أحب المعلم سعيد محمد علي حسين، (58 سنة)، مهنة التدريس، وأدمن مشواره اليومي إلى مدرسة «الكويت» بحي صالة بمدينة تعز اليمنية. يقول بفخر إن آلاف التلاميذ في المدينة تعلموا على يديه طوال 28 عاماً. استطاع براتبه المتواضع تلبية احتياجات أسرته المكونة من 3 أبناء وفتاة، إضافة إلى الاهتمام بأمه وشقيقته، وكذلك العناية بأخيه المريض نفسياً.
دمرت قذيفة حوثية منزل المعلم سعيد ولم يستطع ترميمه ليكون صالحاً للسكن مجدداً، فاضطر للنزوح إلى جولة سوفتيل بالحوبان، شمال مدينة تعز. استأجر منزلاً هناك، وباشر بالتدريس في مدرسة 22 مايو (أيار) في المنطقة نفسها، «لكن المصائب لا تأتي فرادى»، كما يقول.
فبسبب انقطاع صرف رواتب المعلمين، لم يستطع توفير احتياجات أسرته الضرورية، ولا دفع إيجار المنزل. يقول بوجع: «مات أخي المريض بسبب عجزي عن شراء الدواء له، ولا أزال مديناً بإيجار 7 أشهر لمالك المنزل الذي استأجرته في الحوبان».
«أوقفوا صرف رواتبنا لمدة سنة كاملة، من سبتمبر (أيلول) 2016 وحتى سبتمبر 2017»، يحكي سعيد الذي أضاف: «وبسبب توقف صرف راتبي زادت ضائقتي، فبدأت بإرسال أبنائي واحداً تلو الآخر إلى منزل أحد الأصدقاء في تعز».
لم تقف مصائب المعلم سعيد عند هذا الحد، إذ زاد عليها اعتقال ابنه الطالب بالصف الأول الثانوي من قبل الميليشيات الحوثية في منطقة الحوبان.
«لم يسمحوا لي حتى بزيارته منذ اعتقلوه في 5 سبتمبر الماضي»، يستجمع المعلم سعيد كل بأسه كي لا ينهار من وجعه على ابنه وهو يحكي قصته المؤلمة. بسبب عجزه عن استئجار منزل، يسكن حالياً هو وأسرته في منزل أحد الأصدقاء، وينتظر بفارغ الصبر صرف الرواتب المتأخرة ليتمكن من سداد ديونه واستئجار منزل لأسرته، وجلب أمه وأخته وابنتيها اللاتي ما زلن يقطنّ المنزل الذي استأجره في الحوبان.
يقول سعيد: «خلال فترة توقف صرف الراتب، لجأنا إلى بعض المنظمات للحصول على مساعدات، لكن المساعدات التي حصلنا عليها لم تكن تغطي أياً من احتياجاتنا الأساسية، ولا يزال عليّ ديون كثيرة من الفترة التي انقطع فيها صرف راتبي».
حاول سعيد إيجاد عمل آخر لكنه لم يوفق، وقال: «ذهب بعض الزملاء للعمل في مدارس خاصة، وآخرون عملوا في بيع أشياء بسيطة، سجائر أو حلوى، على عربات صغيرة». رغم هذه المصائب المتلاحقة وقلة الحيلة بسبب الحرب وتوقف صرف رواتب المعلمين بتعز، لا يزال سعيد متعلقاً بمهنته النبيلة، لكنه لم يعد سعيداً بأي حالٍ من الأحوال.
الزوجان... مدرسا العلوم
المعلمة «ف. أ» (45 عاماً)، تُدرس مادة أحياء منذ 14 عاماً، وزوجها معلم رياضيات، كانا يعملان معاً في مدرسة ناصر بتعز، لكن الحرب وانقطاع الراتب اضطرهما للنزوح مع الابنة والابن إلى القرية، وبعدها إلى منطقة الراهدة شمال شرقي مدينة تعز، ليعملا في مدرسة النهضة.
ابنتهما (ت. هـ) مريضة وتعاني من مشكلات صحية بالكلى، إضافة إلى التهاب حاد في اللوزتين، كان الطبيب قد نصح باستئصالها قبل 4 أعوام، لكن الأسرة عجزت عن دفع تكاليف عملية استئصال اللوزتين. كما اضطرت الأسرة إلى إيقاف دراسة ابنتهما في الجامعة بسبب العجز عن دفع مصاريف الجامعة.
الابن (ب. هـ) يعاني من نقص الكالسيوم ولا تستطيع الأسرة توفير الأدوية الضرورية له. ولا تخفي الأستاذة «ف. أ» خوفها من العجز عن تسجيله في الجامعة بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية للأسرة بسبب الحرب وانقطاع صرف رواتب المعلمين.
كمعلمة وأم، تعرب الأستاذة «ف. أ» عن قلقها من توقف الدراسة في المدارس الحكومية بسبب انقطاع صرف رواتب المعلمين، وحرمان عدد كبير من الطلاب من استكمال دراستهم بسبب عجز أسرهم عن توفير مصاريف الدراسة في المدارس الخاصة.
بعد انقطاع الراتب، لم تستطع الأسرة دفع تكاليف نقل الأثاث من شقتهم في مدينة تعز، وظلت الإيجارات تتراكم عليهم، إضافة إلى إيجارات الشقة التي يستأجرونها في الراهدة، ولا يدرون كيف سيوفرونها.
تقول المعلمة: «لا نجيد سوى التدريس ولم يكن أمامنا سوى الاتجاه للعمل في المدارس الخاصة، لكننا لم نوفق».
الزوجان عملا قرابة عقد ونصف العقد في بناء عقول الأجيال، وبسبب الحرب وتوقف صرف رواتبهما، تهدم عالمهما الصغير دون أي ذنب اقترفاه.
قلق المنظمات الإنسانية:
وحسب منظمة «اليونيسيف»، فإن الحرب دفعت ما لا يقل عن نصف مليون طفل خارج مقاعد الدراسة منذ عام 2015، وهناك 3.7 مليون طفل آخرون معرضون لخطر خسارة العام الدراسي الحالي إن لم تُدفع رواتب المعلمين.
في يوم المعلم العالمي الذي يحمل عنوان «الحق في التعلّم يعني الحق في وجود معلّم مؤهّل». تدعو كل من مبادرة «التعليم لا يمكن أن ينتظر»، و«الشراكة العالمية للتعليم» من قبل «اليونيسكو» و«اليونيسيف»، إلى استئناف دفع رواتب المعلمين اليمنيين البالغ عددهم 145 ألف معلّم يعلّمون الأطفال تحت ظروف في غاية الصعوبة تهدد حياتهم.
ومن المرجح أن يؤدي مزيد من التأخير في دفع رواتب المعلمين إلى انهيار قطاع التعليم، ما سيؤثر في ملايين الأطفال في اليمن فيجعلهم عرضة لعمالة الأطفال والتجنيد في القتال، أو عرضة للاتّجار وسوء المعاملة والزواج المبكر.