تعودنا أنْ نقرأ تعريفات متعددة عن الشعر، من ألسنة الشعراء والنقاد، ولكن النقاد كان لهم السهم الأطول في هذا المضمار، فقديماً شاعت تعريفات أطلقها علماء العربية القدامى عن الشعر، أصبحت «مانفيستو» متداولاً، كقول قدامة بن جعفر إن «الشعر كلام موزون مقفى، وله معنى»، حيث تردد هذا التعريف كثيراً على ألسنة النقاد والأدباء، ما بين مؤيد له ورافض.
وهناك تعريفات كثيرة للشعر أطلقها النقاد انطلاقاً من خزينهم البلاغي، والفلسفي، كتعريف حازم القرطاجني، والسكاكي، وأبو هلال العسكري، وآخرين.
فيما يمنح الشعراء دائماً هذه المهمة للنقاد، منطلقين من المثل الشهير «سعيدٌ من اكتفى بغيره»، علماً بأن معظم تعريفات النقاد عن الشعر تدور في الشعر بلاغياً وجمالياً وفلسفياً وإيقاعياً، وهذه المحاور هي محاور جمالية وفكرية شمر النقاد أذرعهم للحفر فيها، وهكذا اعتدنا أنْ نقرأ تعريفات عن الشعر للنقاد، ولكن حين نقرأ تعريفات للشعر صادرة من الشعراء أنفسهم، فإننا نكون إزاء مرجعيات مختلفة في صياغة التعريف عما يراه النقاد اختلافاً كبيراً.
ولكن هذه المرة وجدت الأمر مختلفاً، حيث جمعت الناقدة الدكتورة سهير أبو جلود، في كتاب عنوانه «ما الشعر؟»، وكنت أظن بادئ الأمر أنه كتاب نقدي يبحث في الشعر، ولكن حين تصفحته وجدت طرافة عالية فيه، فقد جمعت الدكتورة تعريفات الشعراء أنفسهم عن الشعر، والكتاب بصراحة هو أقرب إلى روح قصائد النثر، ولكن المقصدية منها هو رؤية الشعراء للشعر. وقد اجتهدت الناقدة أبو جلود في استنطاق هؤلاء الشعراء، سواء في لقاءات تلفزيونية أو حوارات صحافية أو مقابلات مباشرة أو أبيات شعر قالوها عن الشعر نفسه، لذلك تعددت منابع تلك التعريفات، وهذا جهد حسن في هذا المجال؛ أن تلتقط الناقدة تلك التفوهات، وتجمع في كتاب مستقل، وتقوم أختها مي أبو جلود بترجمة الكتاب كاملاً، حيث تفرد كل صفحة لشاعر ما، وتعريفه الشعر في اللغة العربية، ومن ثم يترجم هذا التعريف في الصفحة ذاتها.
المساحة الزمنية التي أخذتها للشعراء تكاد تكون من بداية القرن العشرين إلى هذا المدة التي نعيشها، حيث نجد تعريفاً للشعر لجبران خليل جبران، ونجد تعريفاً لأنسي الحاج ومحمود درويش أو رعد عبد القادر.
ونوعية الشعراء أو عيناتهم مختلفة، يعني أنهم من بلدان عربية متنوعة، ومن أشكال شعرية متعددة، ومن مدارس فكرية وجمالية مختلفة المشارب والتوجهات، فمنهم التقليدي ومنهم الحداثي.
اللافت في الأمر أن هذه التعريفات تنبئ إلى حد ما عن شخصية قائلها، ومن الممكن رسم جداول أو قوالب نضع فيها الشعراء، وذلك من خلال تعريفهم للشعر، حيث نجد الرومانسيين يعرفون الشعر من زاوية نظر خاصة. فعلى سبيل المثال، نجد ميخائيل نعيمة يعرف الشعر بأنه «غلبة النور على الظلمة، والحق على الباطل، هو ترنيمة البلبل ونوح الورق، الشعر لذة التمتع بالحياة».
فمن خلال هذا التعريف، نستطيع أن نحدد زاوية نظر ميخائيل نعيمة، وهي بالتأكيد رومانسية خالصة، وكذلك جبران خليل جبران يرى أن الشعر عبارة عن «منهل عذب تستقي منه النفوس العطشى، ملك بعثته الآلهة ليعلم الناس الإلهيات، نور ساطع لا تغلبه ظلمة»، وكذلك الشاعر أمين نخلة يقول إن الشعر «طرب يهزك كالغناء الصاخب».
إن هذه النماذج، وغيرها كثير في هذا الكتاب، هي نماذج رومانسية من خلال اللغة المستخدمة في التعريف، ومن خلال الموقف من الشعر أيضاً، وهو الأهم في الأمر، حيث يكفي الرومانسيين أنْ يدغدغ الشعر حواسهم فقط، دون أنْ يكون له موقف من الكون كله، بينما نجد شعراء آخرين يقفون في الجهة المختلفة تماماً مع هذه الرؤية، وهي صخب الشعر وإسهامه بصناعة الحياة، ومقاومة السلطات، وما شابه ذلك، فنزار قباني يرى أن الشعر «غضب طالت أظافره»، وكذلك أحمد مطر يرى أن الشعر «قرين الفعل، هو فن من مهماته التحريض والكشف والشهادة على الواقع والنظر إلى الأبعد»، فيما يرى الشاعر السوداني محمد عثمان أن الشعر «نضال وكفاح». وفي هذا السياق، يعرف تميم البرغوثي الشعر بأنه «الكلام الأكثر كفاءة، لأنه يساهم في تشكيل خيال المحكوم، فيزعزع سلطة الحاكم».
إن مثل هذه الرؤى والتصورات لدور الشعر تحوله إلى أداة تُستخدم لأغراض سياسية واجتماعية، وإن القصيدة لديهم، حالها حال المقالة أو الخطبة المحرضة، إذ الغرض السياسي واضح في تعريفاتهم للشعر، وإن همهم ليس جمالياً قدر ما هو سياسي، وإن الشعر لدى هذه المجموعة الكبيرة من الشعراء هو الوظيفية التي يتحلى بها، فمن دونها يرون أنه عبارة عن هذيانات لغوية، وقد أسهمت الحركات السياسية منذ منتصف القرن الثاني في بث هذه النزعة لدى الشعراء في أن ينظروا إلى الشعر سلاحاً لا أكثر.
فيما وجدت بعضاً من هذه التعريفات يكاد يكون صورة شخصية عن صاحب التعريف، حيث ينطوي على معظم ملامح صاحبه، إذ يرى حسب الشيخ جعفر أن «الشعر لا يعيش إلا في الظل، وفي الظل تتوهج الروح وتتعرى»، ويكاد ينطبق هذا التعريف بشكل كامل على شخصية حسب الشيخ جعفر، التي لا تعيش إلا في الظل، ولا تتوهج إلا في الوحدة، كما هو معروف عنه وعن سيرته، رغم أهمية نتاجه الشعري في خريطة الشعر العربي، إلا أنه لا يحب إلا الظل، بينما الشعراء الذين ولدوا في قصر وعاشوا فيه وماتوا يرون أن الشعر له شأن آخر، لا دخل له بالثورات وهوسها، ولا بالغربة وشجونها، حيث يرى الشاعر أحمد شوقي أن الشعر «إنْ لم يكن ذكرى وعاطفة وحكمة، فهو تقطيع أوزان»، وهنا أيضاً انعكست حياة شوقي على نظرته لوظيفة الشعر بالنهاية.
الكلام كثير في هذا الإطار، والتعريفات كثيرة، رغم أنها لم تشمل جميع الشعراء، فمن الصعب جرد تفوهات الجميع حول الشعر، ولكن ما شدني في هذا الكتاب الشيق هو المختارات التي جُمعت للشعراء حول الشعر، وإمكانية البحث عن مرجعيات هؤلاء الشعراء من خلال تعريفاتهم للشعر، فقد توزعوا ما بين الرومانسيين والواقعيين، وما بين البلاغيين والصناع المهرة، وما بين الرائين بأن الشعر لا وظيفة له إلا الشعر.
- شاعر وأكاديمي عراقي