روني الطرابلسي... شخصية يهودية تشكّل أحد المعالم البارزة في حكومة تونس الجديدة

رجل أعمال ناجح ألقيت عليه مسؤولية إنعاش قطاع السياحة

روني الطرابلسي... شخصية يهودية تشكّل أحد المعالم البارزة في حكومة تونس الجديدة
TT

روني الطرابلسي... شخصية يهودية تشكّل أحد المعالم البارزة في حكومة تونس الجديدة

روني الطرابلسي... شخصية يهودية تشكّل أحد المعالم البارزة في حكومة تونس الجديدة

أدت الحكومة التونسية الجديدة برئاسة يوسف الشاهد، اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي بعدما صوّت لفائدتها نحو ثلثي أعضاء البرلمان في أعقاب جلسة عامة صاخبة وصراعات بين رأسي السلطة التنفيذية من جهة، والأحزاب والنقابات من جهة أخرى انطلقت منذ مطلع العام الحالي.
إلا أن ممثلي المعارضة اليسارية والقومية في البرلمان التونسي وخارجه شنّوا حملة كبيرة على الحكومة الجديدة، وعلى رئيسها الشاهد وحلفائه، وعلى رأسهم قادة حزب «حركة النهضة» الإسلامي بسبب وزير السياحة الجديد روني الطرابلسي، وهو مواطن يهودي تونسي - فرنسي استثمر في قطاعي النقل الجوي والسياحة بين فرنسا والبلدان المغاربية.

يُعتبَر روني (أو رينيه) الطرابلسي، الذي عُيّن وزيراً جديداً للسياحة في تونس، أول يهودي يعيّن في منصب حكومي في البلاد، منذ عام 1958. وتعود شهرة الطرابلسي وشقيقه إيلي في عالم المال والأعمال منذ ربع قرن لكونهما ابنَي جوزيف بيريز الطرابلسي، رئيس الجالية اليهودية في جزيرة جربة بجنوب تونس، ورئيس تظاهرة الاحتفال السنوي بالحج اليهودي الدولي إلى كنيس الغريبة القديم الشهير. وجدير بالذكر، أن تظاهرة «الغريبة» تعد أبرز تظاهرة ثقافية دينية وسياحية من نوعها؛ إذ يزور الكنيس القديم في جزيرة جربة، سنوياً، آلاف اليهود من كل أنحاء العالم.

- دور سياسي منذ 2002
ولقد بلغت هذه التظاهرة الأوج في أواسط التسعينات من القرن الماضي، بعد التوقيع على اتفاقية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية في أوسلو وواشنطن، ومن ثم، سماح السلطات التونسية لطائرات إسرائيلية آتية من مطار بن غوريون (اللد) بأن تحط مباشرة في مطار جربة - جرجيس الدولي. وكانت طليعة الزائرين مجموعة قوامها زوّار إسرائيليون غالبيتهم من أصول تونسية ومغاربية، بينهم سليفان شالوم، الذي كان في حينه وزير الخارجية الإسرائيلي، وهو متحدّر من أصول تونسية.
وبرز روني، النجل الأكبر لجوزيف الطرابلسي، بعد الهجوم الانتحاري على كنيس الغريبة في خلال شهر أبريل (نيسان) 2002، عندما تصدر مع والده في وسائل الإعلام التونسية والدولية مَن ساندوا السلطات التونسية في جهودها للحد من الآثار السلبية على الهجوم الانتحاري. وكان ذلك الهجوم قد تسبب في سقوط أكثر من 20 قتيلاً وعشرات الجرحى غالبيتهم من السياح الألمان.

- تسويق سياحي
هذا، وحرصت الحكومات التونسية المتعاقبة منذ تلك العملية الإرهابية على ضمان تأمين كبير لموسم الحج لكنيس الغربية في شهر مايو (أيار) من كل عام، وبخاصة في الفنادق التي يقيم بها سياح يهود أو إسرائيليون. وكان روني الطرابلسي وشقيقه إيلي على رأس المؤسسات السياحية التي كلفتها السلطات بالتسويق للتظاهرة، وجلب السياح اليهود من العالم أجمع، بمن فيهم مئات من حاملي الجنسية المزدوجة الفرنسية - الإسرائيلية والتونسية - الإسرائيلية. ولئن كان الطرابلسي، على غرار غالبية يهود تونس منذ 60 سنة، من بين المقيمين بصفة دائمة في فرنسا، ومن حاملي جوازات مزدوجة، فإنه ووالده تميّزا بأنشطتهما السياسية المكثفة منذ عهد الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي.

- علاقات مميزة
ولعل ما يستحق الإشارة، أن روني وشقيقه إيلي ووالدهما كانوا من بين المقربين إلى النظام التونسي السابق وربطتهما علاقات سياسية ومصالح بأغلب رموزه ومسؤوليه. وكانوا دائماً يتصدرون الوفد الذي يرافق رئيس الحكومة ووزراء السياحة خلال زيارتهم إلى المعالم الدينية اليهودية في كامل البلاد، وبخاصة إلى كنيس الغريبة وجزيرة جربة ومعالمها السياحية. ولذلك؛ كان على رأس المرحّبين بتعيين روني وزيراً جديداً للسياحة أصدقاؤه من بين وزراء السياحة في عهد زين العابدين بن علي، مثل صلاح الدين معاوي والتيجاني الحداد.
وهنا نشير إلى أنه بعد انهيار حكم بن علي في 2011 تسببت الاضطرابات الأمنية والسياسية في التوقف عن تنظيم موسم الزيارة السنوية إلى الكنيس القديم. إلا أن الموسم السياحي استؤنف في عامي 2012 و2013 بعد تحركات قام بها روني الطرابلسي ووالده رئيس التظاهرة وعدد من قادة «اللوبي» التونسي اليهودي المقيم في فرنسا، بينهم رجال أعمال وإعلام وسياسة من اليهود الشبان بزعامة غابريال كابلا. ومنذ ذلك الوقت ربط روني علاقات متطوّرة بزعامات سياسية من حزب «حركة النهضة» الإسلامي ومعارضي نظام بن علي السابقين، على رأسهم رئيسا حكومة «النهضة» في 2012 و2013 حمّادي الجبالي وعلي العريّض وبعض وزرائها، مثل وزير الخارجية الدكتور رفيق عبد السلام، صهر راشد الغنوشي رئيس «حركة النهضة»، وكذلك، إلياس فخفاخ القيادي في حزب «التكتل» الليبرالي.

- ترشح للانتخابات
ظهر ولع روني الطرابلسي بالسياسة في عام 2011، عندما ترأس قائمة مستقلة في فرنسا وحاول الفوز بعضوية البرلمان الانتقالي ممثلاً للجالية التونسية في أوروبا. وبعدما فشل في تلك الانتخابات، التي فاز فيها حزب «حركة النهضة»، كان من بين أبرز رجال الأعمال التونسيين في المهجر الذين حضروا أول اجتماع عام عقده حمّادي الجبالي، بصفته الأمين العام لـ«حركة النهضة»، في أحد فنادق العاصمة تونس للإعلان عن ترشحه لرئاسة الحكومة وعن برنامجه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وكان روني الطرابلسي من بين أكثر الذين شدّوا الأنظار يومذاك بدفاعهم القوي عن الجبالي ورفاقه الذين وصلوا إلى الحكم بعد انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2013... والذين كان من أشرس أعدائهم قبل «انتفاضة يناير (كانون الثاني)» 2011. ثم إنه، رغم اعتراضات النشطاء القوميين والإسلاميين وتهديدات الجماعات الدينية المتشدّدة، ضمن روني الطرابلسي ووالده دورية تنظيم الزيارة السنوية لكنيس الغريبة وبقية المعالم اليهودية التونسية بمشاركة وفود إسرائيلية.

- رشح لعضوية الحكومة في 2014
بعد اغتيال المعارضين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، والتحركات التي شهدتها تونس في صيف 2013 والإطاحة بحكومة «النهضة» وشركائها، رشّح المهدي جمعة، رئيس الحكومة المستقل، الطرابلسي لتولي حقيبة السياحة، وأعلن عن الترشيح في وسائل الإعلام. بيد أن جمعة وفريقه تراجعا عن التعيين بسبب الحملة التي استهدفت الطرابلسي بسبب علاقاته المتطورة بعهد بن علي، ثم بسبب اتهامه بحمل جواز سفر إسرائيلي إلى جانب جوازيه التونسي والفرنسي. ومن ثم، في انتخابات 2014، عزف روني الطرابلسي عن الترشح للانتخابات البرلمانية، مع أنه حافظ على صداقاته في «حركة النهضة»، وفي المقابل، ترأس شقيقه إيلي قائمة تابعة لحزب «نداء تونس» المنافس القوي لـ«حركة النهضة» - في حينه - بزعامة الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي.

- لغط الجنسية الإسرائيلية
الواقع أن شخصية روني الطرابلسي أثارت لغطاً منذ الإعلان عن تعيينه وزيراً، ليس فقط بسبب تحدّره من عائلة يهودية، بل بسبب معلومات متضاربة عن حصوله على الجنسية الإسرائيلية، وبسبب تضارب المصالح بين عضويته للحكومة وترؤسه شركات سفر وسياحة في فرنسا تحتكر سوق سياحة اليهود إلى تونس، خصوصاً بمناسبة موسم الغريبة. كذلك، أشاع البعض أن الطرابلسي يمتلك أحد أبرز الفنادق السياحية في جزيرة جربة. ولقد انخرط في حملة انتقاد قرار تعيين الطرابلسي يساريون وقيادات من أقصى اليسار وقادة الجبهة الشعبية، التي لديها 15 نائباً في البرلمان. واعتبر «الجبهة» المركزي في بلاغ رسمي تعيين الطرابلسي وزيراً «مغازلة لإسرائيل وعواصم غربية» و«تكريساً للتطبيع مع إسرائيل». وسارت في المنحى نفسه سيدة الأعمال والإعلامية التونسية الكبيرة المقيمة في دبي بثينة جبنون، التي ادعت أن قريبة لروني الطرابلسي متزوجة من مسؤول كبير في وزارة الدفاع الإسرائيلية. وأيضاً انخرط ياسين العياري، عضو البرلمان الحقوقي المثير للجدل، في الحملة على الوزير الجديد «بسبب الشركات ذات الصبغة السياحية» التي ورد أنه يملكها.
ورغم التصريح القصير الذي أدلى به الطرابلسي إلى إحدى الإذاعات التونسية، والذي نفى فيه أن يكون حاملاً لجنسية إسرائيلية، أعلن عدد من المحامين والبرلمانيين والنشطاء السياسيين القوميين أنهم سيعترضون أمام القضاء، وبخاصة أمام المحكمة الإدارية المختصة على تعيينه.
كذلك، أعلنت هيئات قومية عروبية وبعض الجمعيات اعتزامها تقديم طعون سياسية وإعلامية وحملات شعبية ضد قرار التعيين. وبالفعل، رفع عدد من المحامين والنشطاء السياسيين القوميين قضايا لدى المحاكم التونسية للمطالبة بإسقاط الحكومة وبعزل الطرابلسي بسبب تصريحات ادعوا أنه أدلى بها قبل أشهر لقناة تلفزيونية فرنسية وساند فيها قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب القاضي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، كما ادعوا أنه طالب بـ«التطبيع السياسي الشامل» بين تونس وإسرائيل.
غير أن بعض أصدقاء روني الطرابلسي، مثل الإعلامي أبو بكر الصغير، يرجّح نجاحه في خطته بحكم ما يتميز به من نشاط وحيوية وعلاقات مع معظم الأطراف السياسية من العلمانيين إلى الإسلاميين. واعتبر التيجاني حداد، وزير السياحة السابق، أن روني الطرابلسي يمكن أن ينسحب من رئاسة شركته أو شركاته مؤقتاً حتى لا يكون عرضة للطعن القانوني.

- يهود في حكومة تونس
جدير بالذكر، أن روني (رينيه) الطرابلسي، المولود في جربة عام 1962 – ليس أول يهودي يعيّن وزيراً في تونس. فقد شغل مناصب وزارية قبله وزيران يهوديان في حقيبة التجهيز والإسكان والأشغال العامة قبل نحو 60 سنة، هما ألبير بيسيس الذي عيّن في حكومة الطاهر بن عمار في مرحلة الحكم الذاتي عام 1954، وآندريه باروش الذي عُيّن وزيراً في حكومة الحبيب بورقيبة الأولى بين 1956 و1957، وحافظ على موقع عندما عين بورقيبة رئيساً للجمهورية في يوليو (تموز) 1957 بعد انتهاء حكم البايات. وحافظ باروش على موقعه حتى ربيع 1958.
هذا، وكلف بورقيبة آندريه باروش بتحديث العاصمة التونسية عمرانياً. لكنه أبعده بعد احتجاجات مسؤولي التراث والمؤرخين داخل تونس وخارجها على هدم وزارته سور تونس التاريخي بحجة التحديث، وتخطيطه لهدم الأسوار في بقية المدن التونسية مثل صفاقس وبنزرت وسوسة والمنستير في الساحل التونسي، موطن الزعيم الحبيب بورقيبة. فهل يكسب روني الطرابلسي ببراغماتيته وابتسامته وعلاقاته المعركة الإعلامية والسياسية التي تنتظره... أم يحصل العكس فتتراجع السلطات عن تعيينه مرة أخرى؟

- كنيس الغريبة... أقدم معبد يهودي في أفريقيا
يُعد كنيس الغريبة، الواقع في جزيرة جربة التونسية (500 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس)، أقدم كنيس في أفريقيا وأحد أقدم المعابد اليهودية في العالم؛ إذ يعود تاريخ تشييده إلى ما يزيد على 2500 سنة. وسنوياً، يزور آلاف اليهود الكنيس القديم في موسم تقليدي خلال شهر مايو (أيار) يستغرق 3 أيام للتبرك بالتوراة الموجودة فيه. وتشير المراجع إلى أن بين الروايات الشائعة عن أصل اسم «الغريبة»، هو لفتاة غريبة عن الجزيرة نجا جسدها من حريق أتى على مسكنها بالكامل، فصار الناس يتباركون بها.
ويتميز الكنيس الذي يقوم في قرية «الحارة الصغيرة»، على مقربة من مدينة حومة السوق كبرى بلدات جربة، بطابع معماري عربي - شرقي. من مبنيين كبيرين، الأول خاص بالعبادة ويغلب عليه اللون الأبيض والأزرق، بداخله بيت الصلاة وهو المكان الذي تؤدى فيه أهم طقوس الزيارة، أما المبنى الآخر فيستعمل للاحتفالات بالأهازيج والموسيقى التونسية وتوزيع المآكل في موسم الزيارة.
يوم 11 أبريل (نيسان) 2002، تعرّض الكنيس لهجوم إرهابي انتحاري خلّف 21 قتيلا (14 سائحاً ألمانياً بجانب فرنسيين اثنين وخمسة تونسيين). وأدى الهجوم إلى تراجع كبير في أعداد الزوار والسياح الوافدين إلى جربة – التي تضم 11 كنيساً – للمشاركة في الاحتفالات. ومنذ ذلك الحين، اتخذت السلطات التونسية إجراءات أمنية استثنائية وقائية خلال موسم الغريبة السنوي. بل، ألغيت الاحتفالات عام 2011؛ نظراً للظروف الأمنية والسياسية التي عاشتها البلاد.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن يهود تونس كانوا يشكلون إحدى كبريات الجاليات اليهودية في العالم العربي، لكن بعدما قدر عددهم بنحو 100 ألف نسمة عند استقلال تونس عام 1956، تراجع العدد الآن إلى أقل من ألفي نسمة يقيمون في جربة وتونس العاصمة وبعض المدن الأخرى.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».