أغلب الأبحاث التي تتناول البقايا الأثرية، سواء كانت مومياوات بشرية أو تماثيل، تسعى إلى فهم كيف كان الإنسان يفكر في الماضي ووضع تصور لأنماط الحياة في العصور السحيقة، لكن نادراً ما تقدم هذه الأبحاث ما يمكن أن يكون له انعكاس على حياتنا المعاصرة، وهو الأمر الذي تجاوزته دراسات سعت لتوظيف «الصبغة الزرقاء» التي ظهرت في كثير من الزخارف الفرعونية.
أحدث هذه الدراسات نشرتها دورية الفيزياء التطبيقية «Applied Physics» في مايو (أيار) الماضي، اكتشف خلالها فريق بحثي أميركي من جامعة كاليفورنيا فاعلية هذه الصبغة في مجال الطاقة.
«الأزرق المصري»
وقد اكتشف الباحثون من مختبر لورنس بيركلي الوطني في كاليفورنيا بعد طلاء ألواح من الألمونيوم بأصباغ بيضاء وسوداء ورمادية وزرقاء مصرية ووضعوها في الشمس، أن الألواح المصبوغة بالأزرق المصري ترتفع درجة حرارتها لـ20 درجة مئوية، مما يجعلها ملائمة لامتصاص الحرارة ومنع انتقالها لداخل المنزل، وهو ما يفتح المجال أمام تطبيقات كثيرة في مجال الطاقة.
يقول الدكتور أيمن أيوب، أستاذ الكيمياء بكلية العلوم جامعة «عين شمس»، الذي عمل في السابق على تصنيع نوافذ منزلية تعمل كخلايا شمسية: «هذا البحث يفتح المجال لتطوير تلك الفكرة التي عملت عليها بإدخال تلك الصبغة لتصميم الخلايا الشمسية بتلك النوافذ».
ولفت في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «فاعلية تلك الصبغة ترجع لكونها تعطي انبعاثا ضوئيا في نطاق الأشعة تحت الحمراء، بما يجعلها مناسبة لفرق الطاقة في أشباه الموصلات المستخدمة في الخلايا الشمسية». وأضاف أن «العيب الوحيد فيها أن كفاءة انبعاثها 10 في المائة فقط، وهي مشكلة يمكن التغلب عليها بإجراء تطوير في تركيب تلك الصبغة».
هذا التطبيق في مجال الطاقة ليس الوحيد لهذه الصبغة السحرية، فقبل نحو عامين توصل فريق بحثي بريطاني معني بالكيمياء الجنائية إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه الأزرق المصري في رفع البصمات من الأسطح اللامعة والأسطح ذات الزخارف الكثيرة.
وعادة ما تقوم الشرطة عند وصولها إلى مسرح الجريمة، بنثر مسحوق ذي لون متباين على الأسطح ليلتصق بأي بصمات أصابع، ليكون ذلك دليلا مرئيا على وجود شخص في المكان، ولكن هذه الطريقة غير ملائمة للأسطح اللامعة أو ذات الزخارف الكثير، وهذا هو الفارق الذي يمكن أن يحدثه الأزرق المصري.
ووفق البحث المنشور في مايو عام 2016 في الدورية المعنية بالأصباغ «Dyes and Pigments»، فقد ذكر الفريق البحثي أنهم وجدوا أن تمرير الصبغة الزرقاء المصرية بالفرشاة على الآثار المادية بمسرح الجريمة كالعادة، ثم تسليط الضوء عليها بواسطة كاميرا معدلة ومرشح حساس لـ«الأشعة تحت الحمراء القريبة»، يفيد في الحصول على صورة تظهر فيها البصمات بوضوح.
أبحاث أثرية
وكما كان الانبعاث الضوئي في منطقة الأشعة تحت الحمراء الذي تتيحه الصبغة مفيدا في مجالي الطاقة وكشف الجرائم، فقد تم توظيفه في دراسة الآثار.
واكتشف الكيميائيون عام 2009 أن «الأشعة تحت الحمراء» التي تصدرها هذه الصبغة عند تعريضها للضوء يمكن أن تكون مفيدة في الكشف عن بعض الأشياء التي لا ترى بالعين المجردة.
واستخدم المتحف البريطاني هذا الاكتشاف لإمكانيات الصبغة في دراسة أجريت على قطعا من رخام البارثينون، وهي قطع كانت تزين معبد البارثينون باليونان، واشتراها المتحف البريطاني عام 1817 من اللورد إلغين، السفير البريطاني في اليونان في ذلك الوقت.
وأتاحت التقنية لباحثي المتحف البريطاني اكتشاف أن هذا الرخام يعود تاريخه إلى ما قبل بداية الحضارة اليونانية، حيث عثر على الصبغة الزرقاء الفرعونية ضمن مكوناته.
وترتبط الصبغة، التي تستخدم في زخرفة المقابر، ببداية الأسر الفرعونية، إلا أن البطاقة التعريفية لـ«صحن من المرمر» في متحف الفنون الجميلة ببوسطن بالولايات المتحدة، تشير إلى أن هذه القطعة الأثرية التي يرجع تاريخها إلى فترة ما قبل الأسرات المتأخرة أو نقادة الثالث (نحو 3250 قبل الميلاد)، تم استخدام الأزرق الفرعوني في صباغتها. ولم يترك المصري القديم خلفه من النصوص ما يكشف عن سرها.