هل نحن أمام «حرب اقتصادية» نهائية بين أميركا والصين؟

قراءة في تعاطي «واشنطن ترمب» مع واقع التحدّي التجاري العالمي الكبير

هل نحن أمام «حرب اقتصادية» نهائية بين أميركا والصين؟
TT

هل نحن أمام «حرب اقتصادية» نهائية بين أميركا والصين؟

هل نحن أمام «حرب اقتصادية» نهائية بين أميركا والصين؟

منذ تولى دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية وضع الصين نصب عينيه، كيف لا وهو الذي لم تخلُ حملة من حملاته الانتخابية من إثارته موضوع التبادل التجاري بين دولته والصين، الذي يرى فيه ظلماً جائراً للولايات المتحدة.
إلا أنه بعيد دخول ترمب المكتب البيضاوي، لاح للبعض وكأن حماسة الرئيس الجديد للتصدّي للشأن التجاري مع الصين قد فترت. ذلك أنه إبان زيارة الرئيس الصيني بعد ذلك بثلاثة أشهر بدا اللقاء ودياً، خاصة عند ظهور الرئيسين وقد علت شفتيهما ابتسامتان عريضتان، وتبودلت التصريحات الودية، وكانت المحصلة النهائية للقاء الرئاسي إعادة تقييم العلاقات الأميركية الصينية في مدة تزيد على ثلاثة أشهر بقليل.
في حينه ازداد الظن أن ترمب استغل قضية العجز التجاري مع الصين للترويج لحملته الانتخابية، دون نية فعلية للعمل على موازنة هذا العجز بما يتناسب مع مصلحة الاقتصاد الأميركي. ولكن لم تمض سنة واحدة على ذلك اللقاء حتى انفجر ترمب على القوى الاقتصادية العالمية بما اتضح أنه بوادر حرب اقتصادية، فزاد الرسوم الجمركية على الواردات الأميركية من الحديد والألومنيوم والألواح الشمسية ومنتجات كثيرة أخرى، استهدف من خلالها الصين تحديداً، وإن لم يستثن دول الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية.
ومن ثم، يوماً تلو الآخر، أخذ الناس يشعرون أن العالم مقبل فعلاً على «حرب اقتصادية» يقودها الرئيس الأميركي... حرب اختفى فيها صوت التعقل ليعلو عليه صوت المصلحة. وكلما فرض الرئيس الأميركي رسوماً على منتجات يستهدف فيها قوة اقتصادية منافسة، ردّت هذه القوة برسوم انتقامية، ليردّ هو الآخر بزيادة هذه الرسوم، وتكرّر هذا الموقف بين الولايات المتحدة من جهة، والصين والاتحاد الأوروبي ودول أميركا الشمالية من جهة أخرى.
ومنذ بداية مارس (آذار) الماضي وحتى الآن، لم تزدد هذه الحرب إلا اشتعالاً، على الرغم من انعقاد «قمة الدول السبع» في يونيو (حزيران) الماضي. ذلك أن «القمة» لم تكن مثمرة لجهة إيجاد حلول فعلية للأزمة، ورغم توالي الاجتماعات الثنائية بين الدول للتفاوض، فإن الوفود عادت كل مرة من هذه الاجتماعات خالية الوفاض من الحلول لأزمة قد تغيّر الخريطة الاقتصادية في العالم.

يبدو العجز التجاري بين الولايات المتحدة والصين وكأنه السبب الأساسي في اندلاع الحرب الاقتصادية بين البلدين، وهذا السبب يبدو واضحا في جلّ تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي كثيراً ما كرّر أن دولة مثل دولته لا تقبل بوجود هذا العجز الذي تعدّى 370 مليار دولار أميركي في العام الماضي. غير أن الأسباب لا تقف عند نقطة عجز الميزان التجاري وحدها. ذلك أن الحرب الاقتصادية، من وجهة نظر أميركية، تتمحور حول نقطتين رئيسيتين:
النقطة الأولى، هي الدعم الحكومي الصيني للمصانع الصينية. إذ إن الكثير من المصانع الصينية تعود إلى ملكية حكومية، وبناءً عليه، فهي تتمتّع بدعم حكومي يقلّل تكلفة الإنتاج الإجمالية... وهو واقع يمنح التفوّق لمنتجات هذه المصانع مقابل مثيلاتها في الدول الأخرى. وقد تكون مصانع الحديد الصينية أكثر الأمثلة دقة على هذه الحالة، فالرئيس الأميركي طالما تذمّر من دعم الحكومة الصينية لهذه المصانع، ما جعل الحديد الصيني الأدنى ثمناً على المستوى العالمي. وفي ضوء غزارة الإنتاج الصيني ورخص ثمنه، بات من الصعب على بقية دول العالم منافسة الصين. وبالتالي، اضطرت بعض المناجم والمصانع في الولايات المتحدة للإغلاق لعجزها عن المنافسة. وحقاً، سبق للرئيس ترمب أن اتهم الصين أكثر من مرة بإغراق السوق بالحديد الرخيص الثمن بهدف السيطرة على الحصص السوقية العالمية، ويقاس على الحديد منتجات صينية أخرى.

منطق واشنطن للرسوم

في المقابل، ترى الولايات المتحدة بفرضها الرسوم الجمركية وغيرها، أنها تدعم منتجاتها الوطنية برفع أسعار المنتجات المستوردة. وهذا المنطق يبدو معقولاً إذا تعلق الأمر ببعض المنتجات، فالمستهلك قد يُحجِم عن شراء المنتج المستورد إذا ما كان المنتج المحلي أقل سعراً، وبالأخص، إذا تقارب مستوى الجودة. إلا أن بعض المنتجات لا تخضع لهذا المنطق، لا سيما المواد الخام والأساسية المستوردة من الصين، مثل الحديد والمكوّنات الداخلية للأجهزة الإلكترونية. هنا زيادة أسعار المواد تؤدي إلى زيادة أسعار المنتجات النهائية التي يصدّر بعضها إلى الخارج ويباع بعضها الآخر في الولايات المتحدة.
ومن ثم، فإن في زيادة أسعار هذه المنتجات إلحاق ضرر أكيد بالمصانع الأميركية التي قد تنخفض مبيعاتها، وبالنتيجة ستلجأ إلى تسريح الموظفين لتقليل التكلفة التشغيلية. وعليه، سيصبح القرار الذي استهدف خلق وظائف جديدة في قطاع التعدين الأميركي من خلال زيادة الرسوم على الحديد الصيني قد أدى إلى عكس الغرض منه، إذ تسبب في فقدان وظائف في قطاعات صناعية أخرى، مثل صناعة السيارات.

نقل التقنية

المحور الثاني لهذه الحرب - بحسب وجهة النظر الأميركية - هو النقل القسري للتقنية. ذلك أن الولايات المتحدة تتهم الصين بـ«سرقة» التقنية و«توطينها» في الصين بشكل غير مشروع، وذلك من خلال الاستحواذ على الشركات التقنية الأميركية، وتسريب هذه التقنية بعد ذلك إلى الصين.
ويرى الأميركيون أن الصين استغلت الأزمة المالية العالمية خلال العقد الماضي لتشتري شركات أميركية، حتى إنه بين عامي 2005 و2016 وصل عدد الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة وحدها إلى 202 استثمار. ومع أن عدد الاستثمارات التقنية منها لم يتعدّ 16 استثماراً، فإن قيمتها زادت على 21 مليار دولار. بل، وحتى مع كون هذه الاستثمارات قليلة نسبياً، سواءً من ناحية العدد أو القيمة، فإن الأميركيين يدركون أن المستقبل لمَن يملك التقنية. وبالتالي، فهم يتخوفون من أن تتفوق الصين على بلدهم بمجهودات الشركات والعقول الأميركية. ولذا أصدر البيت الأبيض قرارا منع فيه الشركات الصينية من الاستحواذ على شركات تقنية أميركية في السنوات السبع المقبلة.
وهنا، لا بد من القول، أن ما لا تعترف به الإدارة الأميركية، هو الدور الصيني في تعافي الولايات المتحدة من الأزمة المالية العالمية المشار إليها. إذ أسهمت الاستثمارات الصينية في القطاع العقاري خلال العقد المنصرم إسهاماً كبيراً في استقرار أسعار العقارات الأميركية، كما كان لضخّ الأموال الصينية في قطاع التقنية الأميركي دور هو الآخر في تحفيز قطاع تشتد فيه المنافسة على مصادر التمويل. مع هذا، الولايات المتحدة ليست وحدها مَن يتهم الصين بـ«سرقة حقوق الملكية الفكرية»، ذلك أن اليابان وبعض دول الاتحاد الأوروبي أيضا توجه إلى الصين التهمة ذاتها، مما قد يبرّر القرارات الأميركية إلى حد ما.

وجهة النظر الصينية

حتى الآن، تعاملت الصين مع ما يمكن وصف بـ«الحرب الاقتصادية» بشكل حذر، ولم تبادر بأي إجراء فيها، بل اكتفت بردات فعل مماثلة لتلكم الأميركية. والسبب أن الصين لم تحسن النية في غاية الولايات المتحدة من الحرب الاقتصادية منذ أن تولى ترمب الحكم. إذ الصين ترى أن الولايات المتحدة تطمح لتحجيمها اقتصاديا، تماماً، كما فعلت في الماضي مع اليابان ومع الاتحاد السوفياتي السابق. ومن ثم، تخشى الصين أن تنجح أميركا كما نجحت من قبل، وعلى الرغم من أن الصين متمرسة في المفاوضات والمواجهات الاقتصادية، فهي الآن تواجه خصماً عنيفاً ذا مطالب مستحيلة التنفيذ.
وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي يركز إعلامياً على مقدار العجز الاقتصادي ومعادلة الميزان التجاري، فإن مطالبه تحمل في طياتها تغييرات جذرية للصين. فالصين دولة شيوعية، والتغييرات التي يطالب بها ترمب تعني أن تتخلى الدولة عن مصانعها الحكومية، وأن تغير سياساتها الصناعية، بل وأن تغير سياساتها المالية برفع عملتها «اليوان» التي طالما تذمّر منها رؤساء الولايات المتحدة السابقون.
هذه التغيرات، بطبيعة الحال، شبه مستحيلة على الحزب الشيوعي الصيني الحاكم لأنها تمسّ قناعات الحزب ومعتقداته الجوهرية. وحتى بعض الأوروبيين واليابانيين المختلفين مع سياسات الصين التجارية، يعتبرون أن مطالب الرئيس ترمب الحالية تفتقر إلى الواقعية.
الحكومة الصينية تبدو مقتنعة أن الرئيس ترمب لا يهدف في الحقيقة إلى الوصول إلى اتفاق تجاري أو إلى موازنة العجز التجاري، بل يسعى إلى فرض دائم للرسوم الجمركية على السلع الصينية بهدف تغيير خريطة سلسلة التوريد في العالم. وحقاً، يندر أن يُصنع جهاز إلكتروني في الوقت الحالي من دون اللجوء إلى مكوّنات داخلية صينية مهما كان بلد منشأ هذا الجهاز، وقد لا تخلو أي مركبة من قطع صينية فيها، وكذلك الحال، في غالبية الصناعات الأخرى، من الملابس وحتى مصانع الأغذية. ولذلك فإن الصين تحمل أهمية استراتيجية عالمية في سلاسل التوريد لغالبية الصناعات في العالم. وهذا ما لا ترضاه الولايات المتحدة التي ترى أنها «ملكة العالم الجديد» وصانعة القرار الأولى. وعليه فإن المسؤولين الصينيين يكادون يجزمون أن ما يرمي إليه ترمب هو تغيير موازين القوى الاقتصادية في العالم، وبالذات، سحب البساط من تحت الصينيين، من منطلق أن بلاده لا تريد أن يكون لها أي غريم أو منافس اقتصادي في العالم. وكما لم ترض واشنطن في الماضي أن يكون الاتحاد السوفياتي غريماً عسكرياً منافساً لها، فهي تسعى حاليا إلى احتواء الصين بشكل استراتيجي من خلال الحرب الاقتصادية. وهذا، خاصة، بعد ظهور طموحات بكين المستمرة من خلال تمدّد علاقات الصين التجارية مع دول العالم، وسعيها الحثيث لإكمال «طريق الحرير الجديد» الذي يسهل على السلع الصينية الوصول لأوروبا بأكملها على طريق البر. ولعل ما يزيد الصينيين اقتناعاً بهذه النظرية، هو الثمن الذي سيدفعه الاقتصاد الأميركي جرّاء هذه الحرب، والذي على الرغم من فداحته لا يظهر أنه يمنع الولايات المتحدة من المضي قدماً في خوض هذه الحرب، وكأنها لا تمانع في دفع هذا الثمن في العصر الحالي، كي لا تغدو الصين منافساً اقتصادياً يستحيل التصدي له في المستقبل.

القوى الاقتصادية والمخاوف الصينية

اتفاق القوى الاقتصادية العالمية الثلاث على الصين هو هاجس سلطات بكين الأول في الوقت الراهن. فالولايات المتحدة تقود هذه الحرب الاقتصادية، والاتحاد الأوروبي - وإن عانى من تبعات هذه الحرب على المستوى الأوروبي - يرى بدوره أن على الصين تغيير سياساتها التجارية التي تلحِق الضرر بباقي دول العالم، ولا سيما، بعدما فرض الاتحاد الأوروبي مسبقاً رسوما إضافية على الحديد الصيني. أما اليابان، «ثالث» القوى الاقتصادية الثلاث، فقد عانت كثيرا من الصين على المستويين الثقافي والاقتصادي، وقد تجد الآن في هذا التحالف فرصة لفرض مطالبها الاقتصادية على «جارتها الآسيوية العملاقة.
لقد شعرت الصين بالارتياح سابقاً، بعد أن هاجم ترمب قوى اقتصادية عدة مثل الاتحاد الأوروبي واليابان ودول أميركا الشمالية الأخرى (كندا والمكسيك)، إلا أن واشنطن بدأت مفاوضاتها مع هذه الأطراف، سواءً مع الاتحاد الأوروبي، أو من خلال اتفاقية «نافتا» لدول أميركا الشمالية مع المكسيكيين والكنديين. وهذا ما جعل الصين تتودّد لـ«جارتها» الآسيوية اليابان، ما دفع مسؤولاً يابانياً للقول إن الصين «اكتسبت بعض الدبلوماسية بعد موقف الولايات المتحدة معها».
هذا الالتفاف الاقتصادي حول أميركا قد يقض مضاجع المسؤولين الصينيين في الوقت الحالي، ولكنه أقرب إلى ألا يحدث منه إلى الحدوث. فبالنسبة لأميركا الشمالية، لم تتوصل سوى المكسيك إلى حل في مفاوضاتها مع الولايات المتحدة بينما تعثرت حتى اللحظة المفاوضات مع كندا. والاتحاد الأوروبي ما زال في الدوامة نفسها، بل إن دول الاتحاد الأوروبي تبدو جاهزة هي الأخرى للرد على خطوات واشنطن برد انتقامي اقتصادي مماثل على الرسوم الأميركية. والواقع، أنه لم يستغرق الاتحاد الأوروبي أكثر من يوم واحد لإصدار قائمة تشتمل على 100 منتج أميركي معرّض لرسوم جمركية إضافية في رد عنيف على فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية على واردات الحديد والألمنيوم من دول الاتحاد. وحين صرح الرئيس الأميركي أن الولايات المتحدة قد تزيد التعرفة الجمركية على السيارات الأوروبية، جاء الرد الأوروبي حازماً وسريعاً مؤداه أن الاتحاد الأوروبي سيرد على هذه الرسوم - إن فُرضت - بالمثل.
ولكن الرئيس الأميركي - إن وصف بشيء فيه - فهو رجل لا يمكن التنبؤ بأفعاله. ولو قيل لشخص ما قبل سنوات قليلة إن رئيس أقوى دولة في العالم سيلقي هذه التصريحات النارية في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لعد ذلك ضرباً من الخيال. فعديد المواقف من الرئيس الأميركي تدل على أن مواقفه المستقبلية غير مضمونة بأي حال، فكيف إذا كان الحال لدولة وضعها هدفاً من أهداف فترته الرئاسية... مثل الصين.

تبِعات الحرب الاقتصادية

الحرب الاقتصادية ليست محض خيال غير مرئي. ونتائج هذه الحرب ملموسة للمستهلك، تماماً، كما هي مؤثرة على اقتصادات الدول. ثم إن دائرة المتأثرين منها لا ولن تقتصر على الصينيين والأميركيين وحدهم، بل تتسع لتشمل غالبية دول العالم، ولعل أقرب مثال على ذلك تغريدة الرئيس ترمب قبيل مؤتمر شركة آبل الأميركية التي جاء فيها قوله إن أسعار هواتف «الآيفون» قد ترتفع هذه السنة بعد فرض الضرائب على المنتجات الصينية. وعلى الرغم من أن ترمب أراد بهذه التغريدة الإعلان عن سياسته بإعفاء بعض المصانع الأميركية من الضرائب لتعويضها عن الرسوم المرتفعة، فإن تغريدته لا تخلو من صحة في مجملها. والحقيقة، أن غالبية مستهلكي المنتجات الأميركية سيتضرّرون حول العالم، حيث حجم الصادرات الأميركية للعالم يزيد على 2.3 تريليون دولار، وتشكل الواردات الصينية مواد أساسية لنسبة لا بأس فيها. وبالتالي، فزيادة أسعار هذه الصادرات نتيجة حتمية، وهي زيادة سيتحملها المستهلك النهائي، تماماً كما هو الحال مع «الآيفون». لذا، من المتوقع أن يتأثر المستهلكان الأميركي والصيني بشكل مباشر، ولكن التأثير غير المباشر على بقية المستهلكين حول العالم سيكون ملحوظاً أيضاً وغير مستغرب.
على المستوى الدولي، هذه الحرب قد تغير خريطة العالم الاقتصادية، إذ إن وضع اقتصاد الصين مؤثر على غالبية دول العالم، سواءً كانت الدول التي تربطها علاقات تبادل تجاري، أو الأخرى التي تربطها بالصين استثمارات طويلة المدى. واستهداف الولايات المتحدة للاقتصاد الصيني قد لا ينتهي بكساد اقتصادي صيني فحسب، بل قد يمتد إلى دول كثيرة مجاورة بتأثير أشبه ما يوصف بـ«تأثير الدومينو». فدول مثل كوريا الجنوبية والهند وفيتنام تعتمد بشكل مكثف على الحركة التجارية مع الصين. وعليه، فتأثر الاقتصاد الصيني يعني تأثر هذه الدول معها في حرب قد تمس بشكل مباشر ربع سكان العالم، وتمس البقية الباقية بشكل غير مباشر.
كلمة أخيرة. لعل الأمل مُعلق الآن على «قمة العشرين» المقرّر انعقادها في الأرجنتين، عند نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، للعمل على حل هذه الحرب قبل أن تخرج عن السيطرة.

* باحث سعودي متخصص
في الإدارة المالية والاقتصاد

 



كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)
TT

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)

استقبل الجيش الإسرائيلي أخيراً وفداً من قادة جيوش دول عدة، «لكي يدرسوا تجربة الحرب الأخيرة، في سبع جبهات (غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن)»، كما قال الناطق بلسان الجيش. وخلال الشرح المتحمس عن هذه الزيارة، سمح الناطق لنفسه بأن يقول إنهم جاؤوا لكي يتعلموا منه العديد من العمليات الحربية. وقال إن بين هذه الجيوش حضر مندوبون من كل من الجيوش؛ الأميركي والألماني والهندي والكندي والتشيكي والبولندي، وغيرها. وعرض عدة مجالات، قال إن جيشه أبدع فيها واستحدث طرقاً حربية سيصار إلى تدريسها في الكليات الحربية في العالم، خصوصاً المعركة ضد الأنفاق والتدمير ومسح الأبنية في قطاع غزة وتخريب الحقول الزراعية والسيطرة التامة على سماء إيران والاغتيال الجماعي لقادة «حماس» و«حزب الله» وقيادة سلاح الجو الإيرانية وعملية تفجير أجهزة النداء واللاسلكي في لبنان لقادة «حزب الله» (البيجر والوكي توكي) وغيرها.

لأول وهلة، يُحسب أن الرسالة - أعلاه - موجهة إلى العالم، لكن من يتابع الأوضاع في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين، يدرك أن هذا النشر هو جزء من الحرب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي على «الجبهة الثامنة».

إنها الحرب التي تعدّ الأكثر إيلاماً للجيش، لأن «العدو» فيها للجيش الإسرائيلي هو الحكومة واليمين العقائدي الذي يقودها.

يخوض اليمين هذه الحرب منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2009، وفي حينه حاول فرض حرب على إيران، لكن قادة الجيش وسائر الأجهزة الأمنية اعترضوا. فغضب، وراح يحاربهم، في البداية بهدوء وسريّة، لكن الحرب غدت علنية شيئاً فشيئاً. وكان فيها مسؤولون في الحكومة وباحثون وخبراء يهاجمون الجيش ويتهمونه بالتبذير، والجنرالات ينشرون المقالات التي تظهر الحكومة فاشلة وفاسدة.

أيضاً لعبت الشرطة والنيابة والمحكمة دوراً نشيطاً في كشف تورّط نتنياهو في قضايا فساد... وقدمته إلى المحاكمة. فاستعرت المعركة لتتحوّل إلى «حرب شاملة» بين الطرفين، ما جعل اللواء المتقاعد إسحاق بريك، عضو رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، يقول، في مقال نشرته صحيفة «معاريف» يوم 8 يونيو (حزيران) 2025: «لدينا قيادة فقدت البوصلة، في الحكومة وفي الجيش». ويضيف: «السياسة الحمقاء المتغطرسة التي يتبعانها، ستشجع أعداءنا على الاستعداد لحرب أخرى ضدنا، وكل هذا بسبب جماعة فقدت طريقها وعقلنتها وحكمتها».

نتنياهو وسموترتش (رويترز)

سموتريتش... والميزانية

أحد أبرز السياسيين في هذه الحرب هو بتسلئيل سموتريتش، الذي مع تشكيل الحكومة أصر على تولي حقيبة وزارة المالية وحقيبة أخرى هي وزير ثانٍ في وزارة الدفاع. وسموتريتش هو الممثل المباشر لليمين العقائدي. لديه أجندة واضحة لمنع قيام دولة فلسطينية وتهجير الفلسطينيين. ومنذ تسلمه مهامه، يخوض حرباً علنية على الجيش بلغت حد رفض العديد من طلبات زيادة الميزانية العسكرية. ثم إنه يتهم قادة الجيش بالتبذير وصرف رواتب عالية، وقام بنشر قائمة الرواتب لنحو 50 قائداً أساسياً، فاتضح أنهم يقبضون رواتب أعلى من رئيس الحكومة ورئيس الدولة.

وفي الأسابيع الأخيرة، عندما قرر الجيش رفع عدد جنود الاحتياط الدائم من 6 إلى 60 ألف جندي، سنة 2026، وطلب تمويلاً من المالية (كل جندي يكلف الجيش 300 دولار في اليوم ومعدل الخدمة لكل جندي يصل إلى شهرين في السنة المقبلة، وهذا البند وحده يكلف مليار دولار)، رفض سموتريتش، قائلاً إن على الجيش إيجاد التمويل من تقليص مصاريفه الأخرى. ووفق صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن قادة الجيش «يشعرون بالمهانة وهم يستجدون وزير المالية»، علماً بأنه على صعيد شخصي يبدو صبيانياً، ومن الناحية الجماهيرية يفقد الجمهور الذي انتخبه، إذ تشير الاستطلاعات إلى أنه سيسقط إذا أجريت الانتخابات اليوم.

للعلم، سموتريتش هذا حاقد على الجيش. فعام 2005، عندما كان في الخامسة والعشرين من العمر، بينما عمل الجيش على إخلاء مستوطنات قطاع غزة، جاء سموتريتش مع ألوف المستوطنين لمحاربة الإخلاء. ويومذاك، بطش به الجنود وجرّوه على الأرض عندما اعتقلوه. وهو جزء من الحركة التي قامت في حينه لمنع تشكيل حكومة في إسرائيل تقرّر إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية مثلما حصل في غزة. وهو يستذكر هذه الحادثة تقريباً في كل خطاب سياسي له، منذ ذلك الحين. ويعدّ رأس حربة في معركة اليمين لتحجيم مكانة الجيش ونفوذه في البلاد.

انتقاد المهنية العسكرية

في إطار هذه المعركة، تشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية موجة نشر ضخمة تنتقد الجيش وتظهره فاشلاً مهنياً. ويجنّد اليمين لهذا الغرض مجموعة كبيرة من الجنرالات السابقين، قسم منهم يكتب في معاهد الأبحاث التابعة لليمين، وقسم آخر ينشر مقالاته في وسائل الإعلام المستقلة، فضلاً عن الإذاعة والتلفزيون والشبكات الاجتماعية.

وأدناه نماذج من هذه المعركة:

العميد أورن سولومون، الذي عيّن رئيساً للجان التحقيق الداخلي في الجيش حول إخفاقات 7 أكتوبر (تشرين الأول) كشف في تقرير للقناة «14» عن أن قيادة الجيش «تتستر على الحقائق وليس صحيحاً الانطباع بأنها أول من تحمل المسؤولية». بل «أخفت الفشل الحقيقي لكونها اتبعت تكتيكاً حربياً خاطئاً منذ البداية... وبدلاً من أن تأمر سلاح الجو بقصف عناصر حماس في أثناء مهاجمتهم البلدات الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر 2023، فتشلّ حركتهم وتوقف تقدّمهم، قرّرت شنّ عملية انتقامية لاغتيال قادتها وتدمير مقراتها في شتى أنحاء غزة. وبذا فشلت في حماية مئات من الإسرائيليين الذين قتلتهم حماس ومئات المخطوفين».

وذكر سولومون أيضاً في التقرير، أنه طلب لقاء رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي والحالي إيال زامير لعرض استنتاجاته، لكنهما تهرّبا من لقائه. ومن ثم راحا يحرّضان عليه، لدرجة أنه قرّر إخفاء تقاريره والوثائق التي اعتمدها بهدف الحفاظ عليها في حال جرى له أي سوء. ورداً على سؤال طرحه عليه صحافي معروف بقربه من نتنياهو: «هل تخشى على حياتك؟ هل تعتقد أن هناك مَن قد يقتلك بسبب هذا التحقيق؟». فأجاب «نعم».

من جهة ثانية، تطرّ ق الصحافي والمؤرخ اليميني عكيفا بيغمان، صاحب كتاب «كيف حوّل نتنياهو إسرائيل إلى إمبراطورية»، كشف في موقع «ميدا» (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)، عن نتائج تحقيق أجري في لجنة فرعية سريّة للجنة الخارجية البرلمانية، خلال الشهرين الماضيين، تفيد بأن هناك «خللاً بنيوياً» في عملية تأهيل الضباط في الجيش الإسرائيلي. وممّا جاء في تقريره أن الضباط لا يتلقّون تدريبات عسكرية لأكثر من يومين في الأسبوع، بينما يتمتعون بـ«امتيازات دلال لا تلائم جيشاً مقاتلاً»، وأنه في كثير من دورات التعليم التي يمرّون بها ثمة ازدواجية وتناقضات لأن هذه الدورات لا تدار بشكل مهني.

زامير (الجيش الإسرائيلي)

مرحلة بنيامين نتنياهو...استخفاف بالجنرالات وطعن بهم علناً وفي الخفاء

عدوانية متزايدة في عدة اتجاهات

الصحافة الإسرائيلية، أيضاً، تنشر باستمرار تصريحات لوزراء يهاجمون بها قادة الجيش ويهينونهم في جلسات «الكابنيت» (مجلس الوزراء المصغّر)، الذي يقود الحرب، بينما كان نتنياهو صامتاً. ولكن، في يناير (كانون الثاني) 2025 تجرأ وأوقف الجلسة التي هاجم فيها الوزيران إيتمار بن غفير وميري ريجف رئيس الأركان هاليفي، على قراره تشكيل لجان تحقيق داخلية حول أداء الجيش.

وفي شهر مايو (أيار) تعرّض زامير لـ«بهدلة» مماثلة، لكنه ردّ على الهجوم بكلمات قاسية ونابية، ما جعل نتنياهو يلفت نظره ويوقفه عن الكلام في جلسة الحكومة. وحقاً، زامير نفسه لم يسلم من الانتقادات. وعندما اقترح صرف النظر عن إعادة احتلال غزة في نهاية الصيف، اتهمه غلاة اليمين بالتراجع عن وعوده في «تغيير نهج الجيش القتالي وجعله جيشاً هجومياً أكثر». وقالوا إن «الدولة العميقة الليبرالية تمكنت من السيطرة عليه وتدجينه».

في هذه الأثناء، هناك ما تشهده الضفة الغربية من اعتداءات. وهنا لا نقصد الاعتداءات الإرهابية على الفلسطينيين، بل الاعتداءات اليهودية على اليهود، التي تتصاعد باستمرار وفيها يهتف «شبيبة التلال» الاستيطانية لجنود وضباط الجيش الإسرائيلي «يهود نازيون».

أيضاً، أحد كبار الجنرالات، وكان مسؤولاً عسكرياً يعمل في وظيفة رفيعة في الضفة الغربية، بحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» (7 نوفمبر 2025)، يقول: «يبدو لي الوصف (فتيان التلال) أو (شبيبة التلال)، رومانسياً بعض الشيء، كما لو كانوا رعاة غنم يعملون في الزراعة، لكن هذا ليس ما نتكلّم عنه هنا. هؤلاء فتيان يحتاجون إلى رعاية مؤسّسات الرعاية الاجتماعية وسلطة الوالدين والتعليم. إنهم يتصرّفون كما لو كانوا في الغرب (الأميركي) المتوحش. ليس لديهم قانون ولا قاضٍ. يتجوّلون بقمصان كُتب عليها (شعب إسرائيل نعم ودولة إسرائيل لا)».

وتابع الجنرال: «إنهم لا يعترفون بالمؤسسات، وهم معادون تماماً للصهيونية، ويرسمون شعارات صهيونازية على الجدران، ويتلقون دعماً من بعض وسائل الإعلام القطاعية. لقد بنوا ماكينة عمل محكمة وحقيقية. يمكنك أن ترى فتىً في الثالثة عشرة من عمره يقود سيارة مشطوبة، وهو لا يملك حتى رخصة قيادة؛ بينما يُشعل فتيان آخرون النار في المركبات. ما عاد هؤلاء يكتفون بالاعتداءات على الفلسطينيين، بل أضحوا يعتدون بعنف وكراهية حاقدة على جنودنا وضباطنا، حتى ونحن نحميهم. وكذلك يعتدون على المواطنين اليهود، وليس فقط اليساريين منهم الذين يأتون إلى هنا للتضامن مع الفلسطينيين، بل يعتدون على مستوطنين ممّن كانوا ذات يوم شبيبة تلال لأنهم لا يوافقون اليوم على أساليبهم. وأنا لا أتكلم عن اعتداء واحد أو اثنين. لقد شكا عشرات المستوطنين الذين يتعرضون للاعتداءات منهم. ومن ثمّ، شعوري أن عدوهم الأول هو الجيش».

الرد لا يقل حدة

في المقابل، نجد أن الجيش أيضاً يملك جهاز دعاية يهاجم الحكومة بقوة شديدة ولديه مجموعة كبيرة من الكتّاب والناطقين باسمه، الذين يحذّرون من تبعات سياسة الحكومة وممارساتها، ويرون أنها «تُضعِف الجيش وتشجع العدو على تكرار الهجمات الشبيهة بهجمة حماس في 7 أكتوبر». كذلك ينتقد هؤلاء الحكومة بشكل لاذع على «فشلها المهني»، ويحمّلونها، رئيساً ووزراء، مسؤولية أساسية عن إخفاقات 7 أكتوبر، ويقولون إنها أدارت الحرب بشكل سيئ وفرضت على الجيش «إطالة الحرب لأغراض بعيدة عن الحسابات الأمنية والاستراتيجية، هدفها سياسي وحزبي للبقاء في الحكم». «وحقاً، الأمر الجوهري الذي يهاجمونها عليه هو: أنها لم تعرف كيف تستثمر المكاسب العسكرية التي وفّرها لها الجيش في مكاسب سياسية».

وهكذا يكتب الجنرال عاموس جلعاد، رئيس معهد السياسة والاستراتيجية في تل أبيب، يوم 17 نوفمبر 2025: «لقد نجح الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن في توجيه ضربة قاصمة لتحالف الشر في جميع جبهات القتال السبع. في الوقت نفسه، ثمة حاجة إلى استراتيجية لإرساء أمن طويل الأمد. حتى الآن، فشلت الحكومة الإسرائيلية في صياغة سياسة لما بعد (اليوم التالي)، ما أدى إلى خلق فراغ، ملأته الإدارة الأميركية بكل قوتها».

وأردف جلعاد: «من جهة، لهذا الأمر نتائج إيجابية تتمثل في إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء وعملية إعادة الرهائن القتلى، ووقف الحرب في غزة، وتوطيد العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، واحتمال تحقيق انفراج دبلوماسي مع الدول العربية. ولكن من جهة أخرى، قد يؤدي هذا التطور إلى أضرار جسيمة، مثل نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة بمشاركة دول معادية بقيادة محور تركي - قطري داعم لجماعة الإخوان المسلمين، واستمرار وجود حماس بصيغة جديدة في غزة. بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال الإضرار بالتفوق النوعي للجيش الإسرائيلي، من خلال نقل قدرات عسكرية غير مسبوقة إلى الدول العربية. في الخلفية، تُبذل جهودٌ من إيران وحزب الله لاستعادة القدرات العسكرية المتضررة خلال الحرب. ولكن الأنكى هو أنه على الصعيد الداخلي، تشهد إسرائيل بقيادة الحكومة سلسلةً من العمليات الهدامة التي تُلحق الضرر بالمناعة الوطنية والاجتماعية، التي تشكل ركيزةً أساسيةً من ركائز الأمن القومي الإسرائيلي. ويشمل ذلك استمرار الانقلاب القضائي وإلحاق الضرر بالمؤسسات القضائية، والحرب على وسائل الإعلام في البلاد، والتدخل في أنشطة أجهزة الأمن وإنفاذ القانون، وغيرها».


إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
TT

إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»

شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتعيين إميل جرجس مايكل في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة، ثم تكليفه لاحقاً بإدارة «وحدة الابتكار الدفاعي»، في أحد أبرز القرارات المفصلية ضمن إطار سياسة الابتكار العسكري للولايات المتحدة منذ إعادة هيكلة «البنتاغون» (وزارة الحرب الأميركية) عام في 2017. وذلك ليس فقط لأن المنصب يُعدّ رأس الهرم في الهندسة العسكرية والتطوير التكنولوجي، بل لأن مايكل يمثّل نموذجاً جديداً تماماً عن ذلك الذي اعتادت المؤسسة الدفاعية الأميركية تعيينه في هذا الموقع. إذ إن المسؤول الذي يُمسك عملياً بمفاتيح التفوق التكنولوجي الأميركي، من الذكاء الاصطناعي إلى الأنظمة غير المأهولة، ومن الحرب السيبرانية إلى الجيل الثاني من الدفاع الصاروخي، رجل أعمال مهاجر من جذور مصرية قبطية، بنى مسيرته في شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، بدءاً من شركة «تيل مي نيتوورك»، مروراً بـ«كلاوت»، ووصولاً إلى «أوبر»، إحدى أكثر شركات العقد الماضي إثارة للجدل والتأثير في آن واحد.

تعيين إميل مايكل وكيلاً لـ«البنتاغون» للبحث والهندسة لم يكن مجرد مفاجأة، بل كسرٌ لخطٍ طويل من الشخصيات المنتمية تقليدياً إلى عالم الصناعات الدفاعية أو البحث العلمي الأكاديمي. وفي حين يرى البعض أنّ الرئيس دونالد ترمب يكرّر رهانه المألوف على رجال الأعمال - كما فعل في الحكومة الأولى - يعدّ آخرون أنّ ما حدث هو إعادة توجيه جذرية لطبيعة القوة التكنولوجية الأميركية، بحيث تُسلَّم مفاتيح المستقبل لمن يملكون القدرة على «تسريع» الابتكار، وليس فقط تنظيره. وأدناه نبذة عن مسيرة مايكل نحو هذا المنصب، وتكوينه السياسي ومسارة المهني ومنطق تعيينه وتأثير خلفيته القبطية المصرية في شخصيته ودوافعه.

مهاجر في قلب سردية النجاح

ولد إميل مايكل في القاهرة عام 1972 لأسرة قبطية، وهاجر في سن مبكّرة مع عائلته إلى الولايات المتحدة.

وعام 2012 التقى جولي هيرين في لاس فيغاس (ولاية نيفادا)، وتزوجا عام 2018 في حفل أقيم بمدينة ميامي، بولاية فلوريدا.

الانتماء القبطي ليس تفصيلاً هامشياً، بل جزء أساسي في تكوينه السياسي وطريقة تفكيره. وفي شقّ من الهوية القبطية، عند البعض في مصر، ثمة بالهامشية السياسية والبحث عن الحماية عبر «المؤسسات القوية». وهذا انعكس لاحقاً على توجهات مايكل في السياسة الأميركية، وخاصة في علاقة الأقليات بالدولة الحديثة، وقيمة وجود دولة مركزية قادرة على فرض النظام.

وكان مايكل يشير دائماً في مقابلاته القليلة حول خلفيته، إلى أنّ تجربة الهجرة منحته ثقافتين من زاويتين: إيماناً أميركياً تقليدياً بالفرصة الفردية، وحسّاً «واقعياً» في فهم أخطار انهيار الدول وضعف مؤسساتها، وهو أمر لا يمرّ عادة في تكوين المسؤولين الأميركيين الذين يترعرعون داخل «الاستقرار المؤسساتي» الأميركي.

هذه الخلفية تفسّر أيضاً شغفه المبكر بالدفاع الوطني. فمع أنه رجل أعمال تقني، اختار عام 2009 الانضمام إلى برنامج الزمالة في «البيت الأبيض»، والعمل مباشرةً تحت وزير الدفاع روبرت غيتس (الجمهوري) في إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، إبان سنوات الحرب في العراق وأفغانستان. وما لبث رجل الأعمال الشاب الآتي من وادي السيليكون أن وجد نفسه فجأة في قلب العمليات العسكرية واللوجيستية، في مسار غير شائع إطلاقاً.

جمهوري من هارفارد... إلى ستانفورد

درس إميل مايكل في جامعة هارفارد العريقة، وفيها تولّى رئاسة نادي الجمهوريين. واللافت أنّه فور تسلمه المنصب بادر إلى تحويل اسم النادي إلى «نادي الجرف الأحمر لجمهوريي هارفارد»، في إشارة إلى رغبته في إدخال النساء إلى الهيكل السياسي الطلابي المحافظ. وهو موقف مبكر يعكس قدرة سياسية على قراءة البيئة الاجتماعية ومحاولة توسيع التحالفات، وهي مهارة ستظهر لاحقاً في إدارة الشركات.

بعد هارفارد، تابع دراسته في كلية الحقوق التابعة لجامعة متميزة أخرى هي جامعة ستانفورد، المختبر الفكري الذي أنجب نخبة من روّاد التكنولوجيا.

هناك ازداد تماهيه مع التيار البراغماتي داخل الحزب الجمهوري، الذي يركّز على الاقتصاديات الحديثة والابتكار، وليس فقط على خطاب «القيَم التقليدية». ولعل هذا المزيج، أي يميناً اقتصادياً وابتكاراً تكنولوجياً، كان أساسياً لاحقاً في فهم لماذا رأى ترمب فيه الشخص المناسب لقيادة سباق الحرب التكنولوجية.

المسيرة المهنية

على امتداد 25 سنة، بنى إميل مايكل سمعة استثنائية في عالم الشركات العالية النمو، حيث بدأ مسيرته المهنية مستشاراً استراتيجياً في شركة «كونفيرجينغ» التابعة لشركة «جيميني» للاستشارات. وبعد تخرجه في كلية الحقوق، عمل مايكل مساعداً في مجموعة الخدمات المصرفية الاستثمارية للاتصالات والإعلام والترفيه في «غولدمان ساكس» بنيويورك حتى عام 1999. ثم عمل في مشاريع استشارية للاندماج والاستحواذ العدائي، وفي تمويل الأسهم والديون المصرفية. ومن 1999 حتى 2008 شغل مايكل منصباً تنفيذياً في شركة «تيل مي نتوركس» الناشئة للاتصالات عبر الإنترنت لمدة تسع سنوات. وكانت تلك الشركة رائدة في تقنيات التعرف على الصوت، وبيعت لـ«مايكروسوفت» بـ800 مليون دولار عام 2007.

بعدها، عام 2012، أصبح رئيساً للعمليات وعضواً في مجلس إدارة شركة «كلاوت»، منصة تحليل النفوذ الرقمي (التي سبقت عصر البيانات الضخمة)، ليغادرها عام 2013، للانضمام إلى شركة «أوبر». وحقاً، بيعت «كلاوت» إلى شركة «ليثيوم» مقابل نحو 200 مليون دولار في أوائل عام 2014.

ثم انضم مايكل إلى «أوبر» نائب رئيس أول للأعمال، وكان بمثابة الذراع اليمنى لرئيسها التنفيذي، ترافيس كالانيك، وساعد الشركة على جمع ما يقرب من 20 مليار دولار. وللعلم، كان مايكل لاعباً رئيساً في تطوير جهود «أوبر» في الصين، حيث استثمر ملياري دولار لتصل قيمتها إلى 7 مليارات دولار عام 2016. كذلك عمل على بناء شراكات مع «بايدو» وشركات صينية أخرى. وعام 2016 قاد مايكل عملية دمج «أوبر الصين» مع منافستها المحلية «ديدي تشوكسينغ». وفي 2021، جمعت شركة «ديدي» 4.4 مليار دولار في طرحها العام الأولي.

تقدير قدراته التسويقية

عام 2014 اختير مايكل واحداً من «أكثر الأشخاص إبداعاً في مجال التسويق» وواحداً من «أكثر 100 شخص إبداعاً في مجال الأعمال» من قِبل شركة «فاست».

وفي عام 2017، ساعد مايكل في التفاوض على صفقة مع «ياندكس»، أكبر شركة تكنولوجيا وأشهر محرّك بحث على الإنترنت في روسيا – هي المعروفة باسم «غوغل روسيا» - حيث امتلكت «أوبر» 36.6 في المائة من كيان مشترك لمشاركة الرحلات في روسيا. واستثمرت «أوبر» 225 مليون دولار، واستثمرت «ياندكس» 100 مليون دولار.

رأس المال «المخاطر» يدخل «البنتاغون»

عام 2014، عُيّن إميل مايكل وثمانية آخرون في «مجلس أعمال الدفاع» التابع لـ«البنتاغون». انضمّ الثمانية إلى خمسة عشر عضواً من أعضاء المجلس، الذي أُسس عام 2002 لتقديم استشارات مستقلة بشأن القطاع الخاص. وكان مايكل الوحيد من بين المعيّنين الجدد الذي يتمتع بخبرة في مجال الشركات الناشئة.

وبالفعل، لعبت خلفيته في الاستثمار بشركات الذكاء الاصطناعي، و«البلوك تشين»، واللوجيستيات، والأنظمة الرقمية... وتحديداً، في المجالات التي تُعدّ اليوم قلب المنافسة الاستراتيجية مع الصين، دوراً كبيراً في جعله - في نظر فريق ترمب - «المختبر العملي» لقيادة سباق التكنولوجيا العسكرية، وهو ما أغرى ترمب بوضعه في رأس منظومة الابتكار العسكري.

خلال ديسمبر (كانون الأول) 2024، أعلن ترمب - وكان لا يزال رئيساً منتخباً - عن نيته ترشيح مايكل لمنصب وكيل وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، وأكد مجلس الشيوخ ترشيحه في مايو (أيار) 2025. وفي أغسطس (آب)، أصبح قائماً بأعمال «مدير وحدة الابتكار الدفاعي».

واليوم، يُعد منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة أخطر منصب تكنولوجي في الحكومة الأميركية. فهو الذي يحدّد اتجاهات الاستثمار التكنولوجي، وأولويات «وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة» (داربا)، وبرامج الأسلحة الاستراتيجية، وتوازن القدرة الأميركية مقابل الصين وروسيا.

ولفهم أسباب اختيار ترمب لمايكل، يرى البعض أنه يجب النظر إلى سمات الشخصية مقابل حاجات المرحلة. وفي ظل الحاجة إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»، ويُنظر إليه كمن يستطيع اختصار سنوات من الدورة البيروقراطية في وزارة الحرب.

وفي عهد فتح الأبواب للقطاع الخاص، اتجه ترمب أيضاً خلال ولايته الثانية إلى جعل الابتكار العسكري يعتمد على الصناعة الخاصة لا على مختبرات الدولة فقط، وهو بالضبط ما يجسده مايكل في هذا النهج. وطبعاً، يضاف إلى ما سبق أن خبرته العالمية، ولا سيما مع الصين وروسيا، منحته نظرة دقيقة على نماذج الابتكار لدى الخصوم.

مع هذا، يثير تعيين مايكل في منصبه جدلاً داخل واشنطن. فبعض الأصوات ترى في تعيين رجل أعمال بهذا الانغماس في رأس المال المخاطر، خطوة قد تعمّق نفوذ الشركات على حساب القرارات الدفاعية. ثم إن موقفه الحازم من الصين - بعدما حذر من أنها تهدف إلى «احتكار الذكاء الاصطناعي العسكري» خلال 10 سنوات - قد يدفعه إلى قرارات سريعة وغير تقليدية، بعضها يزعج التيارات التقليدية.

خلفيته ورؤيته لـ«البنتاغون»

من جهة ثانية، مع أن مايكل لا يقدّم نفسه بوصفه «سياسياً هوياتياً»، ورغم أنه شخصية محافظة سياسياً، فإنّ تأثير هويته واضح. ذلك أن خلفيته بصفته قبطياً مهاجراً جعلته، بحسب مقرّبين، أقرب لفهم أهمية «توازن القوة» في المجتمعات الهشّة، ما جعله يؤمن بأن التفوّق العسكري الأميركي هو أحد صمامات استقرار الأقليات حول العالم.

هذا البعد له تأثير ضمني لكن مفهوم في قراره بالدخول إلى قطاع الأمن القومي، وينعكس في دعمه لبرامج الدفاع غير التقليدية، ولتطوير تقنيات يمكن أن تمنع الحروب قبل وقوعها. وعلى عكس كثير من التكنولوجيين الأميركيين الذين يملكون حسّاً «ليبرالياً » تجاه الأمن القومي، ينظر مايكل إلى الجيش كـ«قوة استقرار»، وليس فقط كمجرد مؤسسة عسكرية.

ومن ثمّ، من الآن وحتى 2030، تشير كل المؤشّرات داخل وزارة الحرب إلى أنّ مايكل يخطط لثلاثة محاور حاسمة:

- تفعيل «نظام الابتكار السريع»، عبر تحويل «البنتاغون» إلى بنية مشابهة لشركات التكنولوجيا، في اتخاذ القرارات السريعة، وتجارب متكررة، ونسخ أولية، ثم تصنيع.

- إعادة توجيه وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا) نحو الذكاء الاصطناعي العسكري الكامل، ليس فقط كأداة دعم، بل كمكوّن قتالي مستقل.

- عسكرة البيانات، عبر تطوير أنظمة ميدانية تعتمد على بيانات اللحظة، بما يشبه نموذج «أوبر» في مراقبة الحركة البشرية، لكن في ساحات الحرب.

ولهذا بالضبط، نجده اليوم في رأس الهرم التكنولوجي للولايات المتحدة، في لحظة تتقرر فيها ملامح القرن الأميركي أو نهايته.


كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)
TT

كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)

يمثّل صعود إميل مايكل إلى منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة تحولاً واضحاً في طبيعة القيادة التكنولوجية داخل «البنتاغون»، مقارنةً بكل من مايكل غريفين وهايدي شو وديفيد هوني وكاثلين هيكس، الذين شكّلوا المسار المؤسسي التقليدي خلال العقد والنصف الماضيين.

مايكل غريفين (2018 - 2020) العالم الصاروخي، هو نموذج «العالم الكلاسيكي» داخل المؤسسة الدفاعية الأميركية. فيزيائي صواريخ، ومدير سابق لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، ورجل قائم على المدرسة البحثية الثقيلة.

كان تركيزه على الفضاء، والصواريخ، والأنظمة الفرط صوتية، وتطوير أنظمة الردع الاستراتيجي. والفارق الجوهري بينه وبين مايكل يكمن في الخلفية: غريفين ابن المؤسسات الأكاديمية والعسكرية التقليدية، بينما مايكل آت من شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، ما يجعله أكثر ميلاً للسرعة والمخاطرة وتبني الابتكار التجاري.

هايدي شو (2020 - 2023) سيدة المنظومات الدفاعية، جاءت من خلفية إدارية - تكنولوجية تمتد لعقود داخل «البنتاغون»، مركّزة على الدفاع الصاروخي والسيبراني، ومثّلت «الاستمرارية» أكثر من التغيير، بينما يجسد مايكل «القطيعة» مع الإرث المؤسسي. إذ إنه لا ينتمي لتقاليد «البنتاغون»، بل لثقافة استثمارية عالمية، ما يجعله أقرب إلى مقاربة «الابتكار المفتوح» مع الشركات الناشئة.

ديفيد هوني (2023 - 2025) المهندس البيروقراطي، يُعدّ خبيراً في البيروقراطية الدفاعية، عارفاً بتعقيدات الهياكل الداخلية ودوائر الاستحواذ. وظيفته كانت تحسين الانسيابية لا تغيير الفلسفة. أما مايكل فيقدّم رؤية انقلابية: تسريع القرارات، ونقل تقنيات القطاع الخاص مباشرة إلى ساحة القتال، وتخفيف دور البيروقراطية لصالح دينامية الشركات.

كاثلين هيكس (2021 - 2025) نائبة وزير الدفاع، تعد العقل الاستراتيجي المدني، ومع أنها لم تشغل الموقع نفسه، لكنها قادت بحكم موقعها، الإشراف على ملفات التكنولوجيا والتحوّل الدفاعي.

أيضاً مثلت هيكس المدرسة الاستراتيجية الليبرالية - التقليدية في الأمن القومي، ويمثل مايكل المدرسة المحافظة - التجارية، المتمحورة حول المنافسة مع الصين والتفوق الصناعي.

أخيراً، في حين يمثل الأربعة المذكورون خط الاستمرارية المؤسسية، يأتي إميل مايكل من خط الاختراق التكنولوجي التجاري. فهو أول من جمع بين خبرة وادي السيليكون والعمل المباشر في ساحات الدفاع، ما يجعل تعيينه انتقالاً من «عقود البحوث البطيئة» إلى «سباق الزمن التكنولوجي» في مواجهة الخصوم الدوليين للولايات المتحدة.