«الاتجار في العطش» يهدد أمن المنطقة العربية

أصبح سوقاً تدر أرباحاً طائلة للشركات عابرة القومية

«الاتجار في العطش» يهدد أمن المنطقة العربية
TT

«الاتجار في العطش» يهدد أمن المنطقة العربية

«الاتجار في العطش» يهدد أمن المنطقة العربية

يأتي تقرير «الاتجار في العطش»، الذي صدر حديثاً عن «منتدى الحق في المياه بالمنطقة العربية» لعام 2017 - 2018، وسط تطورات إقليمية حادة ومحورية فيما يتعلق بالموارد وإدارتها، لا سيما المياه، وما تعانيه الشعوب من فقر فيها، وصراع على مواردها، بحكم مشاريع التنمية المتركزة في بناء السدود، أو بحكم الندرة المائية التي تعانيها معظم بلدان الإقليم. ويزيد من تعقيد هذا الوضع ثقل مؤسسات التمويل الدولية الداعمة لهذه المشاريع، والسياسات التي تطل علينا بمظهر التطوير والتنمية، فيما تبطن كوارث حقيقية على فئات عريضة من شعوب المنطقة.
ولفتت مقدمة التقرير إلى مظاهر تحول المياه إلى سوق تدر أرباحاً طائلة للشركات عابرة القومية، مثل شركات «فيوليا» و«فيفاندي». ويتوقع خبراء وصول حجم صفقات الاتجار في المياه إلى 660 مليار دولار بحلول 2020، في حين تشير بيانات منظمة الأمم المتحدة إلى أنه بحلول عام 2030، يقدر أن يقيم زهاء 4 مليارات نسمة في مناطق تعاني من نقص حاد في المياه، خصوصاً جنوب آسيا والصين.
ويوضح التقرير، في مقدمته، أنه نظراً لتلك الأرباح التي يمكن أن تدرها الموارد الطبيعية، ومنها الماء، فقد تحرّكت وبقوة مؤسسات التمويل الدولي، وعلى رأسها البنك الدولي، وبنك الاستثمار الأوروبي، وبنك التنمية والإعمار الأوروبي، وغيرها من بنوك وصناديق مالية أخرى، مع الشركات عابرة القومية، في محاولات مستميتة للسيطرة على تلك الموارد، والعمل على احتكارها، بهدف إحكام السيطرة عليها، لتكتمل دوائر الاحتكار لصالح تلك المؤسّسات والشركات على الموارد الاقتصادية، مشيرة إلى أنه في سبيل إحكام هذه السيطرة، لجأت تلك المؤسّسات والشركات إلى ترويج خطابات تتناول فيها القيمة الاقتصادية لتلك الموارد الطبيعية، وسعت في سبيل ذلك إلى تعميم خطابات تركز على استعادة التكاليف، كمبدأ أساسي للانتقال بالماء من الملك العام إلى الخاص.
ويستعرض التقرير عدداً من القراءات التي تتناول أبعاد تلك القضية، منها دراسة «حق الإنسان في المياه في إطـار التزامات الدول خارج نطاق ولايتها الإقليمية»، ويستعرض خلالها الباحث أحمد منصور ملابسات ومفارقات سعي الشعوب لإقرار الحق في المياه باعتباره حقاً عالمياً، في ظل وجود مشاريع وأنشطة تنفذها ائتلافات، قوامها حكومات الدول والشركات العابرة القوميات ومؤسّسات التمويل الدولية، وهو ما أدى إلى تقويض التفعيل الحقيقي لنطاق الالتزام بحق الإنسان في المياه، وأصبحت عملية دفع حكومات الدول الفقيرة القطاع الخاص لتوفير الخدمات والمرافق العامة تأتي على حساب التزامات الدول الواردة في المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان.
