زادت حدة العجز في ميزان المدفوعات اللبناني ليصل مجموع العجز التراكمي إلى 757 مليون دولار حتى نهاية شهر يوليو (تموز) الماضي، وذلك رغم البدء اعتباراً من نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، باحتساب اكتتابات مصرف لبنان في سندات الدين الدولية المصدّرة لصالح الحكومة اللبنانية، والتي تكفلت بزيادة إيجابية قياسية في الصافي الشهري للأصول الأجنبية لدى البنك المركزي بقيمة ناهزت 2.158 مليار دولار، وبالتالي بتحقيق فائض بمقدار 1.203 مليار دولار خلال شهر مايو (أيار) الماضي.
ويؤشر تنامي العجز إلى حدة وتداعيات تباطؤ النمو الاقتصادي للسنة الثامنة على التوالي ومحدودية الرساميل والاستثمارات الوافدة، باستثناء ما يعود منها لتحويلات اللبنانيين العاملين والمغتربين في الخارج، والتي تزيد على 7.5 مليار دولار سنوياً، أي ما يوازي نحو 14% من الناتج المحلي، كما يبين الانحدار القاسي للعائدات السياحية، والتي كانت تمثل نحو 15% من الناتج. بينما يتحمل الاقتصاد، في السنوات عينها، أعباء تدفق نحو 1.5 مليون نازح سوري.
ويعاني لبنان أزمة مديونية تزيد نسبتها على 150% إلى الناتج المحلي، وهي أزمة متدحرجة بنمو سنوي بين 5 و7%، مقابل نمو ضعيف للاقتصاد بين 1.5 و2% توالياً منذ عام 2011. ونسبة المديونية اللبنانية من بين الأعلى عالمياً، فهي تبلغ نحو 180% في اليونان، والتي تسبق لبنان مباشرة في الترتيب العالمي للمؤشر السلبي، مسبوقةً باليابان فقط، المطمئنة إلى قاعدة اقتصادية وصناعية وتكنولوجية من بين الأفضل عالمياً.
وتسود مخاوف اقتصادية جدية من تدهور إضافي بفعل انكماش التسليفات، وارتفاع التضخم، وتنامي عجز الموازنة العامة، فيما تشكل عمليات ومبادرات السياسة النقدية، مصحوبة بفعالية وحصانة القطاعين المصرفي والمالي، رافعةً مالية ونقدية واقتصادية باتجاه استمرارية الثقة بالاقتصاد اللبناني والليرة.
وعموماً فإن أغلب القطاعات تحاكي الصعوبات يوماً بيوم في انتظار فرج «حكومي» يزداد تعثراً. فإلى جانب ضمور الاستثمارات الوافدة تتراجع التوظيفات الوطنية الجديدة في أغلب القطاعات، ويتفاقم العزوف الصريح عن توسعة أعمال قائمة بعدما اتجهت الإنتاجية ومعها المردود إلى الحد الأدنى بالمعيار الاستثماري؛ وربما تجتازه هبوطاً مع الارتفاعات المتوقعة لمعدلات الفوائد الدائنة والمدينة.
كذلك فإن القطاع العقاري أو كامل قطاع البناء والمقاولات ومستلزماته، زاد ترنحاً، وترجمته حالات الإفلاس والتعثر التي شملت أسماء كبيرة لأفراد ومؤسسات، وثمة إشارات إلى تمدد واسع النطاق يطال أسماء جديدة ما زالت تتستر بقدرات ضعيفة على سداد أقساط ديون مستحقة، عبر اتفاقات مع المصارف الدائنة تتوخى إعادة الجدولة أو استعمال جزء من أرصدة وسمعة إيجابية سابقة أو «حرق» أسعار تحفيزاً لطلب لا يستجيب إلا بقدر ضئيل، مترقباً تخفيضات أكبر قادمة حكماً مع تقدم الأزمة، وبعدما تعذر التمويل المدعوم ويتعثر التمويل التجاري بحذر المصارف وبتكلفته العالية.
وتتوسع مخاوف الاقتصاديين إلى التحذير من خفض التصنيف السيادي، بعدما سبق لوكالات تصنيف دولية أن ربطت أي تحسينٍ بقدرة التدابير الإصلاحيّة الماليّة على عكس مسار الدين العامّ في البلاد أو بتسجيل تقدّمٍ ملموسٍ في الميزان التجاري. ونبهت الوكالات إلى أن أي تخفيضٍ قد يطال التصنيف يمكن أن يأتي نتيجة تفاقم حدّة الضغوط على الاحتياطات بالعملة الأجنبيّة، وما قد يتضمّن من انكماشٍ في تدفُّق الودائع، الأمر الذي -ولو أنّه مستبعَدٌ- تبقى لحصوله تداعيات سلبيّة على ميزان المدفوعات وعلى قدرة المصارف على تمويل احتياجات الدولة. مع الإشارة إيجاباً إلى حصول لبنان على نتيجة «مرتفع» في معيار القدرة على مواجهة مخاطر الأحداث نظراً إلى الأثر المحدود للصعوبات والتحدّيات السياسيّة والجيوسياسيّة المُختلفة التي يواجهها على النموّ الاقتصادي، والقطاع المصرفي، واستقرار سعر صرف الليرة. فودائع الزبائن لدى المصارف تدعمها تدفّقات الرساميل من قِبَل المغتربين اللبنانيين، وكذلك لعبت الهندسات الماليّة التي أجراها مصرف لبنان دوراً في تمتين هذه الودائع.
كما تتصاعد الهواجس من إمكانية تضييع الفرصة الإنقاذية التي توفرت للبنان في مؤتمر «سيدر1»، حيث تعهدت دول عربية وأجنبية وصناديق ومؤسسات إقليمية ودولية بتقديم مساعدات وقروض ميسرة بقيمة إجمالية تصل إلى 11.6 مليار دولار. وتمّ اعتبار العديد من مشاريع برنامج الاستثمارات العامّة الذي قدمته الحكومة اللبنانية ملائِمة وجوهريّة لتحسين البنى التحتيّة المتردّية. واستخلصت مجموعة البنك الدولي أنّ غالبيّة المشاريع المخطَّط لها من شأنها أن تُخفِّض الهيكليّة التكليفيّة للقطاعات المعنيّة، وتُشجِّع الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة، وتُعزِّز النموّ المستدام، وتخلق عدداً متوسّطاً إلى كبير من فرص العمل الجديدة.
ووفق التوصيف الدولي، فإنّ لبنان يقع في المرتبة 130 من أصل 137 دولة حول العالم في معيار جودة البنى التحتيّة في ظلّ تراكم الدين العامّ وغياب قانون موازنة خلال فترة طويلة، ما أعاق إنفاق الحكومة بشكلٍ كافٍ على البنى التحتيّة. كذلك صُنِّف لبنان في المركز 134 في العالم لجهة جودة التغذية بالكهرباء، وفي المركز 120 لجهة جودة الطرقات، وفي المركز 104 في جودة الاشتراكات بخدمات الهاتف الخليوي.
ويعتبر البنك الدولي أنّ هذه التصنيفات المتدنيّة تعرقل بشكلٍ كبيرٍ إمكانات البلاد لناحية النموّ الاقتصادي والظروف المعيشيّة. في هذا الإطار، توصّل التقييم إلى أنّ 100% من الاستثمارات في المشاريع المقترَحة في خانات المياه ومياه الصرف الصحّي، والنفايات الصلبة، والاتّصالات، والثقافة، والصناعة، و92% من المشاريع في قطاع النقل، و83% من المشاريع في قطاع الكهرباء تُعَدّ أولويّاتٍ استراتيجيّة في القطاعات المعنيّة.
وبالاستناد إلى تقديرات مصرف لبنان، فإن كل ارتفاع في مستوى الاستثمار بمليار دولار (أي ما يُعادل نحو 2% من الناتج المحلّي الإجمالي)، تُقابله زيادة بنسبة 1% في نسبة النموّ الاقتصادي في البلاد. وحسب التوقُّعات، سيبلغ متوسّط النموّ الاقتصادي 3% خلال الفترة الممتدّة بين عامي 2018 و2021 (مقابل معدَّل 1.6% خلال الفترة الممتدّة بين عامي 2013 و2016)، وهو مُعدَّل قابل للتعديل في حال جرى التحقق من تأثيرات جذريّة لبرنامج الإنفاق الاستثماري خلال هذه الفترة. وهذا ما سيوجب إعادة النظر صعوداً بترقبات النمو. كما أنَّ إقرار قانون الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاصّ سيُسهم في تحسين فعاليّة المشاريع والشفافيّة والمُساءلة بالإجمال، عبر تشجيع القطاع الخاصّ على الانخراط في المشاريع المُقترحة.
لبنان: الرافعة النقدية والمصرفية تحدّ من سرعة تدهور الاقتصاد
عجز ميزان المدفوعات يزيد رغم إضافة السندات الدولارية
لبنان: الرافعة النقدية والمصرفية تحدّ من سرعة تدهور الاقتصاد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة