مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (3): كنت أميل عاطفيا إلى اليسار الفرنسي

{ديمقراطية} إيران وإسرائيل.. إقصائية > بداية عمل «النهضة» كانت بعيدة عن السياسة

الجبالي وأحد أقربائه عندما كان شابا يجلسان على حائط بالقرب من منزله
الجبالي وأحد أقربائه عندما كان شابا يجلسان على حائط بالقرب من منزله
TT

مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (3): كنت أميل عاطفيا إلى اليسار الفرنسي

الجبالي وأحد أقربائه عندما كان شابا يجلسان على حائط بالقرب من منزله
الجبالي وأحد أقربائه عندما كان شابا يجلسان على حائط بالقرب من منزله

بعد جلساتي التوثيقية مع حمادي الجبالي، خطر على بالي، وفي عدة مناسبات، أنه لو لم يكن إسلاميا، أو سياسيا، فماذا يمكن أن يكون.
هو مهندس، مهتم بالقطاعات العلمية وبمجال الطاقة، ولم تخلُ جلسة من جلساتنا من إطلاعي على أحد برامجه التي يطلعني عليها بكل شغف وتطلع لإنجازها، والجملة الحاضرة دائما أن ضيق الوقت هو المانع، مشاريع مصغرة قد تبدأ من ضيعات أو مصانع بسيطة، لكن الطموح هو تطبيقها على مستوى كل البلاد، وحتى خارجها.
آيديولوجيا، وبعد أن حدثني عن شغفه في شبابه بالبحث، وجدت في كلامه ما توقعت، فقد تحدث عن ميله العاطفي إلى اليسار الفرنسي لدى إقامته في فرنسا، وبحثه في أي تجربة ثورية يمكن أن تتطابق مع محيطه الاجتماعي لبعث تنظيم، وكان في الوقت نفسه يبحث عن تنظيم يمكن أن يستوعب أفكاره وحماسه الشبابي، وفي هذه الحلقة، لم أجد أجوبة، بل تساؤلات بقيت مفتوحة، وهي: لو لم ينضم الجبالي إلى النهضة، لو لم يكن إسلاميا، فماذا يمكن أن يكون؟

* الانضمام إلى النهضة

* البداية مع التوجه الإسلامي كانت في باريس، بعدما اتصلت بنا المجموعة في تونس، وكانوا من الطلبة خريجي الجامعات، مثل صالح كركر، راشد الغنوشي، محمد صالح النيفر، ومجموعة من الطلبة الذين بدأوا الحركة الإسلامية، وفي ذلك الوقت كانوا في المرحلة الأولى من تنظيم أنفسهم، وكانت مرحلة التجميع والتنظيم والبحث عن هيكلية مناسبة للعمل.
ولم يكن التوجه هو البحث عن نخبة، لكن الأمور جاءت بطبيعتها، حيث لم يكن البحث عن العمال خاصة بالنسبة للموجودين في فرنسا.
وعملنا في البداية على مستوى النخبة والطلاب الذين نعرفهم، وهذه المجموعة كانت الرابط مع تونس، وهي التي ستسهم في بناء التنظيم، في ذلك الوقت كثفنا لقاءاتنا، وأصبحنا نلتقي تقريبا مرة في الأسبوع، في أوقات الصلاة، ونتقابل أيام الأحد، ولم تكن لدينا رؤية واضحة حول ما نريد.
عند بدأ فكرة التنظيم بدأت في 1974، مجموعة في باريس، وبعد ذلك الطلبة ينضمون إلينا، كانوا كلهم من التونسيين، في عدة مدن فرنسية، مثل رانس وليل، وفي بلدان أخرى فرنكوفونية مثل بلجيكا، وحتى في الشرق، بدأت هذه المجموعات تتزايد، وبدأ نوع من التنظيمات مواز للتنظيم في تونس يتكون.
ورغم أن علاقتنا مع الجماعة بدأت في تونس، لم أنقطع عن العمل في فرنسا، بل توسعت، ولم أقطع علاقتي بالمسلمين الفرنسيين، ولا بـ«الجامع الكبير» في باريس، ولا بجمعية حميد الله الذي كان يعمل على تعزيز الحوار مع الكنيسة أيضا، كان منفتحا جدا على الآخرين، وحدد مهمته في نقل الإسلام للمسيحيين، وحتى لرجال الكنيسة.
كانت كل الحوارات تدور باللغة الفرنسية، وكنت أحضر وأقدم محاضرات في عدة أماكن وحتى في «المسجد الكبير» في الدائرة الخامسة، ولكن كما سبق لي الذكر، المشكلة أنهم لم يقبلوا دمج الجانب السياسي بالدين على الإطلاق، وأثيرت هذه المسألة مع الأستاذ حميد الله، لكنه كان واعيا بأن ما يقدمه هو الإسلام الذي يريده المجتمع الفرنسي، وطريقة عمله ذكرتني بجماعة التبليغ، الذين أرادوا أن يقدموا الإسلام على أنه صلاة وعمامة، كانوا، كما يقول حميد الله، لا يريدون صدم الآخر، وهذا يدخل في فقه الدعوة، وحرصا على عدم تنفير الشبان الغربيين من الإسلام، خاصة بعد أحداث تفجيرات قطار الأنفاق في مدريد، وما أثير بعدها من قضايا، مثل الجهاد في أوروبا.
أنا أرى أن الأحزاب الإسلامية، خاصة العربية التي عملت في فرنسا، لم تقدم الإسلام بالشكل الذي ينتظره الآخرون، بل صدموا الآخرين ونفروهم، كما أن خلافاتنا، مثل قضية التركيز على الآذان، وعلى أن تكون المئذنة طويلة، وغيرها من الأمور الشكلية، هذا مثلا يزعجهم، حتى في مجال الهندسة المعمارية،.والمشكلة كانت فعلا الصدمة التي أصبنا بها المجتمع الغربي، بتقديم نموذج غريب عنه، ومحاولة فرضه عليه.

* ما تعلمته من تجربتي في فرنسا
* لقد استفدت كثيرا من تلك الفترة، وتعلمت فيها العديد من الأشياء، خاصة القضايا الخاصة بالحريات والممارسة والحياة السياسية والأحزاب، و الحياة السياسية الفرنسية، خاصة اليسار وميتيران وجوسبان، وفهمت اليمين وتوجهاته العنصرية، ووجدت في اليسار العدالة الاجتماعية والحريات ومناصرة الشعوب المستضعفة، فكنت أميل عاطفيا إلى اليسار، ليس للشيوعية، لكن اليسار الفرنسي.
كانت تجربتي في فرنسا عبارة عن مرحلة تدريبية، أو تحضيرية، خاصة عبر حضور اجتماعات والمشاركة في الحياة السياسية للأحزاب. وهذا ما أثر على طريقة تفكيري وعملي في ما بعد في حركة النهضة.
رأيت في فرنسا كل شيء منظما، ويبدأ عملهم بتكوين وتأهيل الكوادر، ولديهم ديمقراطية في أخذ القرار، وشبابهم يتمتع بالروح النضالية والحماس، ما ساعدهم في حملاتهم؛ سواء التأسيسية للأحزاب، أو الانتخابية، التي شاهدتها عن قرب، وعبر شاشة التلفزيون، لقد تأثرت جدا بطريقة عملهم، وفي الوقت نفسه، كنت أرى أن هذا ليس بغريب علينا، وأن الإسلام يتضمن هذا المفهوم للحريات،.هذه المرحلة التي كانت بين سبع وثماني سنوات أحدثت نقلة نوعية في حياتي، خاصة في مسألة المنهج في العمل السياسي وقضية القيم وحريات الصحافة، وكانت عندي قناعات بأن الإسلام جاء بالحريات، وقضية الانفتاح وحقوق المرأة.
وهنا قررت قطع عملي مع جماعات التبليغ، التي تعتمد أساليب التنفير من الدين الإسلامي، وتقتصر على كونه كلام طقوس وصورا خارجية تنحصر في العمامة وشكل المئذنة. ونفرت من عنف الخطاب الذي يقدمه المسلمون وقتها في الغرب، واقتنعت بأن الأوروبي سيسعى للبحث في البوذية وأديان أخرى، أو أساليب تمنحه الراحة الروحية، التي يريد، وليس في خطابنا العنيف وأصواتنا المرتفعة وخلافاتنا التي لا تنتهي.كانت قناعاتي بشمولية التصور الإسلامي، لكن ما رأيته في ذلك الوقت أن الإسلام كان يقطع إربا إربا، وبعيدا عن المجالات العلمية وعن الاقتصاد، ويمكنني القول إن أهم ما أخذته من الفكر الإسلامي هو شمولية الإسلام، وهنا يجب التنبه إلى الفارق بين شمولية التصور وشمولية التنزيل (يعني التبليغ)، وهنا أقصد أنه لم يكن من الضروري اتباع المنهج نفسه في التبليغ، بل اتباع المرونة التي تناسب المجتمعات.
ليس بالضرورة أن نقدم كل شيء في الوقت نفسه، فهناك سلم أولويات، وهذا السلم أيضا غير ثابت، بل تتغير الأولويات فيه حسب البيئة والمناخ الذي تعمل فيه، مثلا في فرنسا لا يمكن أن نبدأ بإقناع الفرنسيين وتلقينهم دروسا حول قضايا الحريات والديمقراطية وهم متشبعون بها. هنا يمكن أن يكون من الأنجع العمل معهم على الجانب الروحي، وعلى التوازن النفسي الذي يحققه الإسلام والعلاقة بالأسرة، مثلا يجب النظر إلى ما ينقصهم، والعمل على هذا المجال.
في تونس ،مثلا، الوضع كان مختلفا عنه في باكستان، وكان مختلفا جدا وقتها عن الفكر الإسلامي في مصر.
إذا أخذنا فكرة الانتخابات ببساطة، فستعود كلمة الفصل، إما لرئيس يتسلط، أو لشعب يختار النواب ويتسلط كذلك عبرهم، هنا تتداخل قضية الفكر السياسي وقضية الحريات، وهل الأحزاب التي لا تؤمن بالإسلام لها حرية التعبير أو ستتعرض للإقصاء ونقول عنهم: ملحدون ما يوصف ب»الديموقراطية» في ايران واسرائيل، لا تعطي الحرية لأحزاب تتناقض مع مبادئ المجتمع الإسرائيلي، والدليل ان الأحزاب االعربية في إسرائيل ليست لها الحرية. التعددية اذا يجب أن تكون ضمن المنظومة الفقهية.
رجعت إلى تونس متشبعا بالأفكار التي اكتسبتها من تجربتي في فرنسا، بعد أن أتممت دراستي وعدت وفتحت مكتب دراسات مختصا بمجال الطاقة، وبعد الاستقرار في تونس قمنا بإنجاز مشاريع كبيرة في مجموعة من الفنادق والمستشفيات، وانضممت في الوقت نفسه إلى الحركة الإسلامية في تونس، التي بدأت تتكون وقتها، وكان اسمها الجماعة الإسلامية، التي بدأت ملامحها تتضح منذ عام1971، وحتى قبل ذلك بقليل، وتطورت الأفكار لتتحول إلى اجتماعات كانت تعقد بين راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو ومحمد صالح النيفر، وصلاح الدين الجورشي، وصالح كركر، وصالح بن عبد الله. كان هؤلاء الأوائل المكونين لحركة الجماعة الإسلامية.
لم يهتموا بمسألة التسمية في البداية كثيرا، وعندما تواصلت معهم في البداية، رأيت أن الجانب السياسي لم يكن محور اهتمامهم، بل كانوا مهتمين أكثر بالجانب الدعوي، ولهذا اختاروا اسم «الجماعة»،
وكانت الدروس أساسا في المساجد ونشاطا في الجماعة، وحتى في الجامعة كان التركيز على ما يسمى بناء الفكر العقائدي.

* عمل «النهضة» في البداية

* في البداية كانت طريقة «الجماعة» تعتمد على الدعوة والإقبال من طرف شرائح مختلفة من الناس وليس الطلبة فقط، وبدأ عمل الغنوشي، و مورو، خاصة من على المنابر، بتقديم الدروس والحلقات، والملة القرآنية، خاصة التركيز على التفسير، لأن أفراد «الجماعة» وقتها كانوا يعتقدون أنه لا بد من تحقيق الصحوة الإسلامية التي ماتت، والتي بقيت فقط في مشايخ الزيتونة.
وعاد الشباب بقوة للصلاة وللإقبال على المساجد، لكن الكل كان يجب أن يصلي ويترك، والأئمة كانوا موجودين لكن خطبهم بعيدة كل البعد عن الواقع في المجتمع، والفهم العصري للدعوة الإسلامية.
ولأن أغلب الشباب لم يكن جامعيا، حرصنا على تقديم دروس نسميها بالحلقات الأسبوعية تلم الشباب، ولكن هناك جمهورا بدوا خائفين، أغلبهم كان من التلامذة وبعض الحرفيين.

البداية كانت بعيدة عن السياسة
كانت تونس في بداية عقد السبعينات تعيش كبتا سياسيا كبيرا، وكانت سياسة الحزب الواحد طاغية على المجتمع، وكان الحزب الشيوعي محظورا منذ بداية الستينات، وبالتالي ممارسة السياسة كانت ممنوعة.
الدستور كان يقول إن هناك حرية، لكن فعليا لم تكن موجودة، ورأينا كيف تصرف النظام مع اليسار، وما تعرض له اليساريون من سجن وتشريد ومحاكمات، لهذا توصلنا لقناعة أن العمل يجب ألا يبدأ سياسيا، بل عبر الدعوة التي تبدأ من الجانب الفردي ثم الأسرة ثم الحي الذي تسكن فيه، لكن هذا لم يمنع أنه دارت كثير من النقاشات والجدل داخل «الجماعة» حول كيفية بداية العمل.
فكانت منا مجموعة تدعو إلى تجنب توخي أسلوب التصادم مع الدولة، وتدعو الى تحاشي التعجل وتقول بضرورة تأطير الشباب ودعوتهم، من دون فتح جبهات، لأن هذه المجموعة كانت تريد تجنب قمع الدولة والسجن وغيره وقتها، وكانت غالبية المجموعة من الكهول والكبار نسبيا في السن.
وفي المقابل كان النفس الآخر طلابيا شبابيا تأثر بالبعد الآيديولوجي لـ«الجماعة»، والبعد الاجتماعي، لأن المسألة تخص قضية العدالة الاجتماعية والعمال والنقابات، وبدأت في ذلك الوقت قوى شبابية تتشكل، وانتقلت من الجامعة إلى الحياة العامة.

* محمد صالح النيفر

* محمد صالح النيفر من مؤسسي حركة الاتجاه الإسلامي عام 1981، ولد في المرسى عام 1902، ودرس بالمعاهد الزيتونية، وارتقى إلى جميع مستوياتها، إلى أن تحصل على شهادة التطويع. أدار النيفر الفرع الزيتوني للبنات، وساهم في بعث جمعية الشبان المسلمين، أواخر العشرينات من القرن الماضي، بزعامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
واهتم كذلك بالأطفال اللقطاء المهملين، وأحدث لفائدتهم دار الرضيع، وكان الشيخ النيفر مقصد عدد من الشخصيات الوطنية السياسية والنقابية، على غرار الزعيم النقابي فرحات حشاد، والزعيم الوطني الحبيب بورقيبة، وقدم عليه كثير من أعلام العالم، مثل الحاج أمين الحسيني مفتي القدس، وعبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائرية، وضباط مصر مثل أنور السادات وحسين الشافعي لدعوته للتوسط في الأزمة بين بورقيبة وعبد الناصر، في بداية استقلال تونس.
ولقد عاش الشيخ محمد الصالح النيفر ثلاث مراحل حياتية لم تخل جميعها من التضييقات السياسية، وأولها مرحلة الصراع مع بورقيبة باني دولة الاستقلال، التي انتهت بتضييق الخناق عليه، وهجرته الإجبارية إلى الجزائر، التي تزامنت مع استقلالها. وخلال وجوده في الجزائر، مارس الشيخ محمد صالح النيفر التدريس في جامعة قسنطينة وقدم دروسا في المساجد والإذاعة، وكذلك في جمعية الإصلاح الأخلاقي والاجتماعي. لكن هذا الأمر أحرج الرئيس الجزائري هواري بومدين، فاختار الشيخ العودة إلى تونس. وتعد هذه المرحلة الثالثة من حياته، وهي التي توّجها بتأسيس حركة الاتجاه الإسلامي سنة 1981، لكنه، بسبب المرض، انسحب من النشاط السياسي، وواصل متابعة الأوضاع السياسية إلى أن وافته المنية في فبراير (شباط) 1993.

* صالح كركر

* يعد صالح كركر من القيادات الأولى لحركة النهضة الإسلامية في تونس، ولد يوم 22 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1948، بقرية صغيرة في الساحل التونسي.
أسس عام1981 مع راشد الغنوشي حركة الاتجاه الإسلامي، التي أصبحت، منذ سنة 1989، تحمل اسم «حركة النهضة».
نفت سلطات النظام التونسي السابق كركر لمدة 18 سنة في فرنسا، وبقي فيها قيد الإقامة الجبرية، ولكنه تُرك حرا لكونه يحمل صفة «اللاجئ السياسي».
رفعت عنه السلطات الفرنسية قرار النفي والإقامة الجبرية في أكتوبر (تشرين الأول) 2011، بعد شهرين من الثورة التونسية، وعاد الى تونس يوم 19 يونيو (حزيران) 2012 وشارك في المؤتمر التاسع لحركة النهضة. يحمل كركر درجة ثالثة من الدراسات المعمقة في الاقتصاد، وشهادة الدكتوراه في الإحصاء، وهو مؤلف عدة كتب علمية، من بينها كتاب «نظرية القيمة» و«النظام الاقتصادي في الإسلام».

* «الجماعة».. «الاتجاه الإسلامي» ثم «النهضة»

* قبل أن تبرز الجماعات المتشددة والتنظيمات المسلحة التي تنتسب إلى «الإسلام السياسي» في تونس، كان غالبية الإسلاميين التونسيين منذ مطلع السبعينات في القرن الماضي، ينتسبون مباشرة أو غير مباشرة إلى «الجماعة»، أو «الجماعة الإسلامية»، التي أسسها عشرات من الخطباء والوعاظ في الدين وخريجي جامع الزيتونة والجامعات التونسية العصرية عام 1972. وكان من بين أبرز «المؤسسين» بعض أساتذة الفلسفة والفكر الإسلامي والعلوم الشرعية، مثل راشد الغنوشي واحميدة النيفر وعبد الفتاح مورو وعبد القادر سلامة ومحمد الصالح النيفر.
لكن «الجماعة» ظلت تتأرجح في مرجعياتها الفكرية بين أدبيات علماء ومصلحين تونسيين ومغاربيين، مثل محمد الطاهر بن عاشور ونجله محمد الفاضل بن عاشور ومحمد الشاذلي النيفر ومحمد الحبيب المستاوي ومحمد بالحاج ومحمود الباجي، ورموز «الإسلام السياسي» في المشرق العربي، خاصة في مصر وسوريا ودول الخليج، مثل محمد الغزالي ومحمد قطب.
كما استفاد قادة «الجماعة الإسلامية» من انتشار كتب الإخوان المسلمين في تونس، بسبب خلافات الحبيب بورقيبة وجمال عبد الناصر، في النصف الثاني من الستينات، ومن معارضة بورقيبة لقرار إعدام زعماء الإخوان المسلمين، خاصة سيد قطب، الذي سمح بورقيبة خاصة بترويج كتابه «في ظلال القرآن».
لكن تأثير «الجماعة الإسلامية» بقي محدودا جدا، ومتمركزا حول الأنشطة الثقافية والدينية، إلى نهاية السبعينات، بسبب ثلاثة عوامل:
الأول: سماح بورقيبة بهامش كبير من حرية التعبير، مما سمح ببروز منظمات حقوقية واجتماعية مستقلة وصحف وأحزاب معارضة «ليبرالية» وأخرى «يسارية».. بما أدخل ديناميكية على البلاد ساهمت في دفع قيادات «الجماعة الإسلامية» نحو الشأن العام، ومحاولة المشاركة في الأحداث السياسية والنقابية الوطنية.
الثاني: ظهور تيار شبابي مسيَّس في الجامعة أطلق على نفسه «الاتجاه الإسلامي» نجح بسرعة في استقطاب غالبية عموم الطلبة حول خطاب «أكثر انفتاحا» انتقد «القراءات التقليدية» للإسلام، وبينها مدرسة الإخوان المسلمين.
وانتعش هذا التيار أكثر، أواخر السبعينات، بعد تزايد نفوذ «أقصى اليسار الماركسي الثوري» في الجامعة، ونجاح «الثورة الإسلامية ضد الاحتلال السوفياتي في أفغانستان»، و«الثورة الشعبية في إيران».
الثالث: بروز مراجعات فكرية وسياسية داخل قيادات «الجماعة»، أواخر السبعينات، ومطلع الثمانينات.. وتعالي أصوات في القيادة المركزية (بينها احميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي)، وخارجها تمسكت بخيار «التجديد والإصلاح والتميز عن مدرسة الإخوان المسلمين».
الرابع: الكشف في ديسمبر (كانون الأول) 1980 عن القيادة السرية لتنظيم «الجماعة الإسلامية» التي تأسست عام 1972 بزعامة راشد الغنوشي وعن كل المشاركين في هياكل الجماعة مركزيا وجهويا.. وقد دعم ذلك المستجد أنصار تقنين وضعية الحركة وتطويرها من «جماعة» إلى حزب سياسي قانوني ومدني، على غرار الأحزاب الليبرالية واليسارية، التي أعلنت عن نفسها رسميا.
لكن الإعلان الرسمي عن تأسيس حزب حركة الاتجاه الإسلامي في 6 يونيو (حزيران) 1981 لم يوقف مسار المحاكمات السياسية لقيادات الحركة وأنصارها، بدءا من محاكمة «القيادة التاريخية» في سبتمبر (أيلول)، وأكتوبر (تشرين الأول) 1981، بأحكام بلغت الـ11 عاما سجنا.
وأفرج بورقيبة في أغسطس (آب) 1984 عن تلك القيادة، لكنه عاد إلى تنظيم محاكمات شاملة ضدهم في 1987، بينها أحكام بالإعدام والمؤبد.
شاركت الحركة في انتخابات 1989 ضمن قوائم مستقلة بعد أن غيرت اسمها الى حركة النهضة.
لكن مواجهات جديدة اندلعت بين بن علي وقيادات «النهضة» مطلع التسعينات، كانت حصيلة حملة شاملة لاستئصالهم، وأحكاما بالإعدام والسجن شملت نحو عشرة آلاف من عناصر الحركة.
وبعد ثورة يناير 2011 عادت قيادات النهضة من منافيها إلى تونس، وأعادت مع قيادات الداخل تأسيس حزب قانوني في مارس (آذار) 2011 شارك في انتخابات أكتوبر 2011، التي دخلت بعدها الحركة إلى البرلمان الانتقالي والحكومة بالاشتراك مع اثنين من الأحزاب العلمانية.
لكن الأوضاع الإقتصادية والاجتماعية الصعبة، والأستقطاب السياسي وبروز العنف المسلح أدت الى استقالة الحكومة الأولى برئاسة حمادي الجبالي.

الجبالي في مذكراته لـ «الشرق الأوسط»: كنت شاباً مسيساً بدون توجه إسلامي

مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (2): لولا نكسة 1967 ربما كنت ثائرا غير إسلامي



هل يتحول فيروس «الميتانيمو» البشري إلى وباء عالمي؟

تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)
تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)
TT

هل يتحول فيروس «الميتانيمو» البشري إلى وباء عالمي؟

تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)
تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)

أثارت تقارير عن تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري (HMPV) في الصين قلقاً متزايداً بشأن إمكانية تحوله إلى وباء عالمي، وذلك بعد 5 سنوات من أول تنبيه عالمي حول ظهور فيروس كورونا المستجد في ووهان بالصين، الذي تحول لاحقاً إلى جائحة عالمية أسفرت عن وفاة 7 ملايين شخص.

وأظهرت صور وفيديوهات انتشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي في الصين أفراداً يرتدون الكمامات في المستشفيات، حيث وصفت تقارير محلية الوضع على أنه مشابه للظهور الأول لفيروس كورونا.

وفي الوقت الذي تتخذ فيه السلطات الصحية تدابير طارئة لمراقبة انتشار الفيروس، أصدر المركز الصيني للسيطرة على الأمراض والوقاية منها بياناً، يوضح فيه معدل الوفيات الناتج عن الفيروس.

وقال المركز، الجمعة، إن «الأطفال، والأشخاص الذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة، وكبار السن، هم الفئات الأكثر تعرضاً لهذا الفيروس، وقد يكونون أكثر عرضة للإصابة بعدوى مشتركة مع فيروسات تنفسية أخرى».

وأشار إلى أن الفيروس في الغالب يسبب أعراض نزلات البرد مثل السعال، والحمى، واحتقان الأنف، وضيق التنفس، لكن في بعض الحالات قد يتسبب في التهاب الشعب الهوائية والالتهاب الرئوي في الحالات الشديدة.

وحاولت الحكومة الصينية التقليل من تطور الأحداث، مؤكدة أن هذا التفشي يتكرر بشكل موسمي في فصل الشتاء.

وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ، الجمعة: «تعد العدوى التنفسية شائعة في موسم الشتاء»، مضيفةً أن الأمراض هذا العام تبدو أقل حدة وانتشاراً مقارنة بالعام الماضي. كما طمأنت المواطنين والسياح، مؤكدة: «أستطيع أن أؤكد لكم أن الحكومة الصينية تهتم بصحة المواطنين الصينيين والأجانب القادمين إلى الصين»، مشيرة إلى أن «السفر إلى الصين آمن».

فيروس «الميتانيمو» البشري

يُعد «الميتانيمو» البشري (HMPV) من الفيروسات التي تسبب التهابات الجهاز التنفسي، ويؤثر على الأشخاص من جميع الأعمار، ويسبب أعراضاً مشابهة للزكام والإنفلونزا. والفيروس ليس جديداً؛ إذ اكتُشف لأول مرة عام 2001، ويُعد من مسببات الأمراض التنفسية الشائعة.

ويشير أستاذ اقتصاديات الصحة وعلم انتشار الأوبئة بجامعة «مصر الدولية»، الدكتور إسلام عنان، إلى أن نسبة انتشاره تتراوح بين 1 و10 في المائة من الأمراض التنفسية الحادة، مع كون الأطفال دون سن الخامسة الأكثر عرضة للإصابة، خاصة في الحالات المرضية الشديدة. ورغم ندرة الوفيات، قد يؤدي الفيروس إلى مضاعفات خطيرة لدى كبار السن وذوي المناعة الضعيفة.

أفراد في الصين يرتدون الكمامات لتجنب الإصابة بالفيروسات (رويترز)

وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن الفيروس ينتشر على مدار العام، لكنه يظهر بشكل أكبر في فصلي الخريف والشتاء، ويمكن أن يُصاب الأشخاص به أكثر من مرة خلال حياتهم، مع تزايد احتمالية الإصابة الشديدة لدى الفئات الأكثر ضعفاً.

وأوضح أن الفيروس ينتقل عبر الرذاذ التنفسي الناتج عن السعال أو العطس، أو من خلال ملامسة الأسطح الملوثة ثم لمس الفم أو الأنف أو العينين. وتشمل أعراضه السعال واحتقان الأنف والعطس والحمى وصعوبة التنفس (في الحالات الشديدة)، وتُعد الأعراض مختلفة عن فيروس كورونا، خاصة مع وجود احتقان الأنف والعطس.

هل يتحول لجائحة؟

كشفت التقارير الواردة من الصين عن أن الارتفاع الحالي في الإصابات بالفيروس تزامن مع الطقس البارد الذي أسهم في انتشار الفيروسات التنفسية، كما أن هذه الزيادة تتماشى مع الاتجاهات الموسمية.

وحتى الآن، لم تصنف منظمة الصحة العالمية الوضع على أنه حالة طوارئ صحية عالمية، لكن ارتفاع الحالات دفع السلطات الصينية لتعزيز أنظمة المراقبة.

في الهند المجاورة، طمأن الدكتور أتول غويل، المدير العام لخدمات الصحة في الهند، الجمهور قائلاً إنه لا داعي للقلق بشأن الوضع الحالي، داعياً الناس إلى اتخاذ الاحتياطات العامة، وفقاً لصحيفة «إيكونوميك تايمز» الهندية.

وأضاف أن الفيروس يشبه أي فيروس تنفسي آخر يسبب نزلات البرد، وقد يسبب أعراضاً مشابهة للإنفلونزا في كبار السن والأطفال.

وتابع قائلاً: «لقد قمنا بتحليل بيانات تفشي الأمراض التنفسية في البلاد، ولم نلاحظ زيادة كبيرة في بيانات عام 2024».

وأضاف: «البيانات من الفترة بين 16 و22 ديسمبر 2024 تشير إلى زيادة حديثة في التهابات الجهاز التنفسي الحادة، بما في ذلك الإنفلونزا الموسمية، وفيروسات الأنف، وفيروس الجهاز التنفسي المخلوي (RSV)، و(HMPV). ومع ذلك، فإن حجم وشدة الأمراض التنفسية المعدية في الصين هذا العام أقل من العام الماضي».

في السياق ذاته، يشير عنان إلى أن الفيروس من الصعب للغاية أن يتحول إلى وباء عالمي، فالفيروس قديم، وتحدث منه موجات سنوية. ويضيف أن الفيروس لا يحمل المقومات اللازمة لأن يصبح وباءً عالمياً، مثل الانتشار السريع على المستوى العالمي، وتفاقم الإصابات ودخول المستشفيات بكثرة نتيجة الإصابة، وعدم إمكانية العلاج، أو عدم وجود لقاح. ورغم عدم توافر لقاح للفيروس، فإن معظم الحالات تتعافى بمجرد معالجة الأعراض.

ووافقه الرأي الدكتور مجدي بدران، عضو «الجمعية المصرية للحساسية والمناعة» و«الجمعية العالمية للحساسية»، مؤكداً أن زيادة حالات الإصابة بالفيروس في بعض المناطق الصينية مرتبطة بذروة نشاط فيروسات الجهاز التنفسي في فصل الشتاء.

وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن الصين تشهد بفضل تعدادها السكاني الكبير ومناطقها المزدحمة ارتفاعاً في الإصابات، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة تحول الفيروس إلى تهديد عالمي. وحتى الآن، تظل الإصابات محلية ومحدودة التأثير مقارنة بفيروسات أخرى.

وأوضح بدران أن معظم حالات فيروس «الميتانيمو» تكون خفيفة، ولكن 5 إلى 16 في المائة من الأطفال قد يصابون بعدوى تنفسية سفلى مثل الالتهاب الرئوي.

تفشي فيروس «الميتانيمو» البشري في الصين يثير قلقاً متزايداً (رويترز)

وأكد أنه لا توجد تقارير عن تفشٍّ واسع النطاق للفيروس داخل الصين أو خارجها حتى الآن، مشيراً إلى أن الفيروس ينتقل عبر الرذاذ التنفسي والاتصال المباشر، لكنه أقل قدرة على الانتشار السريع عالمياً مقارنة بكوفيد-19، ولتحوله إلى جائحة، يتطلب ذلك تحورات تزيد من قدرته على الانتشار أو التسبب في أعراض شديدة.

ومع ذلك، شدّد على أن الفيروس يظل مصدر قلق صحي محلي أو موسمي، خاصة بين الفئات الأكثر عرضة للخطر.

طرق الوقاية والعلاج

لا يوجد علاج محدد لـ«الميتانيمو» البشري، كما هو الحال مع فيروسات أخرى مثل الإنفلونزا والفيروس المخلوي التنفسي، حيث يركز العلاج بشكل أساسي على تخفيف الأعراض المصاحبة للعدوى، وفق عنان. وأضاف أنه في الحالات الخفيفة، يُوصى باستخدام مسكنات الألم لتخفيف الأوجاع العامة وخافضات الحرارة لمعالجة الحمى. أما في الحالات الشديدة، فقد يتطلب الأمر تقديم دعم تنفسي لمساعدة المرضى على التنفس، بالإضافة إلى توفير الرعاية الطبية داخل المستشفى عند تفاقم الأعراض.

وأضاف أنه من المهم التركيز على الوقاية وتقليل فرص العدوى باعتبارها الخيار الأمثل في ظل غياب علاج أو لقاح مخصص لهذا الفيروس.

ولتجنب حدوث جائحة، ينصح بدران بتعزيز الوعي بالوقاية من خلال غسل اليدين بانتظام وبطريقة صحيحة، وارتداء الكمامات في الأماكن المزدحمة أو عند ظهور أعراض تنفسية، بالإضافة إلى تجنب الاتصال المباشر مع المصابين. كما يتعين تعزيز الأبحاث لتطوير لقاحات أو علاجات فعّالة للفيروس، إلى جانب متابعة تحورات الفيروس ورصد أي تغييرات قد تزيد من قدرته على الانتشار أو تسبب أعراضاً أشد.