رواية تشيكية تحذر من الآثار المدمرة للتقدم التقنيhttps://aawsat.com/home/article/1435686/%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B4%D9%8A%D9%83%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%AD%D8%B0%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%AB%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%85%D8%B1%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D9%86%D9%8A
في عالم فانتازي وعجائبي تدور أحداث رواية الكاتب التشيكي مارتن فوبيكا «المسيح أخي» التي ترجمها للغة العربية الدكتور خالد البلتاجي، وصدرت حديثاً في القاهرة عن «دار صفصافة» بعنوان مختلف وهو «موسم الهجرة إلى الجنوب».
تدور الأحداث في عام 2105، حيث انتهت كل مكتسبات كوكب الأرض وسكانه، واقترب العالم من نهايته، وبدأت البشرية تتوجه نحو فنائها، ولا أمل في تغييرها حتى بقيادة الديكتاتور «دوشيفوتني» الذي لا يحمي سوى الأثرياء، ويتلاعب بالفقراء.
وبعد أن دمرت التقنية العالم، وأفسدت كوكب الأرض، توقف المطر، وانقسم الناس إلى طبقة ثرية وأخرى تحتضر. وفي هذه الأجواء يولد الطفل «إيلي»، وبمولده يستعيد الغيم عافيته، ويبدأ سقوط المطر من جديد.
تأتي «موسم الهجرة إلى الجنوب» بعد رواية فوبيكا الناجحة «كوكب جديد» التي صدرت في 2015، وبها يعود فوبيكا، الذي ولد أوائل الستينات، بالتحديد عام 1963، إلى المستقبل حيث لا يرى مستقبل العالم وردياً، كعادته، ويرصد خلال أحداثها الآثار السلبية للتقدم التقني على الكوكب الذي يبلغ منتهاه، ويحمل ما لا يتحمله، فيفسده. وتجف المياه في الأنهار، وتختفي مياه الشرب من البيوت إلا نادراً، بعد توقف المطر، واستحالة الحياة في مدن كثيرة.
ومارتن فوبيكا، بالإضافة إلى كونه روائياً، ناشر، وصحافي، ورحالة. ولد في مدينة براغ في أسرة تشيكية تشتغل بالثقافة، إذ تقلد أبوه منصب وزير الثقافة لعدة سنوات. درس في الجامعة بكلية الهندسة الفيزيائية والنووية وتخرج في عام 1987، لكنه لم يشتغل يوماً بهذا التخصص، بل عمل ناشراً منذ عام 1999، ويشغل منصب رئيس اتحاد الناشرين التشيك منذ عام 2013. وقد أصدر إلى الآن العديد من الروايات، التي يغلب عليها طابع الخيال العلمي، وقد ترجم بعضها إلى العربية، ومنها ثلاثية الشبيبة «المدينة النائمة»، و«العدالة النائمة»، و«السر النائم».
تشير أحداث الرواية إلى انقسام مدينة براغ عاصمة التشيك إلى أحياء مغلقة، وتدفق المهاجرين النرويجيين الأثرياء القادمين من الشمال إليها، على أمل أن تكون قد نجت من تغيرات الطقس، وفي أحد أحياء المدينة المغلقة يظهر الطفل «مارك» ابن السنوات الست، الذي ينتظر مع والديه مولد شقيقه «إيلي».
ومع ولادة إيلي، تبدأ أولى زخات المطر بعد سنوات جفاف طويلة. وهنا تظهر المقاربة الكبيرة بين شخصية المسيح والطفل التشيكي «إيلي» الذي يشكك هو نفسه في الأمر. بعدها يعثر «مارك» على مبتغاه، ويرى أن مهمته طيلة حياته هي أن يقوم على حماية «إيلي» القادم من عالم غير العالم. تتفسخ أسرة إيلي، بعدما يرحل الأب عنها، وتظل الأم حزينة عليه إلى أن ينقضي أجلها.
الرواية ليست عن حياة إيلي، لكن عن شقيقه مارك، البالغ من العمر 72 عاماً، الأقرب إليه. من هنا يمكننا أن نتفهم العنوان الأصلي لها «المسيح أخي». ومارك هذا يعيش في مدينة براغ، ولاحقاً في اليونان، في الجنوب الأوروبي، كراهب في مستعمرة لأتباع أخيه الفارين من الحروب والقتل، هناك يتزعم مجتمعاً لا يتميز عن باقي المجتمعات إلا في إنجاب الأطفال بعد أن توقفت البشرية عن الإنجاب، وبدأت تندثر إلا من أتباع شقيقه.
ونلاحظ غياب اليقين عند شخصيات الرواية كلها، فـ«إيلي» نفسه لا يعرف سبباً لما يفعله، ولا تفسيراً له. فهو فقط يهز كتفيه عندما يسأله شقيقه، ويقول: «لا يمكنني أن أفعل شيئاً آخر، هناك من يتحكم فيَّ بصورة مطلقة، رغم أني وحدي».
كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.
سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.
لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.
ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.
ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.
لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.
الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟
قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته
اللقاء الأخير
كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!