ومن المهمّ، حسب ما جاء في التقرير، ملاحظة أن مضمون الحق في المياه قد تضمن التزامات للدول خارج نطاق ولايتها الإقليمية، بما في ذلك المساعدة والتعاون الدولي في احترام التمتّع بذلك الحق في الدول الأخرى عند وضع سياستها، وعدم الإضرار بحقوق الأشخاص الخاضعين لولاية دول أخرى في التمتع بحقهم في المياه.
وتطرق الباحث إلى أشكال السيطرة على الموارد، وما تنطوي عليه من انتهاكات للحق في المياه، وكيف أن التغير المناخي زاد من آثار معاناة فئات عريضة من شعوب أقاليم مختلفة، مشيراً إلى أنها مثال واضح على استخدام الدول لأراضيها بطريقة تسبب ضرراً جسيماً للأقاليم والمجتمعات في دولة ثالثة، حيث التأثير في نوعية المياه المتاحة وكميتها.
ويكشف الباحث أن سياسة المؤسسات الدولية، التي جرت تحت راية التنمية الاقتصادية وبالاً على شعوب كثيرة، أودت بها إلى مزيدٍ من الإفقار والعوز لأجل توفير التربة الخصبة، لتدخل الشركات عابرة القوميات لإصلاح ما أفسدت بسبب أضرار كرّستها سياسات اقتصادية وسياسية واجتماعية فاشلة من حكومات، كان أغلبها استجابة لإملاءات صندوق النقد الدولي.
وفي ورقته «سدّ النّهضة... ودور مؤسسات التمويل الدولية في تسليع مياه النيل»، تناول الباحث عبد المولى إسماعيل، منسّق «منتدى الحق في المياه بالمنطقة العربية»، أثر التسليع على حقوق المياه في مصر، لا سيما في إطار تهديد سدّ «النهضة» الإثيوبي لأوضاع المياه في دولة المصب (مصر) والممر (السودان).
وركز الباحث على السجال الدائر حول أحقّية دول المنبع في الأنهار الدولية في إنشاء السدود التي تساعدها على تنمية مواردها الاقتصادية. وعلى الجانب الآخر، الرفض لمشروعات السدود بالنسبة لدول المصب التي تتشارك مع دول المنبع في تلك الأنهار الدولية، بدعوى التحكم في مواردها المالية بوساطة دول المنبع، إضافة إلى التأثير السلبي الذي سيلحق بحق مواطني تلك البلدان في الوصول للمياه.
وفي ورقة بعنوان «المؤسسات الدّولية والمالية وأثرها في الحق في مياه تونس»، استعرض الباحث التونسي محمد عبد مولاه محاور العلاقة بين المؤسسات المالية والحق في المياه، بالتطبيق على ما يجري في تونس. وشدد على جوهرية التركيز على التزامات الدول بضمان حقوق الإنسان المتعدّدة، المجسمة في الصكوك والمعاهدات والإعلانات الصادرة لهذا الغرض. وذكر في هذا السياق أن مجال التأثير الأكبر للمؤسّسات الدولية يتراوح بين التأثير العامّ الذي يخصّ السياسات الاقتصادية العامّة، من تعديل هيكلي وسياسات «نيوليبرالية»، وبين التدخل المباشر في مسائل قطاعية دقيقة ذات بعد جهوي أو محلي، كما هو حال تدخّلات الوكالة الألمانية للتعاون الدولي أو الوكالة الفرنسية للتنمية.
وفي ورقته «المياه في فلسطين وتجربة مؤسسات التمويل الدولية»، تطرق الباحث جمال طلب، مدير مركز أبحاث الأراضي الفلسطينية، إلى الانتهاكات الإسرائيلية للحقوق المائية الفلسطينية، وأخطرها تجفيف بحيرة الحولة، وسرقة مياه روافد نهر الأردن الأربعة، وعدم الالتزام بقوانين المحاصصة، حسب المعاهدة الدولية لاستخدام المجاري المائية المشتركة مع لبنان وسوريا والأردن، وتخفيض منسوب مياه نهر الأردن بسبب الضخ الجائر للمياه، وتحويلها إلى النقب بوساطة الناقل القطري، مشيراً إلى أن طاقة التدفّق المائي لنهر الأردن كانت 1400 مليون كوب سنوياً، وأصبحت الآن نحو 30 مليون كوب فقط. وكذلك انخفاض منسوب البحر الميت بصورة خطيرة. وقد قام البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بمكافئة إسرائيل بتمويل مشروع قناة البحرين (الأحمر - الميت)، التي ستدمّر بيئة البحر الميت، وتدر دخلاً خرافياً لدولة الاحتلال، دون أي شراكة حقيقية لفلسطين والأردن.
وتحدث الباحث جمال طلب عن الأزمة المتعلّقة بالمياه في غزة، وقال إنها لا يمكن تحليلها والخوض في غمارها دون أخذ جميع العوامل والأسباب التي أدت إلى ما نحن فيه الآن من شحّ في المياه، وتردّي جودتها، وتلوّثها المتعدّد الأسباب، وصعوبة الوصول إليها. وذكر أن واقع المياه لا يمكن أن يتحسّن دون إلغاء العوامل والمسببات التي يقف وراءها الاحتلال الإسرائيلي.
وفي ورقة «سياساتُ البنك الدولي الترويجية لمشاريع الاستثمار في المياه وخصخصتها»، استعرض الباحث اللبناني حبيب معلوف تجربة سد بسري نموذجاً لهذه السياسات، وما تولده من صراعات وتناقضات، منطلقاً من اعتماد البنك الدولي في دراساته وسياساته أسلوباً تهويلياً خطيراً لتمويل المشاريع الكبرى، تمهيداً لوضع يده، أو يد كبار المستثمرين، على أهم مورد حياتي على وجه الأرض، بعد الهواء، كالمياه.
وعن الحقّ في المياه بالأردن، تطرق الباحثان أحمد عوض وحنان كيسواني، من مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية، إلى العوامل التي أدت لانخفاض نصيب الفرد من المياه سنوياً، وأهمها التغيير الديموغرافي الكبير الذي حصل خلال السنوات الخمس الأخيرة، مع توافد اللاجئين السوريين بأعداد كبيرة، مضافة إلى التزايد المطرد في أعداد السكان في الأردن، مع وجود خلل في عملية توزيع المياه، وفي استخدام الشركات الخاصّة للمياه في الأردن، والضخ الجائر للمياه من المصادر المتوفّرة، واشتراك الأمن المائي الأردني مع دول مجاورة، أدى لتقليص مستمرّ في حصّتها من نهري الأردن واليرموك، إضافة للأخطار الطبيعية التي تهدد المياه، مثل التملّح. وتتعدد استخدامات المياه بين الشرب والاستخدام المنزلي والاستخدام الزراعي والصناعي، مما أدى لعجز مائي فعلي يهدد الأمن المائي في الأردن، ويمس بالضرورة الحق في المياه.
وعن أحوال الحق في المياه بالمملكة المغربية، قدم جمال صدوق، عضو جمعية أطاك، ورقة بعنوان «تجارب المقاومة من أجل الحق في الماء بالمغرب»، أفرد فيها مساحة خاصة لواقع الثروة المائية بالمغرب، مشيراً إلى أن الحق في المياه يواجه تهديداً متزايداً يوماً بعد يوم. إذ تشير بعض الدراسات والتقارير إلى أن متوسط الحصة السنوية للمواطن المغربي من الموارد المائية المتجددة والقابلة للتجدد تتجه نحو الانخفاض المستمر، فبعد أن كانت تفوق ثلاثة آلاف متر مكعب خلال الستينيات من القرن الماضي، تقدر في الوقت الحاضر بـ750 متراً مكعباً، كما يتوقع تناقص هذه النسبة إلى 500 متر مكعب في سنة 2020، وهو مؤشر على أن البلاد ستواجه وضعية ندرة الماء بصفة مستمرة.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.