حكومة «المشاريع الكبرى»... رهان السيسي في ولايته الثانية

توسّعت في تعيين نواب للوزراء... وحصة المرأة تتزايد

حكومة «المشاريع الكبرى»... رهان السيسي في ولايته الثانية
TT

حكومة «المشاريع الكبرى»... رهان السيسي في ولايته الثانية

حكومة «المشاريع الكبرى»... رهان السيسي في ولايته الثانية

أدت الحكومة المصرية الجديدة، يوم الخميس الماضي، اليمين الدستورية أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي، وشملت تعيين 12 وزيراً جديداً، بينهم وزراء الدفاع والداخلية والمالية والطيران، إضافة إلى 15 نائباً للوزراء. وقال أحد المراقبين «أداء مصطفى مدبولي اللافت وزيراً للإسكان، ودوره في المشاريع الكبرى التي يجري الإعداد لها حالياً، جعلاه وجهاً مقبولاً لدى الرأي العام الذي يعول عليه كثيراً في تحقيق طفرة اقتصادية شاملة خلال السنوات المقبلة». ونوه بأن «ارتفاع أسعار السلع والخدمات، المرتبطة بخطة الإصلاح الاقتصادي، أصبح أمراً حتمياً وعلى الجميع أن يدرك ذلك، فهو غير مرتبط بشخص رئيس الوزراء».
آمال تحقيق نقلة اقتصادية ملموسة وتحسين الوضع الأمني، يراهن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في مستهل ولايته الرئاسية الثانية، على الحكومة الجديدة برئاسة مصطفى مدبولي. ولقد صاحب الإعلان عن تشكيل الحكومة المصرية الجديدة حالة كبيرة من التفاؤل والأمل، رغم إجراءات اقتصادية مؤلمة تواصل الحكومة اتخاذها في إطار خطة شاملة لتقليل عجز الموازنة العامة.
ضم التشكيل الوزاري: الدكتور مصطفى مدبولي رئيساً لمجلس الوزراء، مع احتفاظه بحقيبة الإسكان والمجتمعات العمرانية، والفريق محمد أحمد زكي وزيراً للدفاع والإنتاج الحربي، والدكتور محمد معيط للمالية، والفريق يونس المصري وزيراً للطيران المدني، ومحمود شعراوي وزيراً للتنمية المحلية، واللواء محمود توفيق وزيراً للداخلية، والدكتورة هالة زايد وزيراً للصحة والسكان، والدكتورة ياسمين صلاح الدين عبد العزيز وزيرة للبيئة، والدكتور عز الدين أبو ستيت وزيراً للزراعة، والدكتور عمرو طلعت وزيراً للاتصالات، والدكتور أشرف صبحي للشباب والرياضة، والمهندس عمرو بيومي وزيراً للتجارة والصناعة، وهشام توفيق وزيراً لقطاع الأعمال العام.
كذلك احتفظ بقية وزراء حكومة المهندس شريف إسماعيل بحقائبهم دون تغيير في الحكومة الجديدة.
غير أن خبراء رأوا أن هذه الحكومة تميزت بملامح عدة، مما ينظر إليها بكثير من الرجاء لتلبية طموحات المصريين، من حيث طبيعة المرحلة المقبلة، ولجم الأسعار المتصاعدة، في حين رأى آخرون أنها جاءت بأجندة تتلخص في استكمال المشاريع الاقتصادية وجدولة ما تبقى من مراحل الدعم.

حقيبتا الدفاع والداخلية
عقب حلف اليمين الدستورية، أوصى الرئيس السيسي أعضاء الحكومة الجديدة التي بدت عليها ملامح شبابية، بأن مهمتها الأولى تتمثل في «تحسين حياة المواطنين، وضغط وترشيد النفقات، مع أهمية استمرار جهود مكافحة الفساد بأقصى طاقة، فضلاً عن تحقيق أقصى تعاون وتنسيق مع أجهزة الدولة ومجلس النواب، إسهاماً في التنفيذ الأمثل لبرامج وخطط الحكومة، وإنجاز التكامل المطلوب بين السلطتين التنفيذية والتشريعية».
وجاء لافتاً أن التشكيل الجديد للحكومة طال وزارات سيادية، تصدرتها وزارتان أمنيتان، هما الدفاع والإنتاج الحربي، والداخلية، الأولى يترأسها الفريق محمد أحمد زكي خلفاً للفريق أول صدقي صبحي، واللواء محمود توفيق لحقيبة الداخلية خلفاً للواء مجدي عبد الغفار، بالإضافة إلى المالية التي شغلها الدكتور محمد معيط.
الملمح الأهم في تغيير منصبي وزيري الدفاع والداخلية أن العادة جرت في الحكومات المصرية السابقة على الاستبقاء عليهما طويلاً. وعلى الرغم من تعيين صبحي نهاية مارس (آذار) عام 2014، وعبد الغفار مطلع الشهر ذاته من عام 2015، فإن التغيير الوزاري لم يستثنهما، علماً بأن الأول واكب محاربة الجماعات الإرهابية في محافظة شمال سيناء، والثاني تصدى لمخططات جماعة «الإخوان» في الداخل. ووصفت هذه الخطوة بأنها تجديد للدماء، ومنح الفرصة لوزراء آخرين يطرحون أفكاراً مبتكرة ورؤى جديدة. واللافت أيضاً أن الرئيس السيسي حرص على لقائهما قبل أن يصدر قراراً بتعيين صبحي مساعداً لرئيس الجمهورية لشؤون الدفاع، وعبد الغفار مستشاراً لرئيس الجمهورية لشؤون الأمن ومكافحة الإرهاب.

للمرأة... «نصيب الأسد»
تحتفظ المرأة في حكومة مدبولي، التي يحلو للبعض تسميتها بـ«حكومة العيد»، بـ«نصيب الأسد»، إذ تمثل بـ11 سيدة. وتضم تشكيلة الحكومة الأولى في ولاية السيسي الثانية سيدتين جديدتين تحملان حقيبتين وزاريتين، هما الدكتور هالة زايد، وزيرة للصحة والسكان، والدكتورة ياسمين فؤاد وزيرة للبيئة.
ليس هذا فحسب، بل شمل التشكيل 3 نائبات وزير جديدات، هن: نيفين القباج نائبة لوزيرة التضامن للحماية الاجتماعية، وغادة مصطفى نائبة لوزير الإسكان للتخطيط والإصلاح الإداري، وراندا علي صالح نائبة لوزير الإسكان والمرافق، فضلاً عن الدكتورة منى محرز التي تشغل منصب نائب وزير الزراعة لشؤون الثروة السمكية، منذ فبراير (شباط) عام 2017. وفي المقابل، أبقى مدبولي على 5 وزيرات في حكومته، هن: الدكتورة سحر نصر وزيرة التعاون الدولي، والدكتورة غادة والي وزيرة التضامن الاجتماعي، والسفيرة نبيلة مكرم وزيرة الهجرة وشؤون المصريين بالخارج، ورانيا المشاط وزيرة السياحة، والدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط والإصلاح الإداري.
وفضلاً عن تمثيل المرأة الملحوظ في الحكومة، فإن الملمح الأبرز يتمثل في عنصر الشباب، إذ عد بعض المحللين والإعلاميين النزول بعمر رئيس وزراء مصر من 63 سنة إلى 52 سنة، وهو سن مدبولي، ملمحاً يدل على النزوع نحو جيل أكثر شباباً، فضلاً عن وجود وزير في الخمسين من عمره مثل أشرف صبحي الذي تولي حقيبة الشباب والرياضة.
ومن بين ما حملت حكومة مدبولي من ملامح، تغيير وزير التنمية المحلية اللواء أبو بكر الجندي الذي لم يمض على تعيينه شهور عدة، على خلفية «زلات لسان» أوقعته في مرمى انتقادات أعضاء مجلس النواب، لكنه ألقى باللائمة على وسائل الإعلام التي قال إنها ضخمت من سقطاته. ورغم كونه شغل منصباً رفيعاً تمثل في رئاسة الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فضلاً عن خلفيته العسكرية السابقة، فإن الوزارة الجديدة تجاوزته. ويبقى أن أبو بكر الجندي نفسه كان يتوقع خروجه من التشكيل الجديد، خصوصاً مع وجود الكثير من الأزمات التي وقعت خلال فترته.

نواب الوزراء... «الصف الثاني»
ينظر للحكومة الجديدة على أنها توسعت في إسناد مهام بنواب للوزراء، باختيار 15 نائب وزير، منهم 4 سيدات، مما يفتح الطريق أمامهم مستقبلاً ليكونوا وزراء، الأمر الذي وصفته المعارضة السياسية في البلاد بأنه من الأمور المحمودة في عصر السيسي، بالشكل الذي يوسع دائرة المشاركة، ويخلق كوادر جديدة من الشباب، وتمكينهم من اكتساب مهارات وخبرات وقدرة على تحمل المسؤولية. وعقب حلف الحكومة لليمين، قال النائب علاء عابد، نائب رئيس حزب «مستقبل وطن»، في تصريحات صحافية، إن «اختيار نواب للوزراء مؤشر لتأهيل صف وزاري ثان بهدف توزيع الأدوار في ظل عبء المرحلة، ووجوب سرعة التنفيذ والتغلب على البيروقراطية وإعداد كوادر ووجوه جديدة فاعلة».
وتعهد مدبولي عقب أداء اليمين بتحقيق المزيد من الشفافية والنزاهة وإعطاء الأهمية للفئات الأولى بالرعاية، وقال: «أولوية العمل ستكون على تحسين مستوى معيشة المواطنين، وزيادة كفاءة المنظومة الحكومية، والحفاظ على الأمن القومي المصري، وتعزيز دور مصر الرائد على الأصعدة العربية والأفريقية والدولية». وشدد على دعم الثقة مع المواطنين بالاهتمام بالملفات، والقضايا ذات التأثير المباشر على المواطن، وإنجاز المشاريع القومية.
مدبولي يتأهب لتقديم برنامج حكومته أمام مجلس النواب خلال ثلاثة أسابيع تقريباً، وسط مطالبات برلمانية بضرورة التزامها بترشيد الإنفاق، والابتعاد عن البذخ والإسراف، والعمل على ضبط الأسواق، ولجم تصاعد الأسعار، واستكمال ما تم من المشروعات القومية، وتعظيم الاستفادة من إدارة أصول الدولة، فضلاً عن وضع قاعدة بيانات حقيقية تضمن وصول الدعم إلى مستحقيه، والعمل على اتخاذ الإجراءات والبرامج التنفيذية في مواجهة أزمة الزيادة السكانية، فضلاً عن زيادة معدلات الإنتاج لتحقيق نهضة تنموية ملموسة، تنعكس آثارها في تحسين معيشة المواطنين.

الأمن والاقتصاد... أبرز التحديات
يأتي التحدي الأمني والإصلاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات على رأس التحديات التي تواجه حكومة مدبولي. ومن المنتظر أن تطبق مصر مزيداً من إجراءات التقشف القاسية التي يساندها صندوق النقد الدولي في السنوات المقبلة في مسعى لتعزيز الاستثمارات وتوفير الوظائف في اقتصاد تعصف به اضطرابات منذ ثورة «25 يناير (كانون الثاني)» 2011. وستشمل إجراءات التقشف التي يقف وراءها صندوق النقد خفض دعم الوقود، وهو تحرك سيغضب على الأرجح قطاعات كبيرة من السكان الذين يجدون صعوبة بالفعل في الوفاء باحتياجاتهم.
من ناحية أخرى، تحاول مصر تعزيز الأمن، إذ يقاتل الجيش فرعاً لـ«داعش شبه جزيرة سيناء». وتنقسم الآراء بين الذين يرون أن البلاد باتت أكثر أمناً الآن مما كانت عليه قبل سنوات، ويأملون أن تجذب الإصلاحات الاقتصادية والاستقرار مزيداً من الاستثمارات الأجنبية والسياحة التي تشتد الحاجة إليها، وآخرين ينتقدون ما يعتبرونه تضييقاً على الحريات.
ويُشرف مدبولي بصفته وزيراً للإسكان أيضاً على أهم المشاريع القومية الكبرى التي دشنها الرئيس السيسي خلال ولايته الأولى، وينتظر استكمالها في الولاية الجديدة التي بدأت في يونيو (حزيران) الحالي ولمدة 4 سنوات، وأبرزها العاصمة الإدارية الجديدة، ومدينة العلمين الجديدة، ومدينة الجلالة، فضلاً عن اضطلاع وزارته بملف القضاء على العشوائيات في القاهرة، ما عده «مهندس المشاريع الكبرى» في مصر. وبدا مدبولي للجميع أخيراً، من خلال جهده الدؤوب والملموس شعبياً - خصوصاً في مشاريع الإسكان الاجتماعي التي أحدثت طفرة في حلم القضاء على العشوائيات - أنه يحظى بقدر كبير من ثقة الرئيس السيسي، ولقد أثنى الرئيس عليه غير مرة، وكذلك على أداء الوزارة في عهده.
أبو بكر الديب، الخبير في الشأن الاقتصادي، يقول إن التشكيل الوزاري الجديد «يفتح شهية المستثمرين، وينعش الاقتصاد»، موضحاً أن رئيس الوزراء الجديد تنتظره 10 تحديات، أهمها يتعلق بالملف الاقتصادي، كارتفاع الدين الخارجي وفوائده، وصعوبة تدفق الاستثمارات الخارجية، ومشكلة الزيادة السكانية، واستكمال المشروعات القومية التي بدأها الرئيس السيسي خلال فترة ولايته الأولى كمشاريع الطرق والبنية التحتية وزيادة الإنتاج، وتحسين التعليم والتموين والصحة، ومواجهة ارتفاع الأسعار وارتفاع عجز الموازنة العامة وعجز ميزان.

مزايا مدبولي
ويوضح الديب أن مدبولي يعد من أقدم الوزراء الموجودين حالياً، وذلك منذ تكليف المهندس إبراهيم محلب له في عام 2014 بتولي وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية الجديدة. ويضيف أن اختيار مدبولي جاء لعدة أسباب، أبرزها تنفيذ مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، ونجاحه في ملف إسكان الشباب، ومساهمته في تخطيط «مثلث ماسبيرو»، وتنفيذه مشاريع طرق وكبارٍ ورفع كفاءتها في فترة وجيزة، وتنفيذ أكثر من 250 ألف وحدة سكنية خلال عام، وهو ما يعادل ما تم تنفيذه في تاريخ وزارة الإسكان بالكامل، بالإضافة إلى تنفيذ نحو 400 ألف وحدة سكنية. وحقاً نجحت الوزارة في عهده في تنفيذ أكثر من 80 في المائة من نصيبها من المشروع القومي للطرق، وطرحت الوزارة أكثر من 500 ألف وحدة سكنية.
أيضاً يشيد الديب بجهود الدكتور محمد معيط، نائب وزير المالية لشؤون الخزانة العامة، في عدد من الملفات بالوزارة، خصوصاً ملفي التأمين الصحي الشامل، وإجراءات الحماية الاجتماعية للمواطنين، قائلاً إنه «مايسترو» و«نصير الفقراء» في الوزارة. ويتابع أن معيط، الذي عُين وزيراً للمالية، أحد الكفاءات المتميزة في الاقتصاد، إذ تقلد عدداً من المناصب، آخرها مساعد أول وزير المالية للخزانة العامة، منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2015، ولم يكن هذا أول عمل له بوزارة المالية، إذ كان يشغل منصب مساعد وزير المالية للتأمينات الاجتماعية، والمسؤول عن ملف التأمينات، وقت أن كانت الهيئة تتبع وزارة المالية في عهد الوزير الأسبق يوسف بطرس غالي، وبقي في الوزارة حتى عام 2013. وعقب خروجه من المالية، عين نائباً لرئيس هيئة الرقابة المالية، والقائم بأعمال رئيس الهيئة، ثم انتقل للعمل مساعد أول وزير الصحة للتأمينات، وتولى مسؤولية إعداد قانون التأمين الصحي الجديد، ثم عاد للعمل بوزارة المالية مساعداً أول للوزير.
عبد المحسن سلامة، نقيب الصحافيين، يرى أن الفترة الأولى للرئيس السيسي «شهدت مواجهة إرث التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على مدى عقود طويلة وممتدة، بالإضافة إلى مواجهة الإرهاب الغاشم الذي استشرى بعد الفوضى التي أصابت المنطقة، ولا يزال يحاول جاهداً كسر إرادة الشعوب وتدمير دولهم». ويردف أن تحديات المرحلة الجديدة «تختلف عن تحديات المرحلة السابقة، لذلك كان قرار تشكيل حكومة جديدة وإجراء تغيير وزاري».

إعادة بناء الإنسان المصري
يرى سلامة، أن أبرز التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة هو «إعادة بناء الإنسان المصري، لأن البشر هم أدوات التقدم والتنوير، ولن تكون هناك تنمية أو نهضة إلا من خلال إعادة بناء الإنسان المصري». ويؤكد أن الرئيس السيسي حدد ثلاثة محاور لبناء الإنسان، سيجري التركيز عليها خلال المرحلة المقبلة «هي التعليم والصحة والثقافة، بما يضمن الارتقاء بعقل وجسد وروح الإنسان المصري».
النائب خالد هلالي، عضو مجلس النواب، من جهته، يعتبر تكليف الرئيس السيسي، المهندس مدبولي، بتشكيل الحكومة الجديدة، «اختياراً موفقاً وصائباً». ويوضح: «مدبولي نجح في العديد من ملفات الإسكان خلال الفترة الماضية، ومصر تحتاج الكثير في الفترة المقبلة من أجل مواصلة البناء والتعمير».
ويتابع هلالي أن «مدبولي يستحق رئاسة مجلس الوزراء باعتباره رجل المهام وصاحب الإنجازات، ومن أنجح وزراء الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية الجديدة في تاريخ مصر»، مؤكداً ثقته في قدرة رئيس الوزراء الجديد على تحقيق نتائج سريعة وملموسة للشعب المصري.
من جهته، يعتبر المستشار هاني رياض القللي، المتحدث الرسمي لحركة «وعي» للتثقيف السياسي، أن التغييرات التي حدثت في وزارة مدبولي «تغييرات كبيرة على نطاق واسع، وكانت بمثابة مفاجأة للجميع، خصوصاً أن التغييرات شملت بعض الوزارات الحساسة مثل الدفاع والداخلية والطيران المدني». ويشير القللي إلى أن الحكومة الجديدة تنتظرها بعض التحديات مثل استئصال كل البؤر الإرهابية والقضاء على الإرهاب بشكل سريع، واستكمال المشاريع التنموية الكبرى التي بدأها الرئيس خلال فترة ولايته الأولى، بالإضافة إلى تخفيف العبء عن كاهل المواطن البسيط.
ثم يستطرد أن التغييرات الواسعة «تؤكد أن الوزراء الجدد لديهم تحديات كبيرة يجب إنجازها بشكل سريع للنهوض بمصر إلى بر الأمان، والعبور بها إلى المستقبل المشرق»، مطالباً الجميع بالوقوف بجانب الحكومة الجديدة لإنجاز المهام التي تأخرت، كما يجب العمل على احترام القانون أول طريق بناء الإنسان الذي تحدث عنه الرئيس عبد الفتاح السيسي.

تأييد برلماني واسع لمدبولي
- يشترط الدستور المصري موافقة البرلمان على قرار رئيس الجمهورية اختيار رئيس الحكومة ووزرائه، ثم عرض رئيس الوزراء برنامج الحكومة الجديدة على البرلمان، حيث تنص المادة (146) من الدستور على أن «يكلف رئيس الجمهورية رئيساً لمجلس الوزراء، بتشكيل الحكومة وعرض برنامجه على مجلس النواب». وأعطى الدستور الحزب أو الائتلاف الحائز على الغالبية في البرلمان ترشيح شخصية لرئاسة الوزراء في حال رفض البرلمان ترشيح الرئيس، لكن هذا السيناريو غير متوقع مع الدكتور مدبولي الذي يحظى بتأييد واسع في البرلمان.
وكان «ائتلاف دعم مصر»، صاحب الغالبية البرلمانية، قد أكد أن قرار الرئيس بتكليف مدبولي تشكيل الحكومة الجديدة «يمثل انطلاقة نحو المستقبل، ودفعة جديدة في سبيل استكمال خطط التنمية ومسيرة الإصلاحات التي بدأتها مصر تحت القيادة السياسية الحكيمة للرئيس». وأضاف، في بيان له، أن «مدبولي كان عنصراً فاعلاً في الحكومة السابقة وأبلى بلاءً حسناً في حقيبة وزارة الإسكان، التي شهدت في عهده طفرة كبيرة وتحسناً ملموساً في إحداث نهضة عمرانية وتوفير وحدات سكنية لمحدودي ومتوسطي الدخل وجميع شرائح الإسكان».
بدوره، قال مدبولي فور أداء حكومته اليمين إن الرئيس السيسي كلفه بالاهتمام بملفات التعليم والصحة وبناء الإنسان المصري والإصلاح الإداري، ليرتبط ذلك بالانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة، واستكمال إجراءات الإصلاح الاقتصادي. وأضاف أن الإصلاح الاقتصادي «توجه عام للدولة رغم صعوبة الإجراءات»، مشدداً على أن الرئيس كلفه بإعطاء دفعة للمشاريع القومية لأهمية دورها في خلق فرص عمل، حيث وفرت 3 ملايين فرصة عمل استفاد منها نحو 12 مليون مواطن، مشيراً أيضاً إلى أهمية تلك المشروعات في بناء مصر المستقبل.
وأشار إلى أن الرئيس السيسي وجه الحكومة الجديدة - أيضاً - بأهمية إعطاء طفرة لشركات قطاع الأعمال العام، موضحاً أن الرئيس وجه - كذلك - بالاهتمام بالملفات الأمنية وتحسين الخدمات الجماهيرية، مؤكداً أن «التركيز على تحسين الخدمات التعليمية والصحية وبناء الإنسان المصري على رأس أولوياتنا».



لبنان: تدابير سياسية ــ عسكرية لتجنب جولة جديدة من الحرب

جنود قرب مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان خلال عملية تسليم مجموعات فلسطينية سلاحها للجيش اللبناني يوم 13 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)
جنود قرب مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان خلال عملية تسليم مجموعات فلسطينية سلاحها للجيش اللبناني يوم 13 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)
TT

لبنان: تدابير سياسية ــ عسكرية لتجنب جولة جديدة من الحرب

جنود قرب مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان خلال عملية تسليم مجموعات فلسطينية سلاحها للجيش اللبناني يوم 13 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)
جنود قرب مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان خلال عملية تسليم مجموعات فلسطينية سلاحها للجيش اللبناني يوم 13 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)

نجح لبنان الرسمي، إلى حد كبير، نتيجة التدابير السياسية والعسكرية التي اتخذها في الفترة الماضية، في وقف، أو «فرملة»، التصعيد الإسرائيلي الذي كان مرتقباً قبل نهاية العام، رداً على ما تقول تل أبيب إنها محاولات من قبل «حزب الله» لإعادة ترميم قدراته العسكرية. وتلعب واشنطن، راهناً، دوراً أساسياً في الضغط على إسرائيل لإعطاء فرصة للمسار السياسي - الدبلوماسي الذي انطلق مؤخراً مع موافقة الدولة اللبنانية على تطعيم الوفد الذي يفاوض في إطار لجنة وقف النار (الميكانيزم) بشخصية مدنية.

عُقدت يوم الجمعة، جولة ثانية من مفاوضات مدنية بين لبنان وإسرائيل، هي الأولى من نوعها منذ 40 عاماً، بعد انضمام السفير اللبناني السابق سيمون كرم، والمدير الأعلى للسياسة الخارجية في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي يوري رسنيك، إلى المستشارة الأميركية مورغان أورتاغوس، لاجتماعات لجنة الإشراف على تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية (الميكانيزم)، مشاركين مدنيين إلى جانب العسكريين.

ويطمح لبنان الرسمي أن تؤدي هذه المفاوضات لتنفيذ مطالبه بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي لا تزال تحتلها، وتحرير الأسرى المحتجزين لديها، ووقف اعتداءاتها وخروقاتها للسيادة اللبنانية، فيما بدا لافتاً حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عن نيته أن يؤدي هذا المسار التفاوضي إلى تعاون اقتصادي مع لبنان.

استراتيجية عسكرية جديدة

وبدا واضحاً مؤخراً أنّ قيادة الجيش اللبناني تنتهج استراتيجية جديدة في إدارة المرحلة، تسعى من خلالها للتأكيد أنها تنفّذ كامل مهامها جنوب نهر الليطاني، بعكس ما يروج له الإسرائيليون عن تلكؤ وتباطؤ في هذا المجال. وفي هذا الإطار، نظّم الجيش جولة أولى للإعلاميين المحليين والأجانب، تلتها جولة مماثلة للسفراء والدبلوماسيين الأجانب إلى منطقة جنوب الليطاني، للاطلاع من كثب على ما تم إنجازه على الأرض. ويهدف الجيش من خلال هذه الخطوات إلى كسب الرأي العام الدولي إلى صفّه، وإحراج إسرائيل التي ترفض تقديم أي تنازل لملاقاة التنازلات اللبنانية المتتالية.

وأسهمت موافقة الجيش اللبناني على تفعيل مهامه جنوب نهر الليطاني، بما في ذلك تفتيش بعض المنازل التي حدّدتها لجنة «الميكانيزم»، في دعم مسار التهدئة القائم وقطع الطريق على الحجج والمبررات الإسرائيلية لتوجيه ضربة عسكرية جديدة وواسعة داخل لبنان.

وانتقد مقربون من «حزب الله» إجراءات الجيش الأخيرة، واعتبروا أن الموافقة على تفتيش منازل السكان «تنازل جديد يُقدم عليه لبنان وخضوع للإرادة والرغبة الإسرائيلية، ما سيستدعي مزيداً من الطلبات والشروط من قبل تل أبيب».

في المقابل، يعتبر الجيش أنه وبإجراءاته هذه، يجنّب أهل الجنوب مزيداً من القتل والدمار، خصوصاً بعد إلغاء إسرائيل مؤخراً ضربة جوية هددت بها لأحد المنازل بعد إقدام الجيش اللبناني على تفتيشه أكثر من مرة، للتأكد من خلوه من الأسلحة.

فرصة دبلوماسية

وبعدما كانت كل الأجواء الداخلية والخارجية ترجّح فرضية اندلاع حرب إسرائيلية جديدة مع «حزب الله» نهاية العام الحالي، أو مطلع العام الجديد، خصوصاً مع إعلان وزير الخارجية اللبناني، يوسف رجي، مؤخراً عن تحذيرات وصلت من جهات عربية ودولية تفيد بأن إسرائيل تحضّر لعملية عسكرية واسعة ضد لبنان، يتحدث مسؤولون لبنانيون الآن عن تمديد المهلة المعطاة للبنان لإنجاز مهمة حصرية السلاح على كامل الأراضي اللبنانية.

وفي هذا السياق، يشير النائب آلان عون إلى «فرصة أعطيت للمسار التفاوضي الذي أطلقه رئيس الجمهورية عبر السفير سيمون كرم، لعلّه يحقّق تقدّماً في ملف السلاح من جهة والمطالب اللبنانية من جهة أخرى، إلا أن لا أحد يمكنه أن يضمن أن فترة السماح هذه ستدوم طويلاً، ما يبقي لبنان تحت خطر مرحلة تصعيد وجولة عنف أخرى لتحقيق مكتسبات أو فرض تنازلات لم تحققها المفاوضات». ويلفت عون في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «الأميركيين كانوا وراء الفرصة الدبلوماسية الجديدة، وهم من ضغطوا على الطرف الإسرائيلي للتجاوب مع دعوة رئيس الجمهورية (جوزيف عون) إلى التفاوض. وجاء تعيين (السفير) كرم في هذا السياق». ويضيف: «لكن رعايتهم لمسار التفاوض الذي يتناسب مع الرغبة اللبنانية، لا يلغي تأييدهم الكامل لإسرائيل وخطواتها في حال فشل المفاوضات وعودة التصعيد».

ويعتبر النائب عون أن «موقع لبنان التفاوضي صعب جداً، ولذلك يجب أن تكون استراتيجية التفاوض قائمة على مبدأ الاتفاق وفق (السلّة الكاملة) التي ترضي الطرفين، ولو تطلّب الحلّ جدولة مراحل لتنفيذه على غرار اتفاق غزة، لأن لبنان، للأسف، عاجز عن فرض أي شروط وتنازلات جزئية في ظلّ الخلل الفادح بميزان القوى».

خلاف أميركي - إسرائيلي

ويذهب دبلوماسيون سابقون أبعد في مقاربة ما يجري، معتبرين أنّ التطورات تندرج في إطار «كباش» أميركي - إسرائيلي؛ فبينما تسعى واشنطن وإدارة الرئيس دونالد ترمب إلى تثبيت الاستقرار في المنطقة، تفضّل إسرائيل مواصلة عملها العسكري لتحقيق أهدافها.

ويرى السفير اللبناني السابق في واشنطن رياض طبارة، أن «لبنان ليس لاعباً أساسياً في المشهد الحالي، لذلك تراه يتجاوب مع التحركات الخارجية المتعارضة على قدر المستطاع، وقد تفهمت واشنطن الموقف اللبناني الذي ينسجم مع المثل القائل (العين بصيرة واليد قصيرة)».

ويعتبر طبارة في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «لبنان الرسمي وبالقرارات والإجراءات الأخيرة التي اتخذها يسير على الطريق الصحيح بمواكبة التطورات»، مستبعداً «جولة حرب إسرائيلية جديدة في ظل وجود (فيتو) أميركي واضح يتصدى لمثل هذا السيناريو». ويضيف: «الخلافات طفت إلى السطح بين ترمب ونتنياهو؛ فالأول يريد السلام في أوكرانيا والشرق الأوسط، فيما يعتبر الثاني أن هناك فرصة للتوسع باتجاه إسرائيل الكبرى ويعمل لمواصلة ضرباته لـ(حزب الله)».

ويشير طبارة إلى أن «اللوبي الإسرائيلي في أميركا يعيش حالة تضعضع وانقسام حول دور إسرائيل في العالم، وهو ما تجده الإدارة الأميركية الحالية فرصة لممارسة ضغط غير مسبوق على إسرائيل»، متوقعاً «لقاء حامياً مرتقباً بين ترمب ونتنياهو الذي تم استدعاؤه لإبلاغه بخطوط حمراء، وأبرزها خط أساسي يقول بتفادي الوصول إلى حرب مفتوحة».

كما يرى طبارة أن «إسرائيل أصلاً مرتاحة للواقع الراهن، بحيث إنها تستهدف من تشاء، وما تشاء، عندما تريد وأينما تريد، ما يعزز فرضية استمرار مرحلة الستاتيكو (الجمود) المتواصلة منذ اتفاق وقف النار في نوفمبر (تشرين الثاني) العام الماضي».

ويلتقي ترمب نتنياهو في فلوريدا بالولايات المتحدة يوم 29 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. وفيما يتصدر ملف غزة والانتقال إلى تطبيق المراحل اللاحقة من الاتفاق المرتبط بالقطاع، يحضر الملف اللبناني إلى جانب الملف السوري والعلاقة مع إيران بقوة على طاولة الاجتماع.

ويأمل المسؤولون اللبنانيون في أن يواصل ترمب ضغوطه على نتنياهو لتجنيب لبنان جولة جديدة من العنف، وإن كانوا يرون أن تل أبيب ستواصل عملياتها العسكرية التي تتركز على عمليات اغتيال عناصر ومسؤولين في «حزب الله».

تشدد «حزب الله»

ووسط كل هذه التطورات، يواصل «حزب الله» تشدده في التعامل مع ملف سلاحه شمال نهر الليطاني، بحيث خرج أمينه العام الشيخ نعيم قاسم مؤخراً، ليقول: «سندافع عن أنفسنا حتى لو أُطبقت السماء على الأرض. لن يُنزع السلاح تحقيقاً لهدف إسرائيل، ولو اجتمعت الدنيا بحربها على لبنان. افهموا جيداً: الأرض والسلاح والروح خلطة واحدة متماسكة. أيّ واحد تريدون نزعه أو تمسّون به، يعني أنّكم تمسّون بالثلاثة وتريدون نزعها، وهذا إعدام لوجودنا، ولن نسمح لكم بذلك، ولن يكون هذا».

ويرى أستاذ القانون والسياسات الخارجية في باريس الدكتور محيي الدين الشحيمي، أن «لبنان محاصر بين احتلالين: الأول؛ احتلال (حزب الله)، رغم هزيمته في الحرب، واستمراره في عرقلة كل الخطوات التي تقوم بها السلطة في لبنان للوصول إلى مفهوم الدولة الحقيقي والدستوري. أما الاحتلال الثاني؛ فهو الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني الذي أتى نتيجة مباشرة لدخول الحزب والممانعة بالحرب بطريقة غير شرعية ودستورية، مع استمرار الكيان الإسرائيلي بالغلو وإبراز تفوقه».

ويعتبر الشحيمي في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «الدولة اللبنانية المتمثلة بالعهد الحالي، تعمل بجهد كبير بين ألغام الداخل الممانع وضغوطات الخارج الملحة، بحيث تنكب سلطتها التنفيذية بثنائية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة على تجنيب لبنان المآسي والحرب، حيث كان لتعيين السفير الأسبق سيمون كرم رئيساً للوفد اللبناني في (الميكانيزم) صدى إيجابي محلياً ودولياً»، لافتاً إلى أن «هذه الخطوة وضعت لبنان على سكة الدولة الراشدة والمتكلمة عن نفسها، وهو ما كان يطلب منها في الأروقة الدولية كأي شرط طبيعي في ملف المفاوضات، ذلك أن وجود شخصية مدنية سياسية تتسلم زمام الأمر اللبناني التنفيذي ضمن الأطر الاتفاقية، جنّب لبنان الاستهدافات الإسرائيلية للبنية الحيوية الرسمية والحكومية، وهو ما تجهد عناصر دول العالم الصديقة المولجة مساعدة لبنان على تثبيته وتأمينه، خصوصاً في واشنطن وباريس».

ويرى الشحيمي أن «استمرار (حزب الله)، في المقابل، بتعنته وتمسكه بالسلاح وتفريقه بين شمال الليطاني وجنوبه (...) هو إعلان صريح بخرقه اتفاق نوفمبر 2024، الذي وضع أسس ومراحل تنفيذ وقف إطلاق النار، وهذا ما يضع لبنان من جديد تحت رحمة الاستهدافات الإسرائيلية من بوابة استهداف الحزب الذي يبرهن عن نفسه كل يوم في كونه أداة إيرانية بعناصر لبنانية على الأرض اللبنانية؛ يُطبّق وصايا الحرس الثوري لأهداف غير لبنانية».

طروحات مقلقة

ويفترض أن ينجز الجيش اللبناني مهمة حصرية السلاح جنوب نهر الليطاني، أي على الحدود مع إسرائيل، نهاية العام الحالي، ويقدّم قائده العماد رودولف هيكل، تقريره الثالث عما تم تحقيقه حتى الساعة، ليفتح بذلك باب النقاش واسعاً على كيفية تطبيق مندرجات قرار مجلس الوزراء بملف السلاح شمال نهر الليطاني، في ظل رفض «حزب الله» التام التