صحيفة «ميادين» الليبية.. عين على الثورة وأخرى على الثقافة

رئيس تحريرها أحمد الفيتوري: سنقاوم التخلف والعنف بقوة الأمل والحلم

أحمد الفيتوري  و غلاف العدد الأخير من {الميادين}
أحمد الفيتوري و غلاف العدد الأخير من {الميادين}
TT

صحيفة «ميادين» الليبية.. عين على الثورة وأخرى على الثقافة

أحمد الفيتوري  و غلاف العدد الأخير من {الميادين}
أحمد الفيتوري و غلاف العدد الأخير من {الميادين}

كانت لحظات فارقة في تاريخ الثقافة في ليبيا، فالبلد الذي لا يزال التناحر السياسي يقطع في أوصاله منذ سقوط نظام معمر القذافي، هو في مسيس الحاجة اليوم إلى جرعات مكثفة من الثقافة، تلم تحت مظلتها هذا التشتت والانقسام الذي أصبح يأكل الأخضر واليابس يوميا.
ويؤمل الروائي والناقد الصحافي الليبي أحمد الفيتوري رئيس تحرير صحيفة «ميادين» الثقافية أن تتسع مساحة الوعي بالثقافة لدى قطاعات كبيرة من المواطنين الليبيين، ليدركوا حقيقة ما يحيق بهم من مؤامرات وظلمات، تستهدف تفكيك الدولة، وتقسيمها إلى كيانات صغيرة، من شأنها أن تدمر في النهاية الهوية الليبية، وتطمس معالمها وما يرتبط بها من مخزون ثقافي وحضاري ممتد في التاريخ.
تصدر «ميادين» من بنغازي، مفجرة الثورة في 17 فبراير (شباط) 2011، وهي المدينة التي عانت من كراهية القذافي نفسه، وظلت في سلة الإهمال طيلة 40 سنة من حكمه، وتدافع حاليا عن ثورتها ضد أعداء جدد للوطن والحياة، يلبسون أقنعة الداخل والخارج معا.
يستصرخني الفيتوري الذي قضى نحو عشر سنوات من عمره في سجون القذافي عقب تخرجه في الجامعة، وهو يتواصل معي على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» قائلا: «أنا في خط النار بمعنى الكلمة، هناك حرب شوارع لا تنتهي في بنغازي التي هي خارج التغطية، لكن المعنويات في المدينة جيدة، حتى إن المقاهي كانت مزدحمة بمتابعة كأس العالم رغم أن الناس هناك عندها في بيوتها التلفزيونات والاشتراكات متوافرة، لكنهم كانوا يصرون على الحضور في المقاهي التي تزداد، إضافة إلى المولات المزدحمة بالنساء صباح مساء».
ويتابع: «هناك حالة مقاومة عالية تحتاج إلى رصد، ويمكنك من خلال أعداد (ميادين) التي أرسلتها لك أن تعد تقريرا مطولا عن درنة وبنغازي وكأنك فيهما».
تأسست «ميادين» في القاهرة بعد أشهر قليلة من اندلاع الثورة ضد القذافي.. كان الفيتوري ورفاقه أحمد بلو، وسالم العوكلي، والمصور الصحافي خليل العريبي، وكاتب هذه السطور، والفنان الليبي المقيم في القاهرة عمر جهان، يسابقون الزمن في إصدارها، لتحمل راية الثورة التي اندلعت في ليبيا، لتحلق بركب ثورات أخرى انطلقت في محيطها الجغرافي، في تونس ومصر.
لم تكن المهمة سهلة في ظروف الحرب، لكن مع الإصرار والإرادة ولدت «ميادين» بقوة، متخذة اسمها من أيقونة «الميدان» الذي شكل مسرحا للثورة في هذه الدول، وصدرت الأعداد الثلاثة الأولى في القاهرة، واخترقت «ميادين» حصار الحدود، ووصلت إلى القارئ الليبي، لتشهد بعد ذلك نجاح الثورة وموت الطاغية القذافي، لكنها سرعان ما دخلت في النفق المر بعدما تحولت الثورة إلى كعكة سياسية هشة، تتسابق على التهامها موجات متلاطمة من العنف تضرب البلاد في مقتل.
في افتتاحية العدد 160 من «ميادين»، ينقل الفيتوري صورة مشهدية حية من الأوضاع في البلاد بعنوان «كعكة فبراير كعكة سم» قائلا: «بتنا نخاف الغد ونترحم على الأمس وسُدّت في وجوهنا السبل، العالم يهج من وجهنا بعد أن كان الشريك. نعم، ما يحدث الساعة نتيجة لما قمنا به بشراكة العالم في هدم نظام فاشي، لكنها نتيجة فاجعة، فالكل يهرب عنا ويهرب منا لأن الموت الملك الذي استبد بحياتنا، في مطار الأبرق - بعد إغلاق مطار بنينا - تكدس الهاجون من شرق البلاد كما حدث ساعة انتفاضتنا في فبراير 2011، الهاجون هم بناة من الصينيين وعمال نظافة من بنغلاديش وأصحاب وظائف أخرى من مصر وتركيا وغيرهما من البلاد، أي كل مقتدر هج عنا».
وحتى لا يظل هذا المشهد مجرد صورة معلقة في جدار الزمن يتابع الفيتوري صاحب «سيرة بني غازي»، تفاصيل أخرى في ما وراء تداعياته، وما يحدث على أرض الواقع. يقول في الافتتاحية نفسها: «في مطار طرابلس تكدس الأفريقيون يهربون من الموت، ملك ليبيا الذي هيمن على الحياة. وما زال طرف منا يحاجج في شرعيته، بل يمنح الشرعية لهذا ويسحبها عن غيره، ولا يريد أن يلتفت إلى ليبيا التي بفضل سلطته وشرعيته تحولت إلى مهج وازدهر الخراب فيها، وهذا يحصل وآل الشرعية يستميتون في شرعيتهم، مما يجعل الميت يفطس من الضحك في قبره، هؤلاء الشرعيون جعلوا الشرعي الوحيد في البلاد الموت وبفضل شرعيتهم عم الخراب، وبفضلهم بتنا نخاف الغد ونترحم على الأمس».
وتدق الافتتاحية أجراس الخطر، في صرخة أشبه بالمرثية الإنسانية، قائلة: «نحن في بلاد يدفع فيها أشخاص ثمنا غاليا لجريمة ارتكبها غيرهم، وهم صغار في عالم الكبار، هم ليسوا قادة، هم ليسوا فاعلين، هم من بسطاء القوم ومن أفقرهم، وحتى إن شاغبوا فشغبهم حده كلام تأخذه الريح.. السؤال الكبير لماذا يقتل هؤلاء؟ وما الذي يجنيه القاتل؟ أيها الليبيون أفيقوا.. مصابكم عظيم!».
ورغم صعوبات جمة يفرضها الوضع المأساوي في البلاد تنتظم «ميادين» في إصدارها بشكل أسبوعي، وتتابع كل الوقائع على الأرض، وتفتح أبوابا وتقترح حلولا للخروج من الأزمة. وفي أعقاب الثورة نظمت «ميادين» ندوة على مدار ثلاثة أيام، حول كتابة الدستور الجديد للبلاد، دعت إليها كوكبة من أشهر الفقهاء الدستوريين من مصر وبعض الدول العربية.
يعلق الفيتوري على هذه الندوة قائلا: «كنا نريد أن نضع من خلالها أيدينا بشكل علمي على الطريق الصحيح، استعنا بهؤلاء الخبراء للإفادة من خبرتهم في كتابة الدساتير في بلادهم، وفي بلدان أخرى. كان حرصنا على أن نرسي دعائم دولة جديدة تنهض على احترام الدستور والقانون، والمواطنة كحق طبيعي لجميع الشعب دون استثناء أو امتيازات، لكن قوى الظلام جرت البلاد إلى هذه الفوضى، التي تعود بنا إلى عصور الاستبداد والتخلف».
نحو مائة وسبعين عددا صدرت من «ميادين» حتى الآن، تنوعت على صفحاتها كل ألوان الطيف السياسي الليبي والعربي، برحابة أفق وسعة صدر، وتنوعت أيضا تجارب أخرى في مجالات الأدب والفن والشعر، والعمل الاجتماعي والرياضي.. كان همها أن تصل إلى القارئ ببساطة وشفافية، أن تعينه على أن يعرف نفسه وحقيقة ما يجري حوله والدور المطلوب منه في هذه الأوقات الصعبة والمصيرية في تاريخ ليبيا.
يقول الفيتوري: «الحمد لله، استطعنا بفضل جهود العاملين في الصحيفة وتحري المهنية والموضوعية أن نصل إلى القارئ، وأن تصبح (ميادين) أحد شواغله الأساسية لمتابعة ما يجري في الواقع الليبي والعربي والدولي، ووسعنا هذا الأفق بطبعة إلكترونية من كل عدد، متاحة أمام القارئ في أي مكان من العالم.. كل ما نريده أن يعرف القارئ خارج ليبيا حقيقة ما يجري هنا. فمع اشتداد وتعقد الوضع المأساوي أصبحت ليبيا خارج التغطية الصحافية والإعلامية من قبل الصحف ووكالات الأنباء العالمية والمحلية، وما ينشر في هذه الفضاءات الإعلامية غالبا ما يكون مشوبا بالأخطاء، ولا علاقة له بحقيقة ما يجري على أرض الواقع.. تصحيح هذه الصورة أصبح من أولويات مهمتنا الصحافية والثقافية».
يضيف الفيتوري: «أيضا على رأس أولوياتنا الدفاع عن ليبيا ككيان موحد، ورفض كل ما يحاك لها على صعيد المسرح السياسي العالمي، فقد وقفنا ضد تصريحات لمفوضة الأمن الداخلي الأوروبي سيسيليا مالمستروم، اعتبرت فيها ليبيا دولة فاشلة. ووجهت (ميادين) في عددها 166 رسالة مفتوحة إلى كاثرين أشتون مفوضة خارجية الاتحاد الأوروبي، ذكرتها فيها بتصريحاتها أثناء زيارتها لبنغازي بعد أشهر قليلة من الثورة، والتي أكدت فيها على أن الاتحاد الأوروبي سيقوم بمساعدة ليبيا في المجالات الأمنية والاقتصاد والصحة والتربية والمجتمع المدني».
ويسخر الفيتوري، في هذه الرسالة التي وجهها إلى أشتون في افتتاحية ذلك العدد قائلا: «ليبيا فاشلة بفضل الاتحاد الأوروبي أيضا».
وينهي الفيتوري حديثه معي مؤكدا أن «ميادين» أصبحت سجلا للثقافة الليبية، منذ قيام الثورة وحتى الآن، وعلى حد قوله: «نحن لا نواجه أزمة سياسية فقط، بل نواجه ثقافة عليها أن تنهض وتجدد نفسها كل يوم، وتقاوم أنياب هذه المأساة الشرسة التي تعيشها ليبيا، بقوة الأمل والحلم».



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»