صحيفة «ميادين» الليبية.. عين على الثورة وأخرى على الثقافة

رئيس تحريرها أحمد الفيتوري: سنقاوم التخلف والعنف بقوة الأمل والحلم

أحمد الفيتوري  و غلاف العدد الأخير من {الميادين}
أحمد الفيتوري و غلاف العدد الأخير من {الميادين}
TT

صحيفة «ميادين» الليبية.. عين على الثورة وأخرى على الثقافة

أحمد الفيتوري  و غلاف العدد الأخير من {الميادين}
أحمد الفيتوري و غلاف العدد الأخير من {الميادين}

كانت لحظات فارقة في تاريخ الثقافة في ليبيا، فالبلد الذي لا يزال التناحر السياسي يقطع في أوصاله منذ سقوط نظام معمر القذافي، هو في مسيس الحاجة اليوم إلى جرعات مكثفة من الثقافة، تلم تحت مظلتها هذا التشتت والانقسام الذي أصبح يأكل الأخضر واليابس يوميا.
ويؤمل الروائي والناقد الصحافي الليبي أحمد الفيتوري رئيس تحرير صحيفة «ميادين» الثقافية أن تتسع مساحة الوعي بالثقافة لدى قطاعات كبيرة من المواطنين الليبيين، ليدركوا حقيقة ما يحيق بهم من مؤامرات وظلمات، تستهدف تفكيك الدولة، وتقسيمها إلى كيانات صغيرة، من شأنها أن تدمر في النهاية الهوية الليبية، وتطمس معالمها وما يرتبط بها من مخزون ثقافي وحضاري ممتد في التاريخ.
تصدر «ميادين» من بنغازي، مفجرة الثورة في 17 فبراير (شباط) 2011، وهي المدينة التي عانت من كراهية القذافي نفسه، وظلت في سلة الإهمال طيلة 40 سنة من حكمه، وتدافع حاليا عن ثورتها ضد أعداء جدد للوطن والحياة، يلبسون أقنعة الداخل والخارج معا.
يستصرخني الفيتوري الذي قضى نحو عشر سنوات من عمره في سجون القذافي عقب تخرجه في الجامعة، وهو يتواصل معي على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» قائلا: «أنا في خط النار بمعنى الكلمة، هناك حرب شوارع لا تنتهي في بنغازي التي هي خارج التغطية، لكن المعنويات في المدينة جيدة، حتى إن المقاهي كانت مزدحمة بمتابعة كأس العالم رغم أن الناس هناك عندها في بيوتها التلفزيونات والاشتراكات متوافرة، لكنهم كانوا يصرون على الحضور في المقاهي التي تزداد، إضافة إلى المولات المزدحمة بالنساء صباح مساء».
ويتابع: «هناك حالة مقاومة عالية تحتاج إلى رصد، ويمكنك من خلال أعداد (ميادين) التي أرسلتها لك أن تعد تقريرا مطولا عن درنة وبنغازي وكأنك فيهما».
تأسست «ميادين» في القاهرة بعد أشهر قليلة من اندلاع الثورة ضد القذافي.. كان الفيتوري ورفاقه أحمد بلو، وسالم العوكلي، والمصور الصحافي خليل العريبي، وكاتب هذه السطور، والفنان الليبي المقيم في القاهرة عمر جهان، يسابقون الزمن في إصدارها، لتحمل راية الثورة التي اندلعت في ليبيا، لتحلق بركب ثورات أخرى انطلقت في محيطها الجغرافي، في تونس ومصر.
لم تكن المهمة سهلة في ظروف الحرب، لكن مع الإصرار والإرادة ولدت «ميادين» بقوة، متخذة اسمها من أيقونة «الميدان» الذي شكل مسرحا للثورة في هذه الدول، وصدرت الأعداد الثلاثة الأولى في القاهرة، واخترقت «ميادين» حصار الحدود، ووصلت إلى القارئ الليبي، لتشهد بعد ذلك نجاح الثورة وموت الطاغية القذافي، لكنها سرعان ما دخلت في النفق المر بعدما تحولت الثورة إلى كعكة سياسية هشة، تتسابق على التهامها موجات متلاطمة من العنف تضرب البلاد في مقتل.
في افتتاحية العدد 160 من «ميادين»، ينقل الفيتوري صورة مشهدية حية من الأوضاع في البلاد بعنوان «كعكة فبراير كعكة سم» قائلا: «بتنا نخاف الغد ونترحم على الأمس وسُدّت في وجوهنا السبل، العالم يهج من وجهنا بعد أن كان الشريك. نعم، ما يحدث الساعة نتيجة لما قمنا به بشراكة العالم في هدم نظام فاشي، لكنها نتيجة فاجعة، فالكل يهرب عنا ويهرب منا لأن الموت الملك الذي استبد بحياتنا، في مطار الأبرق - بعد إغلاق مطار بنينا - تكدس الهاجون من شرق البلاد كما حدث ساعة انتفاضتنا في فبراير 2011، الهاجون هم بناة من الصينيين وعمال نظافة من بنغلاديش وأصحاب وظائف أخرى من مصر وتركيا وغيرهما من البلاد، أي كل مقتدر هج عنا».
وحتى لا يظل هذا المشهد مجرد صورة معلقة في جدار الزمن يتابع الفيتوري صاحب «سيرة بني غازي»، تفاصيل أخرى في ما وراء تداعياته، وما يحدث على أرض الواقع. يقول في الافتتاحية نفسها: «في مطار طرابلس تكدس الأفريقيون يهربون من الموت، ملك ليبيا الذي هيمن على الحياة. وما زال طرف منا يحاجج في شرعيته، بل يمنح الشرعية لهذا ويسحبها عن غيره، ولا يريد أن يلتفت إلى ليبيا التي بفضل سلطته وشرعيته تحولت إلى مهج وازدهر الخراب فيها، وهذا يحصل وآل الشرعية يستميتون في شرعيتهم، مما يجعل الميت يفطس من الضحك في قبره، هؤلاء الشرعيون جعلوا الشرعي الوحيد في البلاد الموت وبفضل شرعيتهم عم الخراب، وبفضلهم بتنا نخاف الغد ونترحم على الأمس».
وتدق الافتتاحية أجراس الخطر، في صرخة أشبه بالمرثية الإنسانية، قائلة: «نحن في بلاد يدفع فيها أشخاص ثمنا غاليا لجريمة ارتكبها غيرهم، وهم صغار في عالم الكبار، هم ليسوا قادة، هم ليسوا فاعلين، هم من بسطاء القوم ومن أفقرهم، وحتى إن شاغبوا فشغبهم حده كلام تأخذه الريح.. السؤال الكبير لماذا يقتل هؤلاء؟ وما الذي يجنيه القاتل؟ أيها الليبيون أفيقوا.. مصابكم عظيم!».
ورغم صعوبات جمة يفرضها الوضع المأساوي في البلاد تنتظم «ميادين» في إصدارها بشكل أسبوعي، وتتابع كل الوقائع على الأرض، وتفتح أبوابا وتقترح حلولا للخروج من الأزمة. وفي أعقاب الثورة نظمت «ميادين» ندوة على مدار ثلاثة أيام، حول كتابة الدستور الجديد للبلاد، دعت إليها كوكبة من أشهر الفقهاء الدستوريين من مصر وبعض الدول العربية.
يعلق الفيتوري على هذه الندوة قائلا: «كنا نريد أن نضع من خلالها أيدينا بشكل علمي على الطريق الصحيح، استعنا بهؤلاء الخبراء للإفادة من خبرتهم في كتابة الدساتير في بلادهم، وفي بلدان أخرى. كان حرصنا على أن نرسي دعائم دولة جديدة تنهض على احترام الدستور والقانون، والمواطنة كحق طبيعي لجميع الشعب دون استثناء أو امتيازات، لكن قوى الظلام جرت البلاد إلى هذه الفوضى، التي تعود بنا إلى عصور الاستبداد والتخلف».
نحو مائة وسبعين عددا صدرت من «ميادين» حتى الآن، تنوعت على صفحاتها كل ألوان الطيف السياسي الليبي والعربي، برحابة أفق وسعة صدر، وتنوعت أيضا تجارب أخرى في مجالات الأدب والفن والشعر، والعمل الاجتماعي والرياضي.. كان همها أن تصل إلى القارئ ببساطة وشفافية، أن تعينه على أن يعرف نفسه وحقيقة ما يجري حوله والدور المطلوب منه في هذه الأوقات الصعبة والمصيرية في تاريخ ليبيا.
يقول الفيتوري: «الحمد لله، استطعنا بفضل جهود العاملين في الصحيفة وتحري المهنية والموضوعية أن نصل إلى القارئ، وأن تصبح (ميادين) أحد شواغله الأساسية لمتابعة ما يجري في الواقع الليبي والعربي والدولي، ووسعنا هذا الأفق بطبعة إلكترونية من كل عدد، متاحة أمام القارئ في أي مكان من العالم.. كل ما نريده أن يعرف القارئ خارج ليبيا حقيقة ما يجري هنا. فمع اشتداد وتعقد الوضع المأساوي أصبحت ليبيا خارج التغطية الصحافية والإعلامية من قبل الصحف ووكالات الأنباء العالمية والمحلية، وما ينشر في هذه الفضاءات الإعلامية غالبا ما يكون مشوبا بالأخطاء، ولا علاقة له بحقيقة ما يجري على أرض الواقع.. تصحيح هذه الصورة أصبح من أولويات مهمتنا الصحافية والثقافية».
يضيف الفيتوري: «أيضا على رأس أولوياتنا الدفاع عن ليبيا ككيان موحد، ورفض كل ما يحاك لها على صعيد المسرح السياسي العالمي، فقد وقفنا ضد تصريحات لمفوضة الأمن الداخلي الأوروبي سيسيليا مالمستروم، اعتبرت فيها ليبيا دولة فاشلة. ووجهت (ميادين) في عددها 166 رسالة مفتوحة إلى كاثرين أشتون مفوضة خارجية الاتحاد الأوروبي، ذكرتها فيها بتصريحاتها أثناء زيارتها لبنغازي بعد أشهر قليلة من الثورة، والتي أكدت فيها على أن الاتحاد الأوروبي سيقوم بمساعدة ليبيا في المجالات الأمنية والاقتصاد والصحة والتربية والمجتمع المدني».
ويسخر الفيتوري، في هذه الرسالة التي وجهها إلى أشتون في افتتاحية ذلك العدد قائلا: «ليبيا فاشلة بفضل الاتحاد الأوروبي أيضا».
وينهي الفيتوري حديثه معي مؤكدا أن «ميادين» أصبحت سجلا للثقافة الليبية، منذ قيام الثورة وحتى الآن، وعلى حد قوله: «نحن لا نواجه أزمة سياسية فقط، بل نواجه ثقافة عليها أن تنهض وتجدد نفسها كل يوم، وتقاوم أنياب هذه المأساة الشرسة التي تعيشها ليبيا، بقوة الأمل والحلم».



عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

عبد الزهرة زكي
عبد الزهرة زكي
TT

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

عبد الزهرة زكي
عبد الزهرة زكي

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة، وإسهامه على مدى أربعين عاماً في المشهد الشعري العراقي.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة وتجربته الروائية:

> أنت شاعر مكرس، ولك حضور مهم في راهن الشعر العراقي. وأخيراً فاجأت القراء والنقاد برواية جديرة بالوقوف عندها، ما الذي دفع بك إلى ذلك؟

- الشعر، أتوقع الشعرَ وليس سواه، هو ما دفع بي إلى الرواية، أو بتعبير آخر هو ما ألجأني إلى السرد، وكان سرداً روائياً. للشعر فضائل كثيرة على مَن يقيم فيه، والكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر حين فتح لي أفقاً آخر في الكتابة، وهو أفق الكتابة الروائية.

منذ أكثر من عشرين عاماً كان الشعر يستدعي مني، من خلال ما كتبت من دواوين، اعتماد تقنيات «السرد الشعري» في كتابة الكثير من نصوص تلك الدواوين، حتى تكرّس هذا بشكل خاص في ديوان «شريط صامت»، وهو ديوان مكرس تماماً لرؤية الحياة في ظروف الحرب والعنف التي عاشها العراقيون، ثم ما تلاه من دواوين.

لكن الشعر، في جانبٍ مهم من صيانيته، عادة ما يحصّن نفسه من الانسحاق، ومن مواراة هويته، وذلك كلما كان بصدد الانفتاح على السرد وسواه، بهذا كنت أميّز بين السرد، كما هو في مواطنه بالرواية والقصة القصيرة وسواهما من فنون السرد النثري، وبين الطابع الخاص، التقني والبلاغي والتخييلي، لما سميته قبل قليل بـ«السرد الشعري».

بهذا، وفي موازاة اندفاعي باعتماد السرد في الشعر، كانت كتابتي في النثر تنمّي قدراتها حتى صار السرد في أحيان كثيرة من مستلزمات كتابتي المقالة، وحتى بعد ذلك حين أنجزت كتاب «واقف في الظلام»، وهو كتاب أقرب إلى السيرة الشخصية ممتزجة بسيرة مجتمع خلال سنوات أواخر القرن الماضي، وحتى كتابتي بعد ذلك «طريق لا يسع إلا فرداً»، وهذا كما تعرف كتاب نظري في الفكر الشعري. كلا الكتابين كانا يعتمدان بشكل أساس على الإفادة من السرد. لقد عدّ بعض النقاد والقراء كتاب «واقف في الظلام» رواية سيرية، وهذا ما لم أكن مخططاً له، لكني كنت خلال العشرين عاماً الأخيرة أروي الأفكار والرؤى والوقائع، والقصائد أيضاً كحكايا، كوقائع سيرة للأفكار والأحداث.

> لم تشر، في هذا السياق والاستذكار، إلى كتابك الأخير «في نبض العالم»، وهو كتاب مكرس بالكامل عن الحياة في العمى، لقد امتزج فيه السرد بالشعر بشكل حاد، أعتقد أنه حمل عنواناً فرعياً تصف به نصوصه على أنها «سيرة الأعمى، وقد رأى كل شيء»...

- نعم، هذا الكتاب ما كدت أكمله، وقد استغرق مني عاماً، حتى وجدته يسلمني مباشرة إلى كتابة الرواية، «غريزة الطير».

> تريد أن تقول إن الرواية كانت بوحي من هذا الكتاب؟

- لا، أبداً... لكن كتاب «في نبض العالم» كان قد مضى بي إلى السرد، إلى أقصى ما مضيت به في السرد، لقد خرجت منه وأنا مشبع بروح السرد وطاقته.

في الحقيقة بقيت سنوات طويلة كنت آملاً خلالها أن أكتب رواية، ولم أستطع ذلك، لم أجرب، لم أحاول. فجأة وجدتني أكتب وأستمر أكتب بلا انقطاع. كنت أشعر أني ممتلئ بطاقة كبيرة على السرد، كما لو أن سنوات التمني كانت خزانة ملؤها تلك الطاقة، لقد انفتحت الخزانة ومعها تدفقت كتابة السرد.

> كيف حصل هذا؟

- الحكمة التي خرجت بها تفيد ألا تقسر نفسك على الكتابة إن استعصت، ولا تتمنّع عليها إن أقبلت.

هذا ما يحصل عادة في كتابة الشعر، وأجد أنه قابل للتعميم على أي كتابة جادة ومنطلقة من دافع حقيقي.

> قوبلت «غريزة الطير» باستحسان من قبل النقاد والكتّاب، هل ستكون نقطة افتراق عن الشعر، خصوصاً أنك أصدرت كتاب «الأعمال الشعرية» بعد فترة قصيرة على صدور الرواية؟

- لا، لماذا نعتقد أنه لا تعايش ما بين الأجناس المتنوعة في الكتابة والفن؟ لماذا نعتقد ألا ينهض جنس كتابي لدى كاتب إلا على دفن جنس آخر؟ نحن بشر بأرواح ووجدان في تغير مستمر، والحاجات هي، لا نحن، التي تستدعي تقديم فن كتابي حيناً وتأخير آخر. وواقعاً حتى من دون الانشغال بالرواية من الممكن عدم الإقبال على كتابة الشعر، والعكس صحيح أيضاً. لا مشكلة في ذلك ما دامت الكتابة تعبيراً عن حاجة، تكفُّ الحاجات ربما فتكفّ معها الرغبة بالكتابة، سواء في الشعر أو في سواه.

> ولكن كلما فكّر شاعر بكتابة رواية فغالباً ما يقال إن اللجوء للرواية نتاج للإحساس بإزاحتها الشعرَ من عرشه، خاصة مع تطور هذا الفن «أعني الرواية» في العراق، في العقدين الأخيرين؟

- كلانا كما أعتقد نتحدث هنا عن الأدب الجاد، عن الكتابة الجادة. وإزاء جدية الحياة في الكتابة، شعراً أو رواية، لا أعتقد أن التنافس ما بينهما انتحاري، أي لا يقوم فن إلا بنحره فناً آخر.

نحن نحيا في عالم مستمر بتغيراته السريعة، تغيرات تلقي بظلالها على كل شيء... فرص الإمتاع تتنوع، بما يدفع بملايين البشر إلى أن ينشغلوا باهتمامات قد لا تطرأ في بالنا.

لا ينبغي لنا، نحن بشر هذه السنوات، أن نتأسى على بشر المستقبل لافتقادهم ما نراه الآن ضرورة لا تستقيم الحياة من دونها.

الشعر والأدب والفن عموماً يجري إنتاجها استجابة لحاجات منتجيها أولاً وإن انتفت حاجة المحتاجين لهذا الإنتاج مستقبلاً فلا ضير في ذلك.

أكتب الشعر كحاجة شخصية، وكتبت الرواية كاستجابة لحاجة أخرى مقابلة. في الحالين كنت أتنفّس متعتي الوجدانية والذهنية، وبالتالي فلا أقف كثيراً عند من سيبقى أو سيموت من الفنون والآداب.

> ما زلت بصدد الصلة ما بين الشعر والسرد... لكن بدا لي أثناء قراءتي الرواية أنك كنت حذراً من الوقوع في أسر الشعر بلغتك، فاعتمدت لغة واضحة، أتساءل: ما إذا كان ذلك بسبب واقعية الكثير من أحداث الرواية؟

- فعلاً كانت هذه مشكلة أثناء الكتابة. ليس من اليسير أن تعرف أنك، كشاعر، ما زلت مستمراً بلغة الشعر فيما أنت تكتب رواية. هذه مشكلة كثير من الشعراء الذين كتبوا الرواية، وهي أيضاً مشكلة كاتب الرواية غير الشاعر حين يريد «تزيين» لغة الرواية ببلاغة شعرية، هذه بلاغة غالباً ما تكون فجّة لمجيئها خارج سياقها المألوف.

سوى هذا التعمد هنالك اللاوعي، فبعد سنوات طويلة من كتابة الشعر تأخذ بلاغة اللغة الشعرية فرصها للعمل والظهور في الكتابة النثرية بتلقائية دونما وعي من الشاعر.

قد تساعد الخبرة الصحافية، لكاتب مثلي، في ضبط اندفاع لغة الشعر، لكن الكتابة الصحافية شأن آخر. ففي الرواية يكون الكاتب أمام وضع آخر لا صلة له بلغة الصحافة، إنه أمام رواية، وهي نص أدبي، تحتاج بلاغة أدبية نثرية، وهذا ما يضاعف مسؤولية الكتابة في نص أدبي روائي. كان خياري أن أرجئ التفكير في هذه المشكلة لما بعد الانتهاء من الرواية، وفعلاً قمت بأكثر من مراجعة لها، كنت أسعى خلالها لاصطياد أي أثر بلاغي شعري جاء في غير محلّه، وبالمقابل عملت على تنمية البلاغة النثرية الأدبية في نص الرواية. في كل حال هي مهمة ليست باليسيرة لكنها لم تكن مستحيلة، وكان لصبري على الرواية أثر مهم في هذا الجانب.

> هل كنت متعمداً تناص عنوان الراوية، «غريزة الطير»، بشكل أو بآخر مع «منطق الطير» لفريد الدين العطار، خاصة أن هناك تماثلاً بينهما في الثيمة المركزية، كما تتجلى سردياً في الرواية، مما يوحي بأنها نص موازٍ؟

- حقيقة لم أكن أفكر بهذا، لقد جاء هذا العنوان «غريزة الطير» متأخراً بعد إنجاز مراجعتها وبعد أكثر من عنوان لم تصمد جميعها أمام تبرّمي منها لحين ما استقررت على العنوان الأخير، وهو مستلّ من متن الرواية.

أعتقد أن اهتمامات «غريزة الطير» كانت أرضية، وثيقة الصلة والانشداد إلى حياة أفراد ومجتمع ومدينة بخلاف ما عني به كتاب «منطق الطير» من اهتمامات متعالية. الطير يتعالى في كتاب فريد الدين بينما طائر الرواية أوّاب منشدّ إلى مدينته وأرضه.

في كل حال، لا أدري، ربما يجد قارئ ما يمكن أن يؤكد الصلة التناصية التي تشير إليها ما بين الكتابين.

> إلى أي مدى ظلت «غريزة الطير» تتحدث عن إشكالية الهوية الاجتماعية، وعلاقتها بالآخر الذي يقاسمها المكان، والوجود، من خلال الشخصيات التي أرى أنها استحدثت بقصدية واضحة؟

-ـ كنت منشغلاً في الرواية، بجانب أساس منها، بمصائر الأرستقراطية الوطنية العراقية، التي نشأت في أربعينات وخمسينات القرن العشرين وبدأت بالاندحار ما بعد ذلك. الأب سليمان زيني كان عضواً فاعلاً، في شبابه بالبصرة، بالحزب الوطني الديمقراطي، وكنت أرى فيه معبّراً إلى حدٍّ ما عن مصير الليبرالية العراقية، وهذا جانب من سيرورة المجتمع لم يحظَ باهتمام يذكر سواء في الأدب أو الفكر السياسي.

نحن بشر بأرواح ووجدان في تغير مستمر، والحاجات هي، لا نحن، التي تستدعي تقديم فن كتابي حيناً وتأخير آخر

> الشخصية المحورية آدم زيني، تقدمه بوصفه المرشد والحكيم، فالجميع يخطب وده وينشد حمايته، حتى (الأب) سليمان زيني يقول عنه: «هو معلمي»، هل هناك قصدية ما في بناء هذه الشخصية، أم هو اعتراف، وانحياز منك، لحكمة ودراية الآخر ذي النسب الإنجليزي؟

- سعيت كثيراً من أجل أن أضمن لشخصيات الرواية حريتها، استقلاليتها عني. من هنا تمتع آدم بقدر وافٍ من الحرية التي جعلت منه شخصاً يبدو مستقراً آناً ومضطرباً في آنٍ آخر. كل شيء واضح في ذهنه، لكن التعبير عن كل شيء يظل بالنسبة له غير ممكن وغير واضح وحتى ملتبساً بالنسبة للآخرين.

لا أستطيع هنا التحدث عن شخصية مثل شخصية آدم. ثمة الكثير لم تقله الرواية، وهو مما ظل يعتمل في دخيلة آدم، وبعض هذا الكثير يستعصي فهمه وإدراكه علي أنا المؤلف الذي متّع شخصيات روايته بحريتها واستقلالها عنه. لم يكن هذا خللاً في البناء الروائي، إنما هو تعبير صامت عن طبيعة شخصية آدم، وهي طبيعة كتوم.

شخصية آدم هي من نسج جهده الشخصي في أغلب طباعها. بالتأكيد هو وَرِثَ جانباً من خصال أمه، المحافظة الإنجليزية وبعضاً من طبائع أبيه الليبرالي العراقي، لكن آدم ظل ماهراً في صنع شخصيته كما أرادها هو وحرص عليها.

> حكاية (جاسم السماك)، وهو شخصية ثانوية في الرواية، حول رؤيته رفض الكلاب نهش جثث القتلى عام 1991. هل ترى ذلك إحالة واضحة للواقعية السحرية، والتي يرى الكثير من النقاد التأثر الواضح للروائيين العراقيين بها؟

- حكاية جاسم حقيقية، روى لي صديق بصري واقعتها. في أحيانٍ كثيرة كان واقعنا أغرب من الخيال. ثمة الكثير من الكنوز السوداء التي ينبغي للأدب أن يخرجها من خزائن الألم العراقي، ما زال أدبنا زاهداً بهذه الكنوز.

> قبل أن أودعك، هل من رواية أخرى؟

- أنجزت بشكل أولي رواية قصيرة «السيدة مفسّرة الأحلام»، أبقيتُها بعيدة عني منذ أسبوعين، ربما أحتاج إلى أسبوع آخر لأعود بعده إليها بهدف المراجعة قبل دفعها للنشر.