هل أسهمت الرواية في انحسار القصة القصيرة؟

هيمنت تقريباً على المشهد الثقافي منذ السبعينات حتى الألفية الثالثة

شكيب كاظم  -  قحطان الفرج الله
شكيب كاظم - قحطان الفرج الله
TT

هل أسهمت الرواية في انحسار القصة القصيرة؟

شكيب كاظم  -  قحطان الفرج الله
شكيب كاظم - قحطان الفرج الله

شهد فن القصيرة العربي ذيوعاً وانتشاراً في عقود مضت في عموم الوطن العربي، ابتداء من الأربعينات، فهيمن تقريباً على المشهد الأدبي العربي، ومارسته أجيال من الكتاب واتجاهات وتجارب وتيارات غطت سماء الكتابة العربية وفتحت أمام كتابها وقرائها على السواء بوابات الحداثة والتحديث. لكن بداية الألفية الثالثة شهدت تراجعاً ملحوظاً لهذا النوع الأدبي الجميل، مقابل ازدهار السرد الروائي، حتى أمسى من النادر أن تعثر على قصة قصيرة، سواء في المجلات الدوريات أم الصفحات الثقافية. لماذا انحسر هذا الفن الجميل، والصعب أيضاً؟ هنا آراء عدد من كتاب القصة والنقاد العراقيين:
- القاص لؤي حمزة عباس لا يتفق مع الآراء القائلة بتراجع أو انحسار فن القصة القصيرة، ويتساءل: هل انحسرت القصة القصيرة بعد صدارة حقاً؟ وجفّت أنهارها بعد فيض؟ السؤال نفسه يبدو متناقضاً، مستجيباً لمكر النقاد ومزاج الجوائز التي تعمل على هدم الذائقة العامة وإعادة تشكيلها، والتحكم بتوجيه الناشرين... لن أوجه إجابتي للنوع القصصي وخصائصه النظرية، بقدر ما أفكر بالأسباب التي جعلت القصة القصيرة نوعاً أدبياً مهيمناً على مشهد الأدب العربي... أجيال واتجاهات وتجارب وتيارات غطت سماء الكتابة العربية، وفتحت أمام كتابها وقرائها على السواء بوابات الحداثة والتحديث، فما الذي عدا مما بدا، ما الذي تغير في كتابة القصة القصيرة، وفي أساليب تلقيها ليكون التراجع نصيبها والإهمال حصتها؟
ويلقي القاص حمزة عباس باللائمة على النقاد: «لو كُتبت اليوم قصص بوزن (بيت من لحم) ليوسف إدريس، أو (السلحفاة تطير) ليحيى حقي، أو (القنديل المنطفئ) لفؤاد التكرلي، أو (النمور في اليوم العاشر) لزكريا تامر، وهي تكتب بلا شك، فهل تجد من يُعنى بها، ومن يشير إلى موهبة كتّابها؟»
ويرى عباس أننا «خُدعنا بمقولتي (الرواية فن العصر) و(زمن الرواية)، اللتين شغلتا النقاد، فأسهموا بتوجيه الذائقة وحرف المزاج العام بعيدا عن القصة القصيرة».
إن الخلل، كما يشير، ليس في النوع القصصي نفسه، بل في أنظمة التوجيه والدعم والتلقي التي تعمل معظمها داخل الحيّز السوسيوثقافي «فثمة مؤشر آخر على صواب ما أذهب إليه، اهتمام دور النشر العربية بإصدار مؤلفات القصة القصيرة ومختاراتها المترجمة على نحو واضح، مما يؤكد اهتمام القارئ وولعه باكتشاف عوالم قصصية جديدة، من هنا أقول: (في الإجابة عن سؤال تراجع القصة القصيرة، علينا أن نبحث خارج القصة)».
- كاظم: ابحثوا عن الرواية
ولا يعارض الناقد شكيب كاظم هذا الرأي بقوله: «أسهم النقد، ولا سيما المجامل، ولن أقول المرتزق المنافق، في ذيوع الرواية، ولا سيما التي تكتبها النساء، وسيكون الأمر مدعاة لنفاق أشد لو كن جميلات أو ثريات، أو حزن الصفتين. جمال وغنى».
ومن الأسباب الأخرى وراء انحسار هذا الجنس الإبداعي، كما يرى كاظم، شغف القصاصين بحيازة صفة (روائي)، وكأن صفة (قاص) لا ترضي نرجسية البعض، وأناه المتعالية»، وإن ظل بعض أساطين القصة القصيرة، محمد خضير مثلاً، يشهر شغفه بفن القصة القصيرة، غير شاعر بالحرج، لأنه لم يكتب رواية، مع أنه كتب روايتين.
ويضيف الناقد العراقي: «وهذا يفسر لماذا أكرِّس جهدي لكتابة عمل قصير، أعلم حدوده وإمكاناته، قانعاً بمزاياه الخاصة جداً، فقناعتي ليست قناعة الطبع الشخصي، بل الإيمان بكفاءة النوع أو الأداة التي استوعبت هذا الطبع ومرّنته، وتلك - لعمري - مأثرة عظمى من مآثر الفن. أما الأمر الثاني، فهو أن الرواية بامتداداتها الزمنية والمكانية قد تخفي عيوب الكاتب الضعيف، أقول قد، بعكس القصة القصيرة، مكثفة اللغة والأجواء التي تكون تحت مجهر النقد ومبضعه، ونظر القارئ المدقق المتفحّص. الأمر الثالث، هو دخول عالم الجوائز المالية المغرية، هو الدافع الأهم في هذا الكمِّ الهائل من الروايات، التي تقدم للتنافس على الجوائز، وما يصاحب ذلك من دعاية وإضاءات صحافية وتلفازية، ونشر أسماء المرشحين للقائمة الطويلة، ومن ثم أسماء القائمة القصيرة، وهكذا».
- حياوي: الأضواء هي التي انحسرت
أما القاص محمد حياوي، فيرى أن فنّ القصة القصيرة لم ينحسر بطريقة أو بأخرى، لكن الذي حصل هو انحسار الأضواء عن هذا الفن الجميل، ويقول إن السبب «هو أن هذا الفن يعدّ من الفنون الصعبة التي تتطلب مراساً ودربة وقدرة على التكثيف من الكاتب في عدد محدود من الكلمات، على العكس من الرواية التي تتيح مساحتها المفتوحة (بدءاً من ثلاثين ألف كلمة فما فوق) كثيراً من الممكنات لتلافي ضعف الحكاية المروية وتجاوز الهنّات في مسار السرد».
وأشار إلى أن هناك أسباباً أخرى تتعلق بالجوائز الكبرى في الرواية، خصوصاً في عالمنا العربي، فقد «تسببت الجوائز الباذخة والمجانية وغير المنضبطة التي خُصصت للرواية، لا سيما جائزة (كتارا) التي فتحت الباب حتى للروايات المخطوطة، وهذا أمر لم يحدث في أي مكان في العالم، في إقبال منفلت على كتابة الرواية من شرائح مختلفة أغلبها لا علاقة له بالأدب، طمعاً في المبالغ الكبيرة».
- فرج الله: تغير القيم
الناقد قحطان فرج الله يطرح جملة من الأسباب في انحسار هذا النوع الأدبي، ويتساءل: «هل هي مشكلة السردية العراقية بشكل عام والمزاج الاجتماعي الذي تغير بسرعة كبيرة بعد حرب 2003؟ وهل لتقليص المسافات بين بني البشر بعد ثورة الاتصال والإنترنت و(السوشيال ميديا) أثّر في اضمحلال فنون كانت هي محور الجذب العام على مستوى الكتابة الإبداعية والتلقي؟ أتفق مع زملائي على أن هناك عاملاً أساسياً هو المد الجارف نحو كتابة الرواية، فنجد الآن في كل شهر، إذا لم أبالغ وأقُل في كل أسبوع، إصداراً لرواية جديدة، وغالباً لأسماء جديدة».
والعامل الآخر يسميه فرج الله عاملاً قيمياً «فالقِيَم التي تشحن الحياة اليوم غير قيم الأمس. إن تآكل القيم هذا لا يتماهى مع أساسيات فن القصة القصيرة. قيم اليوم لا تسمح بوضع نافذة في فضاء مفتوح».
ومن العوامل الأخرى، كما يضيف فرج الله، بروز فنون أخرى «أخذت من الجرف الفني للقصة وأضعفت مستوى انسيابية جريانها، فبعد تخلي الشعر عن أوزانه وبروز قصيدة النثر بشكل ملحوظ، تقوَّض شيء من حضور السردية القصصية لصالح مساحة شعرية جديدة بنسق مألوف ومتداول، وكذلك بروز تقنية الكتابات السريعة في (تويتر) و(فيسبوك) ما جعل الباب مفتوحاً على مصراعيه للتفاعل السريع واليومي والتعليقات السريعة. أعتقد أن القصة في طريقها إلى الجلوس إلى جنب أخواتها في محفل تاريخ الأدب».



شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.