«سبت أسود آخر» تترقبه باريس بكثير من القلق. لكن هذه المرة، عَمَدت وزارة الداخلية ومديرية الشرطة إلى حشد قوى أمنية فاقت كل ما عرفته العاصمة من قبل، أي منذ انطلاق حركة «السترات الصفراء» الاحتجاجية. ومنذ أمس، أخذت دوريات من الجيش الفرنسي تتجول في المناطق الحساسة من العاصمة لتذكر الفرنسيين بمرحلة فرض حالة الطوارئ إبان التأهب الأمني لمواجهة العمليات الإرهابية. ولا يقتصر الحشد على العاصمة، بل توسع إلى جميع المناطق الفرنسية، حيث سينزل إلى الشوارع مع الصباح الباكر ما لا يقل عن 89 ألف رجل، بينهم 8 آلاف لباريس وحدها. وبذلك تكون السلطات الأمنية قد وفرت 24 ألف رجل شرطة ودرك وعناصر ضد الشغب، إضافيين، قياساً على الأسبوع الماضي، و3 آلاف عنصر إضافي في باريس. وللمرة الأولى في العاصمة سيرى الباريسيون مدرعات الدرك في الشوارع. وهذا النوع من الآليات مجهز لأجل اقتحام الحواجز والمتاريس؛ حتى تلك التي أضرمت فيها النيران، لغرض تسهيل تحرك القوى الأمنية التي أعاقت الحواجز حركتها الأسبوع الماضي. ووصف المدير العام لجهاز الدرك الوطني ريشار ليزوري، التحضيرات الأمنية، بأنها «لا سابق لها». وأفادت أوساط وزارة الداخلية بأن خطة أمنية استثنائية تم إعدادها لمواجهة «الفصل الرابع» من الحركة الاحتجاجية.
جديد اليوم أن السلطات المعنية، أكانت بلدية باريس أو وزارة الداخلية، اتخذت تدابير احترازية بالغة؛ أهمها إغلاق المواقع السياحية الرئيسية مثل برج إيفل وقوس النصر ومتحف اللوفر وإغلاق المسارح ومنع المباريات الرياضية. إضافة إلى ذلك، طلبت البلدية من أصحاب المحلات والمتاجر في المناطق التي من المتوقع أن تشهد الأعمال الاحتجاجية كجادة الشانزليزيه والشوارع المتفرعة من ساحة الإتوال الواقعة في أعلاها الإغلاق أو التزام أقصى درجات الحيطة.
وأمس تجولت «الشرق الأوسط» في الجادة المذكورة. واللافت فيها أن عشرات العمال التابعين للبلدية كانوا بصدد رفع كل ما يمكن أن يستخدمه المحتجون، ومن يندس في صفوفهم من المشاغبين، لإقامة الحواجز والمتاريس، ورميه على القوى الأمنية. كذلك، فإن المحلات الشهيرة في الجادة المذكورة والشوارع القريبة قامت بحماية واجهاتها بألواح خشبية ضخمة لتلافي التهشيم والتخريب والسرقات.
وترافقت هذه الإجراءات الاحترازية التي تعكس قلق السلطات الشديد من أن تشهد شوارع العاصمة والمدن الأخرى مشاهد العنف التي شهدتها السبت الماضي. من هنا، فإن كبار المسؤولين، بدءاً من قصر الإليزيه نزولاً إلى رئيس الحكومة والوزراء والأمنيين والمسؤولين السياسيين، دأبوا في الأيام الثلاثة الماضية، على التنبيه مما سيحصل وأحياناً تضخيم ذلك الأمر الذي دفع بعضاً من «السترات الصفراء»، الذين يسمون أنفسهم «الأحرار»، إلى الطلب من متابعي الحركة الامتناع عن «النزول» إلى باريس، لأن هناك «فخاً» نصبته الحكومة لإظهارهم بمظهر المشاغبين وتلطيخ سمعتهم. وفي مؤتمره الصحافي، أعلن وزير الداخلية كريستوف كاستانير، أن كثيراً من الدعوات التي تُطلق على شبكات التواصل الاجتماعي تحمل في طياتها «تهديدات واضحة». ومما جاء في بعضها: «مانو (إيمانويل ماكرون) نحن واصلون» أو «الجميع إلى الباستيل»، في إشارة إلى ثورة 1789 التي انطلقت بالاستيلاء على قلعة الباستيل رمز قمع السلطة الملكية وقتها. ومن الدعوات أيضاً الطلب بحل البرلمان. وجاءت لهجة وزير الداخلية بالغة التشدد والتنديد بـ«العناصر الراديكالية والمخربين الساعين إلى حشد صفوفهم». كما أن الوزير المعني لم يستبعد وجود عناصر أجنبية راديكالية. ومنذ البداية، وجه كاستانير أصابع الاتهام لمجموعات اليمين المتطرف أو مجموعات اليسار المتطرف مثل «بلاك بلوك»، متهماً الطرفين بتصعيد الوضع والحقد والعنف. بالمقابل، قلل كاستانير من أعداد المحتجين التي قدر أنها تراجعت إلى عشرة آلاف على كل الأراضي الفرنسية، ليخلص إلى القول بأن هؤلاء «لا يمثلون الشعب». ولذا، فإنه يرى أن الوقت قد حان «للعودة إلى الجمهورية وقيمها ولدولة القانون والحوار والتصالح والسلام وحماية (المواطنين)».
أما من جهة الإليزيه، فإن الرئيس ماكرون ما زال على صمته، ونقل عنه ريشار فران، رئيس البرلمان، أنه سيتكلم الأسبوع المقبل، وأنه إذا امتنع عن الكلام اليوم فلأنه «لا يريد صب الزيت على النار». وبحسب المراقبين، فإن ماكرون ينتظر أن تكون السلطات الأمنية قد نجحت في السيطرة على الوضع، وبدت في الأفق تباشير تراجع العنف، وهو ما لم يتحقق حتى اليوم، لا بل إن العكس هو الصحيح.
وتراهن الحكومة على حصول تشققات في صفوف «السترات الصفراء»، بعد أن استجابت الحكومة لكل مطالبهم الأولية، أي المتعلقة بإلغاء زيادات الرسوم على المشتقات النفطية للعام 2019، وكذلك على الزيادات على أسعار الغاز والكهرباء التي كانت منتظرة بداية العام المقبل. وبعد أن «جندت» السلطات الأحزاب والنقابات للدعوة إلى التهدئة والحوار ونبذ العنف، فإنها لجأت في الساعات الأخيرة إلى أرباب العمل لحثهم على توفير علاوات للموظفين من أجل زيادة قوتهم الشرائية. يبقى أن كل الأنظار ستتجه اليوم إلى باريس لقياس حرارة الحركة الاحتجاجية، ولمعرفة ما إذا كانت الإجراءات الحكومية قد فَعلت فعلها، أم أن البلاد متجهة لمزيد من التصعيد.
باريس القلقة تنتظر سبتاً أسود جديداً والسلطات في حالة تأهب قصوى
ماكرون سيتحدث إلى الفرنسيين لاحقاً ووزير الداخلية يحذر من «عناصر أجنبية»
باريس القلقة تنتظر سبتاً أسود جديداً والسلطات في حالة تأهب قصوى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة