تغطيات التطرف... كشفٌ للوقائع أم منصة إعلامية مجانية للإرهابيين؟

تفاقم بث الكراهية لدى انتقاله إلى الإنترنت

تشير أبحاث إلى أن المطلوب من الإعلام هو تغيير أسلوب التعامل مع الحوادث الإرهابية وليس عدد مرات التغطية
تشير أبحاث إلى أن المطلوب من الإعلام هو تغيير أسلوب التعامل مع الحوادث الإرهابية وليس عدد مرات التغطية
TT

تغطيات التطرف... كشفٌ للوقائع أم منصة إعلامية مجانية للإرهابيين؟

تشير أبحاث إلى أن المطلوب من الإعلام هو تغيير أسلوب التعامل مع الحوادث الإرهابية وليس عدد مرات التغطية
تشير أبحاث إلى أن المطلوب من الإعلام هو تغيير أسلوب التعامل مع الحوادث الإرهابية وليس عدد مرات التغطية

من الممكن القول: إن المتطرفين من جميع أجنحة التطرف يستغلون الإعلام من أجل نشر آيديولوجياتهم وأفكارهم. من ناحية أخرى، يسعى الصحافيون إلى تغطية الأحداث بأنواعها ومنها الأحداث العنيفة وأعمال التطرف. ويضطر الإعلام ضمن هذه التغطية إلى لقاء شخصيات متطرفة كريهة للرأي العام ولكنها تمثل أهم جوانب ظاهرة التطرف.
وهنا يحتدّ النقاش حول كيفية التعامل مع ظواهر التطرف إعلامياً. وهل تشجع تغطية الإعلام للتطرف والمتطرفين على المزيد من التطرف أم أنها تكشف زيف ادعاءات وأفكار التطرف والمتطرفين؟
إحدى النظريات تحذّر من تغطية أحداث العنف وحوادث الإرهاب على أساس أن «العنف يولّد العنف». وفي دراسة أجراها البروفسور مايكل جيتر من جامعة ميدلين في كولومبيا بالتعاون مع باحث ألماني من معهد دراسات العمل في بون، تم تحليل أكثر من 60 ألف حادثة إرهاب في الفترة ما بين 1970 حتى 2012 نُشرت في صحيفة «نيويورك تايمز».
ولاحظ جيتر أن العالم شهد تصاعداً في أعمال الإرهاب خلال الـ15 عاماً الأخيرة. وبلغ عدد حوادث الإرهاب في عام 1998 نحو 1395 حادثة ولكن الرقم ارتفع بشدة في عام 2012 ليصل إلى 8441 حادثة. كما أن عدد الضحايا ارتفع من 3387 إلى 15396 عبر 15 عاماً. وفي معظم الحوادث لجأت الجماعات الإرهابية إلى استخدام الإعلام للترويج لأفكارها.
وكانت أبرز الأمثلة مشاهد الفيديو التي بثها تنظيم «داعش» الإرهابي لجز رؤوس الضحايا وتسجيل الفعل الشنيع لإعلام العالم. وبعدها طالبت جهات متعددة بمنع «أكسجين الدعاية» عن مثل هذه الجماعات العنيفة.
ويقول البروفسور جيتر إن المنظمات الإرهابية تحتل صدارة التغطية في تلفزيونات العالم، وهي تستخدم هذه التغطية من أجل بث أفكارها ونشر الفزع وتجنيد المزيد من المتطرفين. وقارن جيتر بين الحوادث التي تلقت تغطية إعلامية كثيفة وبين حوادث أخرى تماثلها خطورة ولكنها لم تستحوذ على اهتمام الإعلام بسبب حوادث أكبر في الأهمية مثل الأعاصير والكوارث الطبيعية. ووجد أن الحوادث التي حظيت بتغطية إعلامية مكثفة أدت إلى زيادة أحداث العنف في البلدان نفسها، خلال الأسابيع التالية بنسب تتراوح ما بين 11 و15 في المائة. وتوصل جيتر إلى نتيجة أن كل مقال إضافي نُشر في «نيويورك تايمز» عن حادثة إرهاب أدى إلى مصرع ضحية أو اثنين في الأسبوع التالي للحادث الإرهابي.
ولاحظ أيضاً أن الهجمات الانتحارية تستحوذ على اهتمام إعلامي أكثر من الحوادث الأخرى، مما يشرح توجه الجماعات الإرهابية إلى الاعتماد المتزايد عليها. وهو ينظر إلى التغطية الإعلامية للإرهاب ليس فقط من زاوية تشجيع هجمات جديدة ولكن أيضاً من باب التحذير من هجمات أخرى وشيكة خلال أيام من وقوع الهجمة الأولى.
ولكنه يضع الأمور في نصابها الصحيح بالقول: إن 42 إنساناً يقع ضحية للإرهاب يومياً في العالم مقارنةً بنحو سبعة آلاف طفل يموتون جوعاً وبأمراض متعلقة بسوء التغذية يومياً.
وهو يقترح، بناءً على البحث المكثف الذي أجراه، إعادة النظر في التغطية الإعلامية المبالغ فيها لحوادث الإرهاب، ومنع الإرهابيين من الحصول على منصة إعلامية مجانية. وهو ينصح الإعلام بتغطية الأحداث الأخرى التي تسبب الأضرار حول العالم بدلاً من التركيز على قسوة الإرهابيين وأفعالهم اللا إنسانية.
وتشير أبحاث أميركية أخرى إلى أن المطلوب من الإعلام هو تغيير أسلوب تغطية الحوادث الإرهابية وليس كمّ أو عدد مرات التغطية. ونظر أحد الأبحاث إلى 600 تغطية إعلامية للإرهاب خلال ثلاثة أشهر في عام 2015 من 20 مصدراً، ووجد أن التركيز الإعلامي كان على جانب العنف وليس على وسائل حل الأزمات بطرق غير عنيفة.
ووجدت الدراسة أن الإعلام الأميركي ذكر التدخل العسكري الأميركي 199 مرة، وهو عدد مرات يزيد عن إجمالي ما نُشر عن الجهود الدبلوماسية والتدخل الإنساني والأساليب اللاعنفية. وفي أربع حالات من وسائل إعلام أميركية تم إغفال الحلول غير العنفية بالمرة عبر فترة وصلت إلى ثلاثة أشهر.
وخلال ثلاثة أشهر فقط في عام 2015 ضمن نموذج الدراسة الذي شمل 20 مؤسسة إعلامية أميركية، جاء ذكر الإسلام مرتبطاً بالعنف 475 مرة، سبعة أضعاف أكثر من ذكر المسيحية و23 ضعفاً أكثر من ذكر اليهودية. ولم تذكر التغطية أن النصوص الدينية، في كل الأديان، يمكن أن تُتخذ سلاحاً يُساء استخدامه. والغريب أن وسائل الإعلام يتغذى بعضها من بعض في موضوعات الإرهاب، فتذكر وسيلة صحافية أن مصدرها هي وسيلة أخرى من دون بذل العناء للبحث عن مصادرها الخاصة.
وفي بريطانيا ثار الرأي العام على الإعلام المحلي لاستضافته ومحاورته متطرفين عنيفين من أمثال أنجم تشودري، المتطرف، وستيف بانون المتطرف الأميركي اليميني. وبلغ الأمر أن وسائل إعلام منعت بث أو نشر أي أخبار عن تشودري، لمنع نشر أفكار الكراهية التي يحملها.
ويرى مراقبون في الإعلام البريطاني أن الشروط القاسية المفروضة على تشودري عند إطلاق سراحه في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، سوف تؤدي به إلى كسرها في النهاية والعودة مرة أخرى إلى السجن.
وإذا كانت حالة تشودري واضحة للإعلام البريطاني والغربي في منع «أكسجين الدعاية» عنه، فهناك حالات ليست بنفس القدر من الوضوح لليمين المتطرف الذي ارتفعت أسهمه في أوروبا في السنوات الأخيرة بسبب الإعلام. فهناك حالات واضحة لوسائل إعلام يمينية تتماشي مع الأفكار اليمينية، بل إن بعضها يشجعها ويصب الزيت على النار أحياناً بالتحريض ضد المهاجرين أو اللاجئين على أساس أنهم يهددون المجتمع الأوروبي ويؤرقون سلامته.
وقد أدى هذا التوجه إلى زيادة الهجمات العنصرية على الأجانب التي شملت أيضاً المهاجرين الأوروبيين في بلد مثل بريطانيا، مما دفعها إلى التصويت على الخروج من أوروبا «لاستعادة زمام السيطرة على البلاد» كما تقول الدعاية اليمينية.
وزاد الأمر سوءاً انتقال التطرف اليميني إلى «الإنترنت»، التي لا تعرف ضوابط مهنية أو أخلاقية، فجاء التحريض أكثر وضوحاً، وركبت الموجة حركات عنصرية للترويج لأفكارها بعيداً عن الإعلام الرسمي. وكان «تويتر» أحد المجالات المفتوحة للتطرف من جهات متعددة، من المتطرفين والإعلام والسياسيين على وجه سواء.
ويعتقد البعض أن المتطرفين والإرهابيين اختطفوا وسائل التواصل الاجتماعي للترويج لأفكارهم المريضة. ومن الحالات المشهورة استخدام أحدهم «تويتر» في ترويع زبائن محلات «سيلفردجز» في لندن ببثه رسالة ذعر يقول فيها إن هناك من يطلق الرصاص داخل المتجر وعلى الزبائن المغادرة من أقرب مخرج. وأحدثت رسالة «تويتر» حالة من الذعر حتى تدخل آخرون لطمأنة الجمهور وتكذيب رسائل «تويتر» من هذا الإرهابي المعتوه.
وتعتقد أوساط إعلامية في بريطانيا أن «داعش» ما كان له أن يوجد من دون منصة التواصل الاجتماعي. وصدر كتاب اسمه «الحرب في 140 حرفاً»، وهو الحد الأقصى لحروف تغريدات «تويتر» سابقاً (المنبر رفعها إلى 280 في أكتوبر 2017)، شرح فيه المؤلف ديفيد باتريكاركوس كيف أسهمت وسائل التواصل في نجاح التنظيم الإرهابي في احتلال الموصل.
وقبل سقوط الموصل في عام 2014 في أيدي «داعش» كان الجيش العراقي أفضل تسليحاً وأكبر عدداً، لكن الجنود هربوا وتركوا المدينة لمصيرها بعد مشاهدتهم مقاطع مرعبة على وسائط التواصل للتعذيب وقطع الرؤوس الذي كان يقوم به التنظيم المتطرف على مشارف المدينة. وبث «داعش» بعد ذلك مقاطع فيديو خادعة للحياة تحت سلطات الخلافة بتصوير رجال التنظيم يحضنون صغار القطط على «فيسبوك» للترويج للجماعة، مما جلب لهم متطوعين من جميع أنحاء العالم، من بينهم أطفال.
وعندما ذبح التنظيم الإرهابي الصحافي الغربي جيمس فولي في عام 2014 وبثت تلفزيونات العالم بعضاً من المشهد المرعب على يد الإرهابي الملقب بـ«الجهادي جون»، اكتشف «داعش» أن الدعاية سلاح في حد ذاته وأمعن في المزيد من عمليات الذبح والحرق المتلفز لكي يبقى في الأخبار.
وتبذل الدول الغربية حالياً جهوداً من أجل الضغط على شركات التواصل الاجتماعي لاستعادة زمام السيطرة على المواقع ومنع المواد المتطرفة والإرهابية التي تشجع على العنف. ولكنه جهد يقول البعض إنه جاء متأخراً بعض الشيء.


مقالات ذات صلة

الإعلام الأميركي يستعد لـ«الجولة» الثانية من «النزال» مع ترمب

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ.ب)

الإعلام الأميركي يستعد لـ«الجولة» الثانية من «النزال» مع ترمب

سيتوجّب على الإعلام الأميركي التعامل مجدّداً مع رئيس خارج عن المألوف ومثير للانقسام ساهم في توسيع جمهور الوسائل الإخبارية... وفي تنامي التهديدات لحرّية الإعلام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
العالم عدد الصحافيين السجناء في العالم بلغ 361 في نهاية عام 2024 (أرشيفية)

360 صحافياً مسجونون في العالم... والصين وإسرائيل في صدارة القائمة السوداء

أعلنت لجنة حماية الصحافيين، الخميس، أنّ عدد الصحافيين السجناء في العالم بلغ 361 في نهاية 2024، حيث احتلّت إسرائيل المرتبة الثانية في سجن الصحافيين، بعد الصين.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق شعار المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)

«الأبحاث والإعلام» تنال حقوق تسويق برنامج «تحدي المشي للمدارس»

أعلنت «المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام» عن شراكة استراتيجية تحصل من خلالها على حقوق حصرية لتسويق برامج تهدف لتحسين جودة الحياة للطلبة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
شمال افريقيا من تظاهرة سابقة نظمها إعلاميون احتجاجاً على ما عدوه «تضييقاً على الحريات» (أ.ف.ب)

تونس: نقابة الصحافيين تندد بمحاكمة 3 إعلاميين في يوم واحد

نددت نقابة الصحافيين التونسيين، الجمعة، بمحاكمة 3 صحافيين في يوم واحد، بحادثة غير مسبوقة في تاريخ البلاد.

«الشرق الأوسط» (تونس)
إعلام الدليل يحدد متطلبات ومسؤوليات ومهام جميع المهن الإعلامية (واس)

السعودية: تطوير حوكمة الإعلام بدليل شامل للمهن

أطلقت «هيئة تنظيم الإعلام» السعودية «دليل المهن الإعلامية» الذي تهدف من خلاله إلى تطوير حوكمة القطاع، والارتقاء به لمستويات جديدة من الجودة والمهنية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)
TT

شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)

استقالت رسامة الكاريكاتير الأميركية -السويدية الأصل- آن تيلنيس، الحائزة على جائزة «بوليتزر»، من عملها في صحيفة «واشنطن بوست» خلال الأسبوع الماضي، بعد رفض قسم الآراء في الصحيفة رسماً كاريكاتيرياً يصوّر مالك الصحيفة، الملياردير جيف بيزوس مع مليارديرات آخرين من عمالقة التكنولوجيا، وهم ينحنون أمام تمثال للرئيس المنتخب دونالد ترمب. وفور إعلان الخبر رأى كثيرون أن الواقعة الجديدة تختصر صورة المرحلة المقبلة في الولايات المتحدة.

مارك زوكربيرغ (آ ب)

إعادة تموضع

خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، بعدما بدا أن ترمب يتجه إلى العودة مجدداً إلى البيت الأبيض، بدأ الكثير من مسؤولي الشركات الكبرى ووسائل الإعلام الأميركية، رحلة «إعادة تموضع» تماشياً مع العهد الثاني لترمب. وهو ما تُرجم بداية بامتناع وسائل إعلام كانت دائماً تُعد رمزاً لليبرالية، مثل: «واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز»، عن تأييد أي من المرشحين الرئاسيين، فضلاً عن تغيير غرف التحرير في محطات تلفزيونية عدة، ومراجعة الكثير من سياسات الرقابة والإشراف والمعايير الناظمة لعملها، إلى إعادة النظر في تركيبة مجالس إدارات بعض شركات التكنولوجيا.

وبعيداً عن انحياز الملياردير إيلون ماسك، مالك تطبيق «إكس»، المبكر لترمب، واتجاهه للعب دور كبير في إدارته المقبلة، كانت الاستدارة التي طرأت على باقي المنصات الاجتماعية والإعلامية مفاجئة وأكثر إثارة للجدل.

ان تيلنيس (جائزة بوليتزر)

خضوع سياسي أم تغيير أعمق؟

البعض قال إنه «خضوع» سياسي للرئيس العائد، في حين عدّه آخرون تعبيراً عن تغيير أعمق تشهده سياسات واشنطن، لا يُختصر في ترمب، بل يشمل أيضاً كل الطبقة السياسية في الحزبَيْن الجمهوري والديمقراطي، وحتى المزاج الشعبي الذي أظهرته نتائج الانتخابات.

في بيانها الموجز، قالت تيلنيس التي تعمل في «واشنطن بوست» منذ عام 2008، إن قرار الصحيفة رفض رسمها الكاريكاتيري «مغيّر لقواعد اللعبة» و«خطير على الصحافة الحرة». وكتبت: «طوال ذلك الوقت لم يُمنع رسم كاريكاتيري قط بسبب مَن أو ما اخترت أن أوجّه قلمي إليه حتى الآن». وأدرجت تيلنيس مسوّدة من رسمها الكاريكاتيري في منشور على موقع «سبستاك»، يظهر بيزوس، مؤسس «أمازون» ومالك الصحيفة، مع مؤسس شركة «ميتا» مارك زوكربيرغ، وسام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، وباتريك سون شيونغ مالك صحيفة «لوس أنجليس تايمز»، و«ميكي ماوس» التميمة المؤسسية لشركة «والت ديزني»، ينحنون أمام تمثال ترمب.

وطبعاً كان من الطبيعي أن «يختلف» ديفيد شيبلي، محرّر الآراء في الصحيفة، مع تقييم تيلنيس، وبالفعل قال في بيان إنه يحترم كل ما قدمته للصحيفة، «لكن يجب أن يختلف مع تفسيرها للأحداث»، معتبراً قرار منع نشر رسم الكاريكاتير «تفادياً للتكرار»، بعدما نشرت الصحيفة مقالات عن الموضوع.

... وزوكربيرغ يعود إلى أصوله

بيد أن تزامن منع الكاريكاتير مع الخطوة الكبيرة التي اتخذتها شركة «ميتا» يوم الثلاثاء، عندما أعلن مارك زوكربيرغ أن «فيسبوك» و«إنستغرام» و«ثريدز» ستُنهي عملية التدقيق في الحقائق من قِبل أطراف ثالثة، قرأها العالم السياسي بوصفها نوعاً من الاستسلام؛ إذ قال زوكربيرغ في مقطع فيديو نشره على «فيسبوك» إن «(ميتا) ستتخلّص من مدقّقي الحقائق، وستستعيض عنهم بملاحظات مجتمعية مشابهة لمنصة (إكس)»، وهو ما رآه البعض «تضحية بقيم الشركة على (مذبح) دونالد ترمب وسياسة (حرية التعبير)» للحزب الجمهوري الجديد. بالنسبة إلى المحافظين اليمينيين، الذين يعتقدون أن المشرفين ومدققي الحقائق ليبراليون بشكل شبه موحّد، واثقون بأن النهج الأكثر تساهلاً في تعديل المحتوى سيعكس الواقع بشكل أكثر دقة، من خلال السماح بمجموعة أوسع من وجهات النظر. وعدّ هؤلاء، ومنهم بريندان كار الذي اختاره ترمب لإدارة لجنة الاتصالات الفيدرالية، قرار «ميتا» انتصاراً.

في المقابل، أعرب الليبراليون عن «فزعهم»، وعدّوه «هدية لترمب والمتطرّفين في جميع أنحاء العالم». وقال معلقون ليبراليون إن من شأن خفض معايير التأكد من الحقائق من قِبل أكبر منصة في العالم يُنذر بمجال رقمي أكثر غرقاً بالمعلومات الكاذبة أو المضللة عمداً مما هو عليه اليوم.

ابتعاد عن الليبرالية

هذا، ومع أنه من غير المتوقع أن يؤدي قرار زوكربيرغ بالضرورة إلى تحويل الإنترنت إلى «مستنقع للأكاذيب أو الحقائق»؛ لأن الخوارزميات هي التي تتحكم بما يُنشر في نهاية المطاف. فإن قراره يعكس، في الواقع، ابتعاد شركات التكنولوجيا عن الرؤية الليبرالية لمحاربة «المعلومات المضلّلة». وهذه مسيرة بدأت منذ سنوات، حين تراجعت «ميتا» عام 2019 عن التحقق من صحة الإعلانات من السياسيين، وعام 2023 عن تعديل الادعاءات الكاذبة حول انتخابات 2020.

وحقاً، كان إعلان يوم الثلاثاء هو الأحدث في سلسلة من تراجعات الشركة، واتجاهها نحو اليمين منذ إعادة انتخاب ترمب. ففي الأسبوع الماضي، عيّنت الشركة الجمهوري جويل كابلان رئيساً عالمياً للسياسة، وعيّنت، يوم الاثنين، دانا وايت، حليفة ترمب التي لعبت دوراً رئيساً خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، في مجلس إدارة الشركة. وفي السياق نفسه تضمّن إعلان يوم الثلاثاء نقل فريق الثقة والسلامة في الشركة من ولاية كاليفورنيا «الليبرالية»، إلى ولاية تكساس «الجمهورية»؛ مما يعكس دعوات من قادة التكنولوجيا اليمينيين مثل إيلون ماسك إلى تركيز الصناعة في بيئات «أقل ليبرالية» من «وادي السيليكون».

ترمب ممثلاً للأكثرية

في مطلق الأحوال، مع أن كثيرين من النقاد والخبراء يرون أن هذا التغيير يعكس بالفعل حقيقة ابتعاد شركة «ميتا» وغيرها من شركات ومواقع التواصل الاجتماعي عن الرؤية الليبرالية للحوكمة الرقمية، لكنهم يشيرون إلى أنه ابتعاد مدفوع أيضاً بالقيم الأساسية للصناعة التي جرى تبنيها إلى حد كبير، تحت الإكراه، استجابة للحظات سياسية مشحونة.

ومع تحوّل ترمب تدريجياً من كونه متطفلاً دخيلاً على الحياة السياسية الأميركية، إلى الممثل الأبرز للأكثرية التي باتت تخترق كل الأعراق -وليس فقط البيض- فقد بدا أن هذا النهج الذي يشبه نظام المناعة بات أقل ملاءمة، وربما، بالنسبة إلى شركات مثل «ميتا»، أكثر ضرراً سياسياً وأقل ربحية.