وكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي... تنافس أم تكامل؟

صحافي لدى «رويترز»: «السوشيال ميديا» مفتاح للمصادر... وآخر بـ«شينخوا»: زادت الضغوط علينا

وكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي... تنافس أم تكامل؟
TT

وكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي... تنافس أم تكامل؟

وكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي... تنافس أم تكامل؟

صنع وجود شبكات التواصل الاجتماعي تحولاً كبيراً في صناعة المحتوى الإعلامي في حين فتح الفضاء الأزرق باباً واسعاً ومجالاً أكثر لانتشار الأخبار ومساحة تأثيرها والتفاعل معها جماهيرياً. وفي ظل هيمنة «السوشيال ميديا» على صناعة الأخبار وبثها واستقطابها للجماهير، انسحب البساط تدرجياً من وكالات الأنباء العالمية في سرعة نقل الخبر وإتاحة تداوله عالمياً لحظة وقوعه؛ ما تسبب في «خلخلة» أسلوب عمل هذه الوكالات التي كانت قبل عقود هي المصدر الرئيسي للأخبار.

التواصل يعيد التشكيل
أشارت دراسة موسعة لمركز أبحاث «بيو» الأميركي بعنوان «كيف تعيد وسائل التواصل الاجتماعي تشكيل الأخبار»، إلى أن أكثر من نصف مستخدمي «السوشيال ميديا» يشاركون في نشر أخبار ومحتوى إعلامي يتضمن نصوصاً وصوراً ومقاطع فيديو. بينما أظهرت نتائج استطلاع رأي حديث أجرته مؤسسة «آي إن جي» مع عدد من الصحافيين الدوليين، أن 50 في المائة من الصحافيين يعتبرون «السوشيال ميديا» مصدراً حياً للأخبار رغم عدم مصداقيتها في كثير من الأحيان، في حين أن 73 في المائة منهم أكدوا أنهم يستعينون بالمواد والمحتوى الأكثر قيمة ومصداقية بالنسبة لهم مثل مقاطع الفيديو والتغريدات، ولا سيما التي تخص الزعماء والرؤساء وقادة الدول. بل ويعتقد أكثر من 60 في المائة من الصحافيين، أنه لا يمكن لأي وسيلة إعلامية أو وكالة أنباء الاستمرارية من دون شبكات التواصل الاجتماعي.
يرى مصطفى آيت ميهوب، نائب مدير الإعلام بوكالة الأنباء الجزائرية، أنه من الصعب تحديد العلاقة بين «السوشيال ميديا» ووكالات الأنباء باعتبارها سلبية أو إيجابية، قائلاً لـ«الشرق الأوسط»، «فتحت مواقع التواصل الاجتماعي المجال للمواطن العادي للتعبير عن وجهة نظره، ونشر الأحداث الكبرى في نفس لحظة وقوعها، ورغم أن الغالبية العظمى ممن يطلق عليهم (الصحافي المواطن) غير مهنيين ومصادر غير موثقة؛ إلا أن (السوشيال ميديا) خلقت تنافسية مع كبرى وكالات الأنباء العالمية».
ويفسر ميهوب جانباً من سطوة «السوشيال ميديا» في أن «شبكات التواصل الاجتماعي هي الأقرب للجمهور، وأصبحت أداة لتشكيل الرأي العام، وهي أقل احترافية وغير مقيدة بأخلاقيات الصحافة، ولا تخضع للكثير من الضوابط قبل بث خبر ما». ويعتبرها بمثابة «إنذار» بوجود قصة خبرية يعمل عليها الصحافي بمزيد من الاحترافية ويغذيها بالتفاصيل. وذكر مثالاً: حينما نشرت مواقع «السوشيال ميديا» مقاطع فيديو لفيضانات «قسنطينة» بالجزائر، كان المواطن هو الأقرب للحدث، وتحرك الصحافيون لتغطية الحدث بالأرقام والإحصائيات وتمت الاستعانة بهذه المقاطع.
ميهوب أكد أن وكالات الأنباء في «مفترق الطرق» فيما يتعلق بصناعة الرأي العام والمحتوى الإعلامي، وعليها التأقلم مع تلك المواقع والشبكات؛ لأن «السوشيال ميديا» لا يمكن تجاوزها. مضيفاً، أن وكالات الأنباء تستخدم «السوشيال ميديا» لنقل الأخبار التي تصنعها لتصل للجمهور.
وحول الضغوط التي يمثلها «الزخم الإخباري» على «السوشيال ميديا» بالنسبة للصحافيين وأسلوب عملهم، أكد ميهوب، أن الصحافي لا بد أن يكون متابعاً جيداً للأحداث من حوله والأحداث الدولية، ووجود هذه المواقع شكل ضغطاً كبيراً، وبالطبع فإن بث خبر ما عبر «السوشيال ميديا» لا يمكن محاسبة الصحافي عليه؛ لكن تجاهل الصحافي وتأخره في تغطية هذا الحدث، هو ما يعتبر تقصيراً في تغطية الحدث.

