كان من الطبيعي أن تركز وسائل الإعلام الروسية في تغطياتها لمونديال «روسيا - 2018» على مواكبة الفعاليات الرياضية والأجواء الاحتفالية التي يعيشها المشجعون في شوارع وساحات المدن، قبل وبعد المباريات. إلا أن بعض الصحف ذهبت إلى تناول «العرس الكروي» من زاوية سياسية، ووصفته بأنه «حدث بأبعاد جيوسياسية»، بينما اتهمت صحف أخرى الحكومة الروسية باستغلال الحدث الرياضي وانشغال الرأي العام والإعلام به، لتمرير قرارات اقتصادية حساسة.
بين هذا وذاك كانت وكالات الأنباء والصحف الروسية تتعامل بأعلى درجات الحذر مع أي حدث «أمني» يجري خلال أيام المونديال، وعرضه من زاوية تؤكد أن الوضع الأمني تحت السيطرة، ولا وجود لتهديد إرهابي، مثلما جرى في تناول الإعلام حادثة دهس سيارة لمجموعة من المواطنين في وسط العاصمة موسكو، ابتعد الإعلام الرسمي عن نشرها ضمن الأخبار العاجلة، وتجنب ربطها مع حوادث دهس سابقة بطابع إرهابي، بينما قامت وسائل إعلام أخرى بعرض تفاصيل التفاصيل لتؤكد أن ما جرى مجرد حادث مروري. وفي خلفية هذا كله كانت هناك تغطيات واسعة من ساحات خاصة للمشجعين، تم التركيز فيها على عرض تعليقات ضيوف أجانب يثنون على مستوى تنظيم روسيا للمونديال والفعاليات الفنية والاحتفالية المرافقة له.
«البعد الجيوسياسي لبطولة العالم بكرة القدم 2018» عنوان مقال كتبه سيرغي ستروكان، في صحيفة «كوميرسانت» الروسية، قال فيه إن «بطولة العالم لكرة القدم التي انطلقت في روسيا لن تكون مجرد الحدث الرياضي الأهم خلال العام. وبالنظر إلى تطورات العلاقات بين موسكو والدول العالمية خلال الأشهر الأخيرة، والدعوات لمقاطعة المونديال، وأزمة «قضية سكريبال»، والحملات الدبلوماسية، والحرب الإعلامية، فإن هذه البطولة سيكون لها بعد جيوسياسي». وفي إشارة منه إلى أن التوتر الذي بلغ مستويات غير مسبوقة بين روسيا والغرب لم يؤثر على المواكبة السياسية للمونديال، وأن الدعوات لمقاطعته لم تأت بنتيجة، رأى ستروكان أن «ما يؤكد حقيقة البعد الجيوسياسي للمونديال في روسيا قائمة تضم أكثر من عشرين رئيس دولة ورئيس حكومة، وصلوا موسكو عشية انطلاق المونديال وفي الأيام الأولى منه»، ولفت إلى أن تلك القائمة ضمت قادة دول أجنبية، فضلاً عن رؤساء عدد من دول الجوار، أو الجمهوريات السوفياتية سابقاً، وكان لكل منهم لقاء ومحادثات مستقلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
رغم ذلك لم تستطع «كوميرسانت» تجاهل غياب قادة الدول الغربية عن المونديال، وقالت بهذا الصدد: «إن غياب القادة الغربيين الواضح خلال افتتاح المونديال لا يمكن أن يمر دون أن يستدعي في الأجواء شعوراً بخيبة أمل، تترافق مع أفكار مشككة فحواها أن موسكو جمعت تحت صخب المونديال أصدقاءها وزبائنها»، ويقول ستروكان في مقاله: «إن مثل هذه الأفكار ليست معدومة الأساس، على الرغم من أنه، ولو تحدثنا بدقة، فإن ظهور قادة الدول في بطولة كأس العالم لكرة القدم، على عكس الألعاب الأولمبية، لا يعتبر أمراً ضرورياً». رغم ذلك يدعو إلى التريث، ويشير إلى أن «مشيئة القدر» قد تفرض على قادة دول غربية أقرت عقوبات على روسيا، التوجه لحضور جانب من المونديال، ويشير على سبيل المثال إلى أنه «من الصعب أن نتخيل عدم حضور المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للمونديال، بحال تأهل المنتخب الألماني للنهائيات».
صحيفة «نيزافيسمايا غازيتا» التي تشارك في تغطية المونديال كحدث رياضي، تناولته أيضاً باعتباره حدثاً يشد اهتمام الرأي العام، ويخفف من رد فعله على قرارات حكومية حساسة. وفي مقال بعنوان «الحكومة وجهت ضربة ضريبية في القيمة المضافة»، نشرته عشية انطلاق المونديال، قال الصحافي أناتولي كوماراكوف في «نيزافسيميا»، إن «اتخاذ الحكومة قرارها برفع ضريبة القيمة المضافة تحت صخب بطولة العالم لكرة القدم، يبدو بمثابة إقرار منها أنها تقوم بعمل ما سيء». وفي عددها في اليوم الثالث من المونديال، نشرت الصحيفة مقالا بتوقيع «التحرير» تحت عنوان «بوتين فعل ما لم يجرؤ يلتسين على فعله»، وتناولت فيه ذات القرارات الحكومية حول الإصلاحات الاقتصادية التي شملت زيادة ضريبة القيمة المضيفة، ورفع سن التقاعد. وبعد الإشارة إلى أن الأقاليم الروسية ستقوم خلال 30 يوماً بدراسة قرار سن التقاعد، قالت «نيزافسيميا»: «مدة الشهر هذه تتزامن تماما مع الفترة التي ستجري خلالها فعاليات بطولة العالم لكرة القدم. كما سبق وأن قررت الحكومة الإعلان عن تلك الإصلاحات يوم 14 يونيو (حزيران)، أي بالتزامن مع مباراة الافتتاح وفوز روسيا بخمسة أهداف على المنتخب السعودي»، وأضافت الصحيفة: «إن كثيرين من منتقدي مشاريع القرارات الحكومية قالوا بعد ذلك إن السلطات اختارت توقيتا مناسبا للإعلان عن قرارات لا تحظى بشعبية، ويريدون تمرير الإصلاحات الاقتصادية تحت غطاء الصخب الإعلامي للمونديال».
إلى جانب ما سبق، برز أسلوب تعاطي وسائل الإعلام الروسية مع الجانب الأمني خلال المونديال، ولم يقتصر الأمر هنا على التأكيد بعد كل مباراة أن الأمور تجري على ما يرام ولم تسجل أعمال شغب أو مواجهات بين المشجعين، بل وشمل كذلك كيفية التعاطي مع حوادث أمنية، والحديث هنا بصورة أدق عن حادث أمني وحيد تم تسجيله، وهو عملية دهس جرت يوم 18 يونيو، في واحد من شوارع قلب مركز العاصمة الروسية موسكو، تسبب بإصابات متفاوتة لمجموعة من المواطنين، دون وقوع أي ضحايا. وكان لافتاً أن تجنبت وسائل الإعلام الرسمية عرض الخبر عن تلك الواقعة على شريط «عاجل»، كما غاب الخبر عن الشريط الإخباري بشكل عام. وكان الخبر الأول الذي ظهر على الإعلام غير الرسمي عن الحادثة، عبارة عن تقرير نقلاً عن وزارة الداخلية الروسية، مرفق مع تسجيلات فيديو تعرض الحادثة بحد ذاتها، وتسجيل آخر فيه اعترافات سائق التاكسي. وفي تلك الاعترافات التي نشرها بداية موقع صحيفة «آر بي كا» الروسية على الإنترنت، يؤكد السائق أن ما جرى مجرد «حادث مروري»، ويعترف أنه كان منهكاً، وعمل 20 ساعة متواصلة، وشعر بالنعاس، وأنه كان ينوي الضغط على الفرامل، لكن بسبب الإرهاق أخطأ وداس على «البنزين»، وتفاديا للاصطدام بالسيارات أمامه، انحرف نحو الرصيف، فأصاب حشدا من المواطنين. بهذا الشكل ساهمت التغطية الإعلامية للحادثة باستبعاد أي حديث قد يدور حول «عمل إرهابي».
وكالة «ريا نوفوستي» الحكومية تعمدت أيضاً في تناولها الحادثة، أن لا تكون هناك «أي رائحة» حتى لشيء اسمه «عمل إرهابي»، وبرز هذا الفرق بين كيفية تعاطيها مع خبر حادثة الدهس وسط موسكو، وأسلوبها في نقل خبر حادثة دهس أخرى وقعت في اليوم ذاته في جنوب هولندا. حول حادثة موسكو نشرت الوكالة مجموعة تقارير، يعبر فيها السائق عن شديد أسفه لما جرى، وأنه لم يتعمد «دهس» مواطنين، ولم يكن تحت تأثير الكحول لحظة وقوع الحادثة، وإنما كان يشعر بالتعب بسبب عمله المتواصل 20 ساعة، وغيره. وفي روابط لمواضيع وأخبار ذات صلة، تنشرها الوكالة عادة مع كل خبر، ركزت في حادثة موسكو على نشر روابط عن حوادث مرورية وقعت سابقاً. هذا فضلاً عن أنها تجنبت الإشارة أو التذكير بحوادث دهس وقعت في دول أخرى، نفذها إرهابيون. أما في تغطيتها لحادثة دهس حافلة في هولندا لمواطنين، قالت «ريا نوفوستي» إن «البوليس يحقق في ملابسات الحادثة»، وانتقلت على الفور لتشير إلى «تكرار حالات الدهس في الآونة الأخيرة في عدد من دول العالم»، وإذ قالت إن «الحديث يدور غالبا عن حوادث بسبب عطل في السيارة أو بسبب سائق تحت تأثير الخمر»، لكنها وعلى عكس أسلوبها في تغطية حادثة موسكو، لم تتجنب هنا التذكير بأنه «في بعض الحالات تكون حالات الدهس عمل متعمد أو عمل إرهابي»، وقدمت عرضا سريعا للحالات التي لجأ فيها إرهابيون إلى هذا الأسلوب في بلجيكا وفرنسا وإسبانيا وغيرها. ومع التقرير عن الحادثة في هولندا، أضافت «ريا نوفوستي» روابط أخبار حول عمليات «دهس» إرهابية الطابع.
الإعلام الروسي والمونديال... تغطية «أمنية» حذرة وانتقادات على الهامش
أبعاد جيوسياسية لعرس عام 2018 الكروي
الإعلام الروسي والمونديال... تغطية «أمنية» حذرة وانتقادات على الهامش
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة