الأقل، فإن نموذج السياب يشكل فاصلة معيارية (أو «الباراديم»، بحسب ديفيد كون) في متوالية ثورات الشعر العربي القليلة. نموذج السياب، أو «باراديمه»، لم يتم تجاوزه حتى الآن بعد مرور أكثر من سبعة عقود على اجتراحه. فمنذ الثورة السيابية والشعر العربي الحديث بمجمله لم يغادر النموذج السيابي إلا جانحاً، أي خارج إطار النموذج الشعري المتفق عليه تاريخياً ونقدياً وذوقياً. وهذا الجنوح المتمثل بتجارب قصيدة النثر في أشد تجاربها راديكالية يقع خارج متن الشعرية العربية التي اجترح السياب نموذجها الأخير متمثلاً بما أطلق عليه قصيدة الشعر الحر. أما في تجاربها المتساوقة مع الشعرية العربية (كنموذج الماغوط مثلا متفرداً)، فإنها تمثل امتداداً للنموذج السيابي، وهو نموذج قصيدة النثر البدهية (كمصطلح مفارق لقصيدة النثر القصدية، أي تلك التي تقصد عمداً التخلي عن الإيقاع الظاهر، حتى وإن لم يكن مقيداً لسيرورة النص!». إن تجربة السياب ونموذجه لم يتوقفا عند قصيدة التفعيلة (أو «الشعر الحر» مصطلحاً مجازياً) بل هو ممتد ومتواصل في تجارب قصيدة النثر البدهية المتمثلة بالنموذج الماغوطي ونصوص أنسي الحاج الطويلة، ونصوص سركون بولص وفاضل العزاوي وجليل حيدر ونبيل ياسين، ورعد عبد القادر وطالب عبد العزيز، ونماذج كثيرة من النصوص التي لا تكتب النثر بقصدية الهروب من الإيقاع الظاهر لا أكثر!
نموذج السياب الشعري لم يزل متحكماً في متن الشعرية العربية المتطورة بداهةً، أما التشظيات الخارجة عن نموذج أو «باراديم» السياب الشعري والخارجة بقصدية المخالفة، فإنها للأسف لم تشكل نموذجها القادر على الإطاحة بنموذج السياب!
إنها قد تشكل قاعدة كمية واسعة إنتاجاً وانتشاراً، لكنها لم تشكل ذلك النموذج الذي يتجاوز نموذج السياب إلى نموذج آخر منفصل، كما يحدث في كل بنيات الثورات المتعاقبة.
هذا الكلام لا يعني أن تلك التشظيات أقل إبداعاً من نموذج السياب الشعري. إنها مبدعة في شكل آخر يحاول أن يكون نموذجاً، لكنه لم يزل يحاول، في حين أن نموذج السياب قد استقر وتجدد خلال محاولات بناء أركانه، وربما لن يكون سعدي يوسف مثلاً آخر على تجليات هذا النموذج!
- علي محمود خضير: هل يقرأ شعراء اليوم السياب؟
لقد نجح السياب في الشعر كما لم ينجح في شيء غيره، اجتماعياً وسياسياً، وقُيضت له لحظة تاريخية عراقية خاصة، كانت فيها البلاد مركزاً مُستقطِباً وبيئة متلهفة للجديد في كل شيء: الاقتصاد وعلم الاجتماع والأدب والصناعة. تحققت النبوءة واكتملت دورة الأسطوانة، والآن، بعد أكثر من خمسين عاماً، دخل السياب وقصيدته المرحلة التاريخية، درساً متحققاً كاملاً، سواء عبر الثقافة الرسمية «المناهج الدراسية» أو عبر الدرس الأكاديمي الذي لا يزال للسياب فيه تأثير مستمر. ثمة نافذة ثالثة هي نافذة القراءة الشخصية (خارج الإطارين السابقين)، وهي المظلة الخطرة/ الحرة التي يمكن أن يقال تحتها أشياء عدة. هل يَقرأ الشعراء الجدد السياب اليوم؟ أين استقرت أنهار قصيدته الجوفية في أرض الشعر العربي؟ هل يمثل ابن جيكور، الآن، رمزاً أيقونياً أم نصاً شعرياً حيوياً وفاعلاً في المدونة الراهنة؟



«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
TT

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)

وجدت دراسة جديدة، أجراها فريق من الباحثين في كلية الطب بجامعة نورث وسترن الأميركية، أن الأجزاء الأكثر تطوراً وتقدماً في الدماغ البشري الداعمة للتفاعلات الاجتماعية -تسمى بالشبكة المعرفية الاجتماعية- متصلة بجزء قديم من الدماغ يسمى اللوزة، وهي على اتصال باستمرار مع تلك الشبكة.

يشار إلى اللوزة تُعرف أيضاً باسم «دماغ السحلية»، ومن الأمثلة الكلاسيكية لنشاطها الاستجابة الفسيولوجية والعاطفية لشخص يرى أفعى؛ حيث يصاب بالذعر، ويشعر بتسارع ضربات القلب، وتعرّق راحة اليد.

لكن الباحثين قالوا إن اللوزة تفعل أشياء أخرى أكثر تأثيراً في حياتنا.

ومن ذلك ما نمر به أحياناً عند لقاء بعض الأصدقاء، فبعد لحظات من مغادرة لقاء مع الأصدقاء، يمتلئ دماغك فجأة بأفكار تتداخل معاً حول ما كان يُفكر فيه الآخرون عنك: «هل يعتقدون أنني تحدثت كثيراً؟»، «هل أزعجتهم نكاتي؟»، «هل كانوا يقضون وقتاً ممتعاً من غيري؟»، إنها مشاعر القلق والمخاوف نفسها، ولكن في إطار اجتماعي.

وهو ما علّق عليه رودريغو براغا، الأستاذ المساعد في علم الأعصاب بكلية فاينبرغ للطب، جامعة نورث وسترن، قائلاً: «نقضي كثيراً من الوقت في التساؤل، ما الذي يشعر به هذا الشخص، أو يفكر فيه؟ هل قلت شيئاً أزعجه؟».

وأوضح في بيان صحافي صادر الجمعة: «أن الأجزاء التي تسمح لنا بالقيام بذلك توجد في مناطق الدماغ البشري، التي توسعت مؤخراً عبر مسيرة تطورنا البشري. في الأساس، أنت تضع نفسك في عقل شخص آخر، وتستنتج ما يفكر فيه، في حين لا يمكنك معرفة ذلك حقّاً».

ووفق نتائج الدراسة الجديدة، التي نُشرت الجمعة في مجلة «ساينس أدفانسز»، فإن اللوزة الدماغية، بداخلها جزء محدد يُسمى النواة الوسطى، وهو مهم جدّاً للسلوكيات الاجتماعية.

كانت هذه الدراسة هي الأولى التي أظهرت أن النواة الوسطى للوزة الدماغية متصلة بمناطق الشبكة المعرفية الاجتماعية التي تشارك في التفكير في الآخرين.

لم يكن هذا ممكناً إلا بفضل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وهي تقنية تصوير دماغ غير جراحية، تقيس نشاط الدماغ من خلال اكتشاف التغيرات في مستويات الأكسجين في الدم.

وقد مكّنت هذه المسوحات عالية الدقة العلماء من رؤية تفاصيل الشبكة المعرفية الاجتماعية التي لم يتم اكتشافها مطلقاً في مسوحات الدماغ ذات الدقة المنخفضة.

ويساعد هذا الارتباط باللوزة الدماغية في تشكيل وظيفة الشبكة المعرفية الاجتماعية من خلال منحها إمكانية الوصول إلى دور اللوزة الدماغية في معالجة مشاعرنا ومخاوفنا عاطفياً.

قالت دونيسا إدموندز، مرشح الدكتوراه في علم الأعصاب بمختبر «براغا» في نورث وسترن: «من أكثر الأشياء إثارة هو أننا تمكنا من تحديد مناطق الشبكة التي لم نتمكن من رؤيتها من قبل».

وأضافت أن «القلق والاكتئاب ينطويان على فرط نشاط اللوزة الدماغية، الذي يمكن أن يسهم في الاستجابات العاطفية المفرطة وضعف التنظيم العاطفي».

وأوضحت: «من خلال معرفتنا بأن اللوزة الدماغية متصلة بمناطق أخرى من الدماغ، ربما بعضها أقرب إلى الجمجمة، ما يسهل معه استهدافها، يمكن لتقنيات التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة استهداف اللوزة الدماغية، ومن ثم الحد من هذا النشاط وإحداث تأثير إيجابي فيما يتعلق بالاستجابات المفرطة لمشاعر الخوف والقلق».