مصادر غير موثوقة
أكد سامح صلاح، الصحافي بوكالة «رويترز»، أن «السوشيال ميديا» لا تعتبر مصادر موثوقة للأخبار، لكنها بمثابة «مفتاح» لمصادر وخيوط لقصص خبرية، وبخاصة في حالة الكوارث الطبيعة والأحداث الإرهابية، وتوفر للصحافي عيناً أخرى لعمل تغطيات حية لأحداث خارج نطاقه الجغرافي، وتجعله في قلب الحدث، ويمكنه بعدها التواصل مع المصادر وأخذ تصريحات عبر طرق عدة، ومثال على ذلك تغطيات جوائز دولية مثل «البوكر» و«نوبل» وغيرهما، حيث يتم بث هذه الفعاليات مباشرة في حين يقوم الصحافيون عبر العالم بتغطيتها عن بعد.
ويعتبر صلاح، أن طبيعة العلاقة بين «السوشيال ميديا» ووكالات الأنباء ذات بعد تكاملي؛ لكنها تضع على الصحافي الذي يعمل في وكالة أنباء دولية مهمة التحري بدقة، وتدعيم قصته الخبرية بمزيد من المصادر وتغطية كافة الزوايا المتعلقة بها، وأيضاً تمد الصحافي بالمواعيد والفعاليات القريبة منه، أو التي تقع في دائرة اهتماماته. مشيراً إلى أنها «تمد الصحافي بالحدث ورد الفعل حوله من دون الحاجة إلى فريق عمل كبير وتحركات واتصالات؛ مما يساعد الصحافي على تغطية الحدث بسرعة ومواكبته، وهو ما يحدث مثلاً عند تغطية أحداث متعلقة باختيار فيلم ما للترشح للأوسكار أو إطلاق عمل فني أو أدبي، وهكذا».
وحول طبيعة العمل الصحافي لوكالات الأنباء في ظل هيمنة «السوشيال ميديا»، يقول الصحافي عماد الأزرق، بوكالة الأنباء الصينية «شينخوا» لـ«الشرق الأوسط»، «بالتأكيد وجودها خلق قدراً كبيراً ومتزايداً من المنافسة والضغوط على الصحافي؛ إذ لم تعد المنافسة ما بين وكالات أنباء عدة فقط، وإنما دخل فيها ملايين المتنافسين، ومع ذلك يبقى صحافي الوكالة مقيداً بالتوثق من المعلومة من مصادرها، وحريصاً على ألا ينجر في سباق السرعة على حساب الدقة، وبخاصة في الوكالات الرسمية الناطقة باسم دول لما يمكن أن يسببه ذلك من مشكلات للدولة وليس للوكالة فقط.
ويشير الأزرق إلى أن «هناك الكثير من القصص الخبرية التي تكون مواقع التواصل الاجتماعي هي مفتاحها، وبخاصة فيما يتعلق القصص الخبرية للتجارب الشخصية أو العمل الأهلي البعيد عن الأضواء»، مؤكداً «لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي أثرت بشكل كبير على الإعلام بشكل عام، وعلى عمل صحافيي وكالات الأنباء والمؤسسات الإخبارية الدولية بشكل خاص، ومن هذه التأثيرات ما هو إيجابي، وإن كان أكثرها سلبياً من وجهة نظري».

تطور التقنية والمنبر
يفند الأزرق التأثيرات الإيجابية لوسائل التواصل الاجتماعي على طبيعة عمل الوكالات، قائلاً «سهلت من التواصل مع الكثير من المصادر، والحصول على بعض المعلومات موثقة من مصادرها»... أما عن التأثيرات السلبية لها، فيقول «لم تعد وكالات الأنباء العالمية هي مصدر المعلومة كما كان من قبل، ولم يعد صحافيو وكالات الأنباء دائماً الأسبق في الحصول على المعلومة؛ بل أصبح كل مستخدم لوسائل الاتصال الحديثة من (جوال وحاسب آلي) بمختلف أنواعها ومسمياتها، أسبق في الحصول على المعلومة ونشرها كل في مكانه. ونظراً لتحول المواطنين العاديين لمصادر للمعلومات كلٌ في موقعه ومكانه، فقد صارت وسائل التواصل الاجتماعي التي يبلغ مستخدميها بالملايين أكثر انتشاراً وقدرة في الحصول على المعلومة قبل غيرها من وسائل الإعلام التقليدية، ومنها وكالات الأنباء».
ويؤكد الأزرق، أن «لجوء كل الأجهزة الرسمية وغير الرسمية والأشخاص البارزين إلى إنشاء صفحات لهم على وسائل التواصل الاجتماعي، جعل من الصعب انفراد وكالات الأنباء بالمعلومات، وأصبحت مساحة السبق الصحافي للوكالة محدوداً، وفي مجالات محدودة». وصارعت كل وكالات الأنباء تقريباً إلى إيجاد مكان لها على وسائل التواصل الاجتماعي وإنشاء صفحات لها عليها، ووكالة أنباء «شينخوا» الصينية من بين تلك الوكالات التي أنشأت صفحات لها على «فيسبوك» و«تويتر» وغيرهما من مواقع التواصل الاجتماعي وبمختلف اللغات.

مخاوف من سحب البساط
من الناحية الأكاديمية، أكد الدكتور محمد سعد إبراهيم، عميد المعهد الدولي العالي للإعلام بأكاديمية الشروق، لـ«الشرق الأوسط»، أن أغلب الدراسات واستطلاعات الرأي لكبرى المراكز البحثية في مجال الإعلام، تؤكد أن منصات التواصل الاجتماعي أصبحت دون منازع المصدر الأول للخبر، في حين كانت وكالات الأنباء هي المصدر الرئيسي قبل ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، التي خلق وجودها زعزعة لهذه الوكالات من الناحية المهنية في ظل تراجع الصحافة المطبوعة والوسائل التقليدية للإعلام التي كانت تستند على الأخبار التي تبثها الوكالات في حين أصبحت «السوشيال ميديا» مصادر للأخبار.
ويشير إبراهيم إلى أن وكالات الأنباء العالمية الكبرى لا تزال أداة دعائية ومهمة لدى الدول الكبرى؛ لكن هذا لا ينفي الحالة التكاملية وتلاشي الحواجز بين شبكات التواصل ووكالات الأنباء واستخدامهما معاً في تشكيل الرأي العام الدولي.
كما يعتبر الدكتور باديس لونيس، الأستاذ بقسم الإعلام والاتصال بجامعة باتنة بالجزائر، أن العلاقة بين وسائل الإعلام المختلفة هي علاقة تكاملية، ورغم أن الطرح الذي يقول بالتنافس بينها، يستند إلى حقائق تاريخية أيضاً «منها: تناقص جمهور وسيلة معينة بظهور أخرى»، فإن الحقيقة التاريخية البارزة التي لا تناقش هي أن لا وسيلة جديدة استطاعت أن تلغي تماماً الوسيلة التي سبقتها. بل ربما تكون دافعاً لها للتجدد «لا التبدد». ‏هذه العلاقة صارت أكثر مدعاة للطرح مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي وصعود ما سُمي بصحافة المواطن التي حظيت بحفاوة بالغة، إلى الحد الذي وضع الإعلام أمام مساءلات جدية وحاسمة جعلت القائمين عليه يعيدون حساباتهم للتعامل والتأقلم مع الوضع غير المسبوق والاستفادة بقدر الإمكان من المزايا التي تقدمها صحافة لا تحتاج إلى كثير من التعقيدات المادية والتنظيمية.
ويلفت إلى أن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على عمل صحافيي وكالات الأنباء والمؤسسات الإخبارية الدولية ومختلف الوسائل الإعلامية الأخرى هو استمرارية لفكرة التكامل الأولى. ‏فهذه الشبكات قدمت خدمة كبيرة للصحافيين في إيجاد موضوعات وقضايا وأحداث لتغطيتها ومتابعتها حتى أن كثيراً من الفضائيات الدولية لم تكتف بتخصيص أركان ضمن برامج حول هذه الموضوعات، بل إنها خصصت برامج بأكملها: مهمتها فقط متابعة جديد تلك الشبكات.
ويؤكد أستاذ الإعلام بجامعة باتنة الجزائرية، أنها «حالة من تبادل للأدوار بشكل تلقائي، لكنه يساهم في تحقيق إشباعات معينة لدى جميع الإطراف»، ‏أما فيما يخص الضغوط التي تقع على عاتق الصحافي وهو يتابع جديد تلك الشبكات، فلا يخفى على أحد أن جل إن لم نقل جميع وسائل الإعلام ووكالات الإنباء صارت تشكل متخصصين وفرقاً من الصحافيين، مهمتهم الجلوس أمام حواسيبهم وهواتفهم النقالة فقط لمتابعة كل كلمة أو «هاشتاغ» أو صورة أو فيديو مثير للانتباه (الاشتباه). ‏وصار من اليسير متابعة ما يشغل الرأي العام العالمي أو المحلي أكثر من ذي قبل من خلال هذه الشبكات وصار تردد الوسومات والتراندينغ مفتاحاً موجهاً للصحافي، الذي عليه أيضاً، أن يتحلى بالذكاء والفطنة لـ«شم» وتوقع تطورات معينة لاقتناصها والحصول على السبق الذي يبحث عنه.


مقالات ذات صلة

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي شخص يلوّح بعلم تبنته المعارضة السورية وسط الألعاب النارية للاحتفال بإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق (رويترز)

فور سقوطه... الإعلام السوري ينزع عباءة الأسد ويرتدي ثوب «الثورة»

مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري نفسه مربكاً في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

جهود خليجية لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي لمواجهة «الأخبار المزيّفة»

الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
TT

جهود خليجية لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي لمواجهة «الأخبار المزيّفة»

الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)
الدكتور بريسلاف ناكوف (لينكد إن)

بين التحديات الكبرى التي يواجهها الباحثون في تطوير الذكاء الاصطناعي ضمان الموضوعية مع التدفّق المعلوماتي المتسارع والمتزايد عبر شبكة الإنترنت، واستخدام وسائل عديدة لضخ مختلف المعطيات والمعلومات، بات من الصعب على المتلقي التمييز بين الحقيقة والدعاية من جهة وبين الإعلام الموضوعي والتأطير المتحيّز من جهة ثانية.

وهكذا، تتأكد أكثر فأكثر أهمية وجود تقنيات التحليل والكشف وتصفية (أو «فلترة») هذا الكم الهائل من المعطيات، توصلاً إلى وقف سيل المعلومات المضللة وإبعاد الإشاعات و«الأخبار المزيّفة»، وجعل شبكة الإنترنت مكاناً آمناً لنقل المعلومات والأخبار الصحيحة وتداولها. والواقع أنه مع التحول الرقمي المتسارع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، غدت «الأخبار المزيّفة» واحدة من أبرز التحديات التي تهدد المجتمعات حول العالم؛ إذ يجري تداول ملايين الأخبار والمعلومات يومياً، ما يجعل من الصعب على الأفراد - بل وحتى المؤسسات الإعلامية - التمييز بين ما هو صحيح وما هو مزيّف أو مضلِّل، وفي هذا السياق برزت تقنيات الذكاء الاصطناعي كأداة مبتكرة وفعّالة للكشف عن «الأخبار المزيفة» وتحليلها.

تُعرَّف «الأخبار المزيّفة» بأنها محتوى إعلامي يُنشأ ويُنشر بهدف التضليل أو التلاعب بالرأي العام، وغالباً ما يصار إلى استخدامه لتحقيق غايات سياسية واقتصادية أو اجتماعية. وتتنوّع تقنيات إنشاء «الأخبار المزيّفة» بين التلاعب البسيط بالمعلومات... واستخدام تقنيات متقدمة مثل التزييف العميق، الأمر الذي يزيد من تعقيد اكتشافها.

جهود مبتكرة

من هذا المنطلق والمبدأ، في العاصمة الإماراتية أبوظبي، يقود الدكتور بريسلاف ناكوف، أستاذ ورئيس قسم معالجة اللغة الطبيعية في جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، جهوداً مبتكرة لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخصوصاً تحليل الطرق المستخدمة في الإعلام للتأثير على الرأي العام. ويبرز ضمن أبرز إسهامات ناكوف تطوير تطبيق «فرابيه - FRAPPE»، وهو أداة تفاعلية مصممة لتحليل الأخبار عالمياً، حيث يقدم التطبيق رؤية شاملة حول أساليب الإقناع والخطاب المستخدمة في المقالات الإخبارية، ما يمكّن المستخدمين من فهم أعمق للسياقات الإعلامية المختلفة. ويشير ناكوف إلى أن «فرابيه» يساعد المستخدمين على تحديد كيفية صياغة الأخبار وتأطيرها في بلدان مختلفة، ما يتيح رؤية واضحة لتباينات السرد الإعلامي.

تحليل أساليب الإقناع

مع أن دراسة أساليب الإقناع لها جذور قديمة تعود إلى الفيلسوف الإغريقي القديم أرسطو، الذي أسس لمفاهيم الأخلاق والعاطفة والمنطق كأساس للإقناع، فإن فريق ناكوف أضاف تطويرات جديدة لهذا المجال.

وعبر تحليل 23 تقنية مختلفة للإقناع، مثل الإحالة إلى السلطة، واللعب على العواطف، وتبسيط الأمور بشكل مفرط، يُسهم «فرابيه» في كشف أساليب الدعاية وتأثيرها على القراء. وتُظهر هذه الأساليب كيف يمكن للإعلام أن يختار كلمات أو صوراً معينة لتوجيه فهم الجمهور. وكمثال، يمكن تأطير قضية تغيّر المناخ كمشكلة اقتصادية أو أمنية أو سياسية، حسب الإطار الذي تختاره الوسيلة الإعلامية.

التشديد على أهمية تقنيات التحليل والكشف و"فلترة" المعلومات لجعل شبكة الانترنت مكاناً آمناً. (رويترز)

تقنية التأطير الإعلامي

أيضاً من الخواص التي يستخدمها تطبيق «فرابيه» تحليل أساليب التأطير الإعلامي، وهنا يوضح ناكوف أن التطبيق يمكّن المستخدمين من مقارنة كيفية تناول وسائل الإعلام للقضايا المختلفة؛ إذ يستطيع التطبيق أن يُظهر كيف تركّز وسيلة إعلامية في بلد معيّن على الجوانب الاقتصادية لتغير المناخ، بينما قد تركز وسيلة إعلامية في بلد آخر على الجوانب السياسية أو الاجتماعية.

وفي هذا السياق، يعتمد التطبيق على بيانات متقدّمة مثل قاعدة بيانات «SemEval-2023 Task 3»، التي تحتوي على مقالات بأكثر من 6 لغات، ما يجعل «فرابيه» قادراً على تحليل محتوى إعلامي عالمي متنوع. ويستخدم التطبيق الذكاء الاصطناعي لتحديد الإطارات السائدة في الأخبار، كالهوية الثقافية أو العدالة أو المساواة ما يساهم في تقديم صورة أوضح للسياق الإعلامي.

الذكاء الاصطناعي أداة أساسية

الذكاء الاصطناعي أداة أساسية في تطبيق «فرابيه»؛ إذ إنه يتيح للتطبيق تحليل الأنماط اللغوية التي تؤثر على آراء القراء. وهنا يقول ناكوف، خلال حواره مع «الشرق الأوسط» عن قدرات التطبيق: «يُعد الذكاء الاصطناعي في (فرابيه) عنصراً أساسياً في تحليل وتصنيف واكتشاف الأنماط اللغوية المعقّدة التي تؤثر على آراء القراء وعواطفهم». ويضيف أن هذا التطبيق «يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد أساليب الإقناع والدعاية، مثل الشتائم ولغة الترهيب، والتنمّر والمبالغة والتكرار. ولقد جرى تدريب النظام على التعرّف على 23 تقنية مختلفة غالباً ما تكون دقيقة ومعقّدة في محتوى الوسائط في العالم الحقيقي».

ويتابع ناكوف شرحه: «... ويستخدم التطبيق أيضاً الذكاء الاصطناعي لإجراء تحليل التأطير، أي لتوصيف وجهات النظر الرئيسة التي تُناقش قضية ما من خلالها مثل الأخلاق والعدالة والمساواة والهوية السياسية والثقافية وما إلى ذلك. ويسمح هذا للتطبيق بتمييز الإطارات الأساسية التي تؤثّر على كيفية سرد القصص وإدراكها، وتسليط الضوء على الإطارات المهيمنة في المقالة ومقارنتها عبر مصادر الوسائط والبلدان واللغات».

التحيزات الإعلامية

من جهة ثانية، بين التحديات الكبرى التي يواجهها الباحثون في تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ضمان الموضوعية والتقليل من التحيّز. وفي هذا الجانب، يوضح ناكوف أن «فرابيه» يركّز على تحليل اللغة المستخدمة في المقالات وليس على تقييم صحتها أو موقفها السياسي، وكذلك يعتمد التطبيق على تصنيفات موضوعية وضعها صحافيون محترفون لتحديد أساليب الإقناع والدعاية، ما يقلل من مخاطر التحيّز.

وبالفعل، تمكن «فرابيه»، حتى الآن، من تحليل أكثر من مليوني مقالة تتعلق بمواضيع مثل الحرب الروسية الأوكرانية وتغير المناخ. ويدعم التطبيق راهناً تحليل المحتوى بـ100 لغة، ويخطط الفريق لتوسيع نطاقه ليشمل لغات إضافية وتحسين دقة التحليل، ما سيعزّز قدرة التطبيق على فهم الأنماط الإعلامية عالمياً.

وفي حين يأمل الباحثون أن يصبح هذا التطبيق أداة أساسية للصحافيين والأكاديميين لفهم أساليب الإقناع والدعاية، يشير ناكوف إلى أهمية تطوير مثل هذه التقنيات لمساعدة الناس على التمييز بين الحقائق والدعاية، خاصة في عصر تزايد استخدام المحتوى «المؤتمت» والمعلومات المضللة. وبالتوازي، يسهم «فرابيه» بدور حيوي في تمكين الجمهور من تحليل الأخبار بطريقة أكثر وعياً وموضوعية، ووفق ناكوف: «في عصرنا الحالي، يمكن أن تُستخدم أساليب الإقناع لتضليل الناس؛ ولهذا السبب نحتاج إلى أدوات تساعد في فهم اللغة التي تشكّل أفكارنا». وبالتالي، من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن أن يصبح «فرابيه» نموذجاً لتطبيقات مستقبلية تسعى لتعزيز الشفافية في الإعلام وتقليل تأثير التضليل الإعلامي.

مكافحة «الأخبار المزيّفة»

في سياق متصل، تمثل خوارزميات الذكاء الاصطناعي نقلة نوعية في مكافحة «الأخبار المزيّفة»؛ حيث تعتمد على تقنيات متقدمة لتحليل النصوص والصور ومقاطع الفيديو.

ومن بين أبرز التقنيات المستخدمة في هذا المجال يمكن أيضاً تحليل النصوص؛ إذ تعتمد خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية على تحليل لغة المقالات والتحقق من الأسلوب، واكتشاف المؤشرات اللغوية التي قد تشير إلى التضليل.

كذلك تعمل أدوات الذكاء الاصطناعي على التحقّق من المصادر، وبالأخص من موثوقية المصادر الإعلامية من خلال تحليل تاريخ النشر والتكرار والمصداقية، والتعرف على التزييف البصري عن طريق استخدام تقنيات التعلم العميق للكشف عن الصور أو الفيديوهات المزيفة باستخدام خوارزميات يمكنها تحديد التلاعبات البصرية الدقيقة.

التحديات المستقبلية

ولكن، على الرغم من النجاح الكبير للذكاء الاصطناعي في هذا المجال، لا بد من القول إن التحديات لا تزال قائمة. من هذه التحديات تزايد تعقيد تقنيات التزييف، بما في ذلك عبر تطوّر تقنيات مثل «التزييف العميق» الذي يزيد مهمة كشف «الأخبار المزيّفة» صعوبة. وأيضاً ثمة مشكلة «تحيّز البيانات (أو المعطيات)» حيث يمكن أن تتأثر خوارزميات الذكاء الاصطناعي ببيانات التدريب، ما قد يؤدي إلى نتائج قليلة الدقة أو متحيزة. وبالطبع، لا ننسى أيضاً إشكالية التنظيم القانوني مع طرح استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا السياق تساؤلات حول الخصوصية والموثوقية والمسؤولية القانونية.