إيران أمام احتمال قيام نظام استبدادي بالكامل

تعاظم دور الحرس الثوري... على طريق الآلام نحو الديمقراطية

إيران أمام احتمال قيام نظام استبدادي بالكامل
TT

إيران أمام احتمال قيام نظام استبدادي بالكامل

إيران أمام احتمال قيام نظام استبدادي بالكامل

همّش قادة الحرس الثوري الإيراني سلطات مدنية خلال الشهر الماضي بشكل كبير لاختبار وتوجيه علاقات طهران مع واشنطن، وأصدروا إنذاراً نهائياً للرئيس الإيراني حسن روحاني بشأن إدارة الحكومة للشأن الاقتصادي. ولقد هدّد الحرس الثوري أثناء احتجاجات مناهضة للحكومة على خلفية الوضع الاقتصادي المتأزم، وقبيل العقوبات الأميركية، بإغلاق مضيقي هرمز وباب المندب، في حين تنتشر الشائعات في عموم إيران باحتمال تأسيس الحرس الثوري نظاماً استبداديا عسكرياً بالكامل. وفي المقابل، لا يستبعد، ظهور تصدعات داخل قيادة الحرس الثوري التي تبدو في العادة متماسكة. مع أنه، يجب أولا توضيح خلفية الأمر، وبخاصة أن تدخل الحرس الثوري في الشؤون السياسية والتجارية الإيرانية ظل ممتداً على فترة طويلة.
كان المرشد الأعلى الإيراني الراحل آية الله روح الله الخميني هو من أنشأ الحرس الثوري الإيراني عام 1979 للتصدي لأي انقلاب عسكري من جانب الجيش، وإحكام هيمنته على الجماعات المتنوعة التي قادت الثورة ضد الحكم الملكي، وحماية اسم «الثورة الإسلامية». وكان على الحرس الثوري من الناحية الدستورية «الدفاع عن الثورة وإنجازاتها»، وهذه عبارة غامضة اختار الحرس الثوري تأويلها بشكل فضفاض منذ ذلك الحين للتدخل في المجال العسكري وغير العسكري. وبعد وفاة الخميني، وصعود «خلفه» علي خامنئي، رجل الدين الآتي من القيادات الوسيطة، إلى سدة الحكم عام 1989. اتسع نفوذ الحرس الثوري كثيراً، إذ اعتمد عليه خامنئي في تدعيم سلطته وتوطيدها، ما أسفر عن علاقة تكافلية - تعاضدية.
سيطرت شبكة محكمة للغاية من المحاربين القدامى، الذين شاركوا في الحرب الإيرانية العراقية (حرب الخليج الأولى) (1980 - 1988)، على المواقع القيادية في الحرس الثوري الإيراني. وظلت هذه الشبكة متماسكة طوال فترة الاضطراب السياسي التي سادت إيران، والتغيرات في قيادة الجيش حتى بداية عام 2010. على الأقل بحسب ما يوضح الخبير الأميركي ويل فولتون، تفصيلا في «شبكة قيادة الحرس الثوري الإيراني».
وسّع الحرس الثوري نطاق نفوذه السياسي كثيراً بعد عرضه عضلاته في حقبة التسعينات بعد نجاح حركة «الإصلاح». ونظر الحرس الثوري والمتشددون إلى تلك الحركة، التي كانت تدعو إلى تخفيف القيود الاجتماعية والسياسية وتحسين العلاقات مع العالم، باعتبارها خطراً مهلكاً يهدد الثورة، وإلى الداعين إليها باعتبارهم عملاء للغرب. وخلال الاحتجاجات الطلابية عام 1999. كتب قادة الحرس الثوري خطاباً مفتوحاً إلى محمد خاتمي، الرئيس الإيراني آنذاك، يحذرونه فيه من تدخلهم في حال عجزه عن السيطرة على الاحتجاجات. وأقدمت المؤسسات غير المنتخبة التابعة للحرس الثوري، والتي يهيمن عليها المتشددون، على «تطهير» هيئات الانتخاب من «الإصلاحيين» بحلول عام 2005. وبعد ذلك ساعد الحرس الثوري في انتخاب أحد أفراد الحرس الثوري القدامى، هو محمود أحمدي نجاد، رئيساً للجمهورية. وكذلك تولى الحرس قيادة حملات التنكيل بالإيرانيين الذين اعترضوا على الانتخابات المزوّرة عام 2009.
أثارت الاحتجاجات واسعة النطاق في نهاية عام 2017 وبداية 2018، وامتدت لنحو سنة وبدت كمؤشر لإرهاصات ثورة، قلقَا عميقاً في صفوف قيادة الحرس الثوري. كان غضب الإيرانيين من الإدارة الفاشلة للبلاد، وخاصة رفضها للإصلاح، هو القوة الدافعة المحركة لتلك الاحتجاجات. وخلص الباحث ميساغ بارسا في قراءته «الديمقراطية في إيران» إلى أن الدول والمجتمعات «كانت تحل صراعاتها تاريخياً باختيار أحد مسارين: إما الثورة أو الإصلاح، وإيران في طريقها نحو تبني المسار الثاني». ومن ثم سرت شائعات عن محاولات من الحرس الثوري بمحاولات للسيطرة بالكامل على البلاد عقب تباطؤ خطى الاحتجاجات، وأطلق أفراد الحرس القدامى الدعوة إلى اختيار رجل عسكري لشغل منصب الرئيس باعتبار ذلك هو الملاذ الأخير لإنقاذ النظام.
- الأزمة الحالية
اليوم، تتزامن الأزمة الداخلية مع حملة جديدة مما يوصف بـ«حرب اقتصادية» أميركية ضد إيران، ففي بداية شهر مايو (أيار) أعلن الرئيس دونالد ترمب انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني، وإعادة فرض العقوبات على إيران. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، أصدر مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، قائمة تتضمن 12 طلباً موجهاً إلى إيران منها وقف تخصيب اليورانيوم، ومنع انتشار الصواريخ الباليستية، والامتناع عن دعم جماعات من بينها حزب الله والحوثيون وطالبان، والانسحاب من سوريا كلياً. وصرح بومبيو قائلا: «سوف يتم إجبار إيران على الاختيار بين النضال من أجل الإبقاء على اقتصادها قائماً في الداخل، أو مواصلتها إهدار ثروة كبيرة على حروب في الخارج. لن يكون لديها موارد للقيام بالأمرين معاً».
وفي خضم الأزمات الداخلية والخارجية المتداعية، نشرت صحيفة «جافان» اليومية المرتبطة بالحرس الثوري في مايو (أيار) مقابلة طويلة، وعميقة على نحو مفاجئ، مع شخصية أكاديمية محافظة مؤيدة للحرس الثوري، وشخصية أخرى إصلاحية عن «محاسن ومثالب تولي رجل عسكري منصب الرئاسة»... واتفق الرجلان على أن القول بأن السياسة الإيرانية وصلت إلى طريق مسدود. إذ قال الأكاديمي المحافظ إن إيران «تتحول حالياً من دولة استبدادية إلى حكم استبدادي عسكري، يستطيع فيه رجل قوي تحقيق «نهضة» تؤدي في النهاية إلى الديمقراطية». إلا أنه لم يُشر مباشرة إلى الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس، على أنه ذلك «الرجل القوي»، بل قال إن الجيل الجديد من أعضاء قوات الـ«باسيج»، الذي يدرس له في الجامعة «أكثر توجها نحو الإصلاح من المفكرين»، و«يتعاونون مع مؤسسة الحرس الثوري». وبالتالي، وفق الأكاديمي المحافظ، «يمكن لذلك النظام الاستبدادي العسكري أن يكون بمثابة صدمة كهربائية تنعش المريض الميت وهو إيران، وتعيده إلى الحياة».
على الجانب الآخر، أثار تهديد إدارة ترمب بمنع إيران من تصدير النفط تماماً قلق مسؤولين إيرانيين بارزين. ففي 22 يوليو (تموز) قال الرئيس الإيراني حسن روحاني «على الأعداء أن يفهموا أن الحرب ضد إيران هي أصل كل الحروب، والسلام معها هو أصل السلام». وأردف أن طهران قادرة على إغلاق «مضايق أخرى» إلى جانب مضيق هرمز إذا كانت الولايات المتحدة تريد منع صادرات النفط الإيرانية.
وفي اليوم ذاته، حذر الرئيس ترمب عبر حسابه على موقع «تويتر» قائلاً «إذا هددتم الولايات المتحدة مرة أخرى فستعانون من عواقب عانى منها قلة قبلكم عبر التاريخ». وعلى الأثر وبّخ قادة ومسؤولون إيرانيون الرئيس الأميركي، وأعربوا عن دعمهم لروحاني. وبعد إعلان المملكة العربية السعودية في 25 يوليو (تموز) تعليقها نقل شحنات النفط عبر مضيق باب المندب مؤقتاً إثر استهداف ناقلتي نفط بصواريخ موجهة من الحوثيين، كرّر الجنرال محمد علي جعفري، قائد الحرس الثوري، التهديد بإغلاق نقاط تفتيش استراتيجية زاعماً أن «كل ممرات نقل النفط تقع في نطاق سيطرة إيران»، مضيفاً أن «التهديد الأميركي بمنع صادرات النفط الإيرانية كلياً بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) غير واقعي».
في اليوم نفسه ألقى سليماني خطاباً قوياً نُشر على نطاق واسع قال فيه «يا سيد ترمب، لا تسمح كرامة الرئيس بالردّ عليك، لكنني سأرد عليك كجندي. أنا أقف ضدك... لم يعُد البحر الأحمر مكاناً آمناً للوجود الأميركي. يقف فيلق القدس في مواجهة الجيش الأميركي». كذلك أعلنت شخصيات إيرانية متشددة ومؤيدة للحرس الثوري دعمها لخطاب سليماني بحماسة رغم اعتراض البعض على تهميش سليماني للمؤسسة الدبلوماسية المدنية. وعلّق حجة الإسلام محمد جواد حجتي كرماني، العضو السابق في «مجلس خبراء القيادة»، الذي يتولى اختيار المرشد الأعلى والإشراف عليه، من منزل سليماني في محافظة كرمان، بتهذيب قائلا إن «الجنرال (سليماني) قد همّش وأقصى المؤسسة الدبلوماسية المدنية في الجمهورية الإسلامية». ونشرت وكالة أنباء «فارس»، التابعة للحرس الثوري، بياناً ينفي «الشائعات» بأن خامنئي قد وبّخ سليماني على خطابه.
- تناقض مواقف الحرس الثوري
وفي 29 يوليو نشر الموقع الإلكتروني للمرشد الأعلى علي خامنئي مقال رأي أشاد بتهديد روحاني، ومنه قوله «إذا لم يتم السماح لإيران بتصدير النفط، فلن تتمكن أي دولة في المنطقة من تصدير النفط». وجاء في مقال الرأي أن دعم خامنئي المتواصل لروحاني يعتمد على مواقفه تجاه «مؤامرة الحكومة الأميركية» وأنه متفق مع المسؤولين ولا «يبعث رسائل مختلطة إلى الأجانب». هذا، ورغم رفض البعض استبعاد توتر محدود في مضيق هرمز في حال خفض صادرات إيران من النفط إلى الصفر، فإن احتمال حدوث هذا التوتر، وفق مراقبين، ضعيف جداً. وللعلم، صرحت الصين بأنها لن تمتنع عن استيراد النفط من إيران بالكامل، وإن ذكرت أنها ستجعل حدود الواردات 800 ألف برميل يومياً. كذلك منحت الولايات المتحدة الهند إعفاءً في حال خفض وارداتها من النفط الإيراني إلى النصف. وفي أي حال، يتوقع المحللون في سوق النفط أن تنخفض صادرات إيران النفطية بمقدار مليون برميل ويتراوح حجمها في حدود المليون برميل.
ثم، في اليوم التالي، أي 30 يوليو، وجه الجنرال جعفري خطاباً مفتوحاً إلى روحاني بشأن توجهه فيما يتعلق بالاقتصاد، قال فيه «الدعم الكبير غير المسبوق» من جانب الحرس الثوري لتصريحات روحاني الحادة الموجّهة إلى الولايات المتحدة لن تعفيه من اتخاذ موقف «ثوري» بشأن الاقتصاد الذي يتدهور بخطى سريعة. ودعا جعفري روحاني إلى وضع حد للارتفاعات الحادة في أسواق النقد الأجنبي والعملات الذهبية، ومعالجة «الضعف» في الإدارة الاقتصادية التي يمارسها المسؤولون لعل «شعاع الأمل يشرق في قلوب المؤمنين». وفي اليوم ذاته أثار العرض، الذي قدمه الرئيس ترمب بإجراء مفاوضات «دون شروط مسبقة»، شعوراً بالصدمة في إيران، إذ رفض المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إجراء مفاوضات مباشرة بين روحاني وترمب، وفي إشارة إلى انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، وصف المتحدث الرئيس الأميركي أنه «لا يعوّل عليه». وعلى الجانب الآخر، رأى كثيرون من الإيرانيين من خلال وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي أن على القيادة قبول عرض ترمب. ووافق بعض المسؤولين على ذلك التوجّه، أو على الأقل مناقشة الأمر في «المجلس الأعلى للأمن القومي».
ومع تباين ردود الأفعال، أصدر جعفري خلال يوم واحد (31 يوليو) خطاباً مفتوحاً آخر، لكنه كان موجهاً هذه المرة إلى ترمب قال «إيران ليست مثل كوريا الشمالية حتى توافق على طلبك... اعلم أن الأمة الإيرانية لن تسمح لمسؤوليها بالتفاوض مع الشيطان الأعظم ومقابلته... لن يتحقق أبدا حلمك بطلب مسؤولي الجمهورية الإسلامية من أمتهم الاجتماع بك، أو الحصول على تصريح لمقابلتك... اعلم أن هذا حلم سوف يصاحبك حتى نهاية رئاستك، وحتى القادة الأميركيين المستقبليين لن يروه وهو يتحقق». كذلك كتب جعفري «تدعم كل من الدولة والحكومة الإيرانية العظيمتين إحداهما الأخرى، وستظلان صامدتين حتى تحقيق النصر الكامل وإلحاق الهزيمة النكراء بالنظام المهيمن المتغطرس (الغرب) من خلال الاعتماد على الوعد الإلهي، والقائد العظيم، والموارد الداخلية، والاحتياطي الضخم الذي وهبه الله لهما، والقدرة على مقاومة العقوبات الظالمة واللاإنسانية التي فرضتموها». مع ذلك لم تكن ردود الأفعال تجاه خطاب جعفري إلى ترمب بحماسة ردود الفعل تجاه خطاب سليماني، والخطاب الأول لجعفري، خاصة في دوائر الحرس الثوري. كذلك لم يحظَ الخطاب إطلاقاً بتغطية في المنابر الإعلامية الرسمية للحرس الثوري، مثل صحيفة «صبح صادق» الأسبوعية. بل إن موقع «سيفا نيوز» محا الخطاب. غير أن بعض المنابر الإعلامية الأخرى المرتبطة بالحرس الثوري نشرته. وكانت ردود الأفعال على مواقع التواصل الاجتماعي هادئة مقارنة بردود الأفعال تجاه خطاب سليماني. ومن ثم، أشار مسؤولون إلى أن الخطاب كان مبادرة من جعفري، ولم يسبق مناقشته مع مسؤولين آخرين. وتجدر الإشارة أنه قبل يومين من الخطاب الثاني أوضح حشمت الله فلاح بيشه، رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان، سبب ردّ سليماني، وليس قائد الحرس الثوري (جعفري) على ترمب، قائلا بأن سليماني يتحدث عن ساحة معركة «هزمنا فيها الأميركيين». وفي حين قال بهرام قاسمي، المتحدث باسم وزارة الخارجية، لوسائل الإعلام بأنه «لم يكن على علم» بأمر الخطاب حتى وقت نشره، أدان علي مطهري، نائب رئيس البرلمان، خطاب الجعفري. وبعدما كان مطهري سابقاً قد وافق على الرأي القائل بأن التفاوض في الوقت الحالي سيكون أمراً مهيناً، فإنه أخبر رئيس الحرس الثوري أن التفاوض في المستقبل يعتمد على قرارات يتخذها مسؤولون مدنيون. كذلك علّق كثيرون من الإيرانيين على مواقع التواصل الاجتماعي على جعفري بالقول «إنه يتجاوز حدوده».
- جعفري... إلى أين؟
تشير ردود الأفعال هذه، وبخاصة من الحرس الثوري، وبقوة إلى أن خطاب الجعفري جاء بمبادرة منه. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مدة عمل جعفري كقائد للحرس الثوري البالغة 10 سنوات انتهت العام الماضي، إلا أنه جرى تمديدها لثلاث سنوات أخرى. وعليه، ينم توقيت ومحتوى خطابه عن محاولته المشاركة في المشهد السياسي بعد خطاب سليماني القوي، بينما تقوى الشائعات عن تأهب سليماني، أكثر قادة الحرس الثوري شعبية، للترشح للرئاسة وفي هذا الشأن تشير كل المعطيات إلى أنه لن يواجه منافسة حقيقية. وهذا، قد يعني أن جعفري يحاول الحفاظ على منصبه الحالي، أو يتطلع نحو منصب الرئيس. وفي الحالتين يوجد مؤشرات على التهميش والإقصاء العسكري للمؤسسات المدنية.
في هذه الأثناء، يزداد احتمال سيطرة الحرس الثوري على الوضع الإيراني كلياً من خلال الرئاسة في ظل تعقد وتدهور الأزمات الداخلية والخارجية للبلاد. ومعلوم أن خامنئي وضع نفسه حالياً في مأزق برفضه القاطع إجراء محادثات مع إدارة ترمب رغم تلميحه إلى أنه سيكون منفتحاً على إجراء محادثات مع إدارة أخرى. ويشعر «المرشد الأعلى» أن التفاوض «خط أحمر» في ظل الشروط الـ12 للإدارة الأميركية، ومنها وقف اختبارات الصواريخ النووية، والامتناع عن دعم جماعات مثل حماس وحزب الله. ومن جهة ثانية، هناك كلام غير مؤكد أن مسؤولين أميركيين سابقين في إدارة باراك أوباما نصحوا مبعوثين إيرانيين أخيراً بالانتظار حتى يأتي رئيس آخر. وحسب هذا الكلام، أدرك مسؤولو إدارة ترمب هذا الأمر، وأعلنت «مجموعة العمل الإيرانية» الجديدة في وزارة الخارجية الأميركية في 16 أغسطس (آب) اعتزامها تنسيق وشنّ حملة ضغط قصوى.
وهذا، ما من شأنه زيادة الأمور في إيران سوءاً، وبالأخص أن وضعها الداخلي اليوم ضعيف للغاية مقارنة بوضعها أثناء فرض العقوبات السابقة بين عامي 2012 و2013.
في ضوء ما سبق، يمكن للرئيس الإيراني المقبل اختيار مسار من اثنين: إما إحداث تغييرات أساسية وجذرية تحولية للتعامل مع مظالم الشعب، أو مواصلة السير في الطريق نفسه مع زيادة الظلم والقمع. وفي حين قد يعجّل المسار الأخير بنهاية النظام، قد ينجح المسار الأول في إطالة عمر النظام من خلال التعامل مع المظالم، خاصة، في ظل إدارة الحكومة حملة دعائية تحذر من تحوّل إيران إلى سوريا أخرى. ومن جهة أخرى، قلة من المراقبين يشكون بألا يكون لقادة الحرس الثوري تأثير كبير على اختيار «المرشد الأعلى» المقبل، وهذا ما يجعله مديناً لهم ولغيرهم من مراكز القوى الرئيسية، وهو ما سيدفعه نحو زيادة نفوذ وسلطة الحرس الثوري. مع ذلك، في النهاية، واجهت الثورة كل الحكومات التي لم تنجح في التعامل مع مطالبات شعبها ومع الصراعات، ومطالبة الإيرانيين بتمثيلهم سياسيا... وعليه، يوشك طريق إيران نحو الديمقراطية أن يصبح أكثر وعورة.
- خياران لطهران للخروج من مأزقها الحالي
> يرى المراقبون أن أمام القيادة الإيرانية خيارين للخروج من هذا المأزق: الأول هو التفاوض مع الولايات المتحدة، والثاني هو التمسك بالحياة.
خامنئي استبعد الخيار الأول في بوجود الإدارة الأميركية الحالية. والواضح أن الظروف الاقتصادية والسياسية في إيران مرشحة للتفاقم مع العودة إلى فرض العقوبات على البلاد، والتضييق الأميركي على النظام. ومن ثم، يتوقع تزايد الهجمات على حسن روحاني مع قرب انتهاء فترته الرئاسية الثانية، ما قد يدفعه للعمل مع الحرس الثوري لإدراكه أن النظام بأكمله يواجه خطر الفناء. وهنا، ذهب سعيد حجاريان، المنظّر والمفكر الإصلاحي البارز، بالفعل إلى القول باحتمال تعيين مسؤولين عسكريين في «حكومة الأزمة» التي يختارها روحاني للتعامل مع القضايا العميقة. وسيكون ذلك بالفعل بمثابة نصف هيمنة. من جهة أخرى، يمكن للحرس الثوري حينها دعم مرشح رئاسي مفضل له. ذلك السيناريو محتمل حتى إذا اضطرت طهران إلى اختيار مبدأ «المنفعة» والدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة.

- باحث إيراني – أميركي متخصص في الشؤون الإيرانية


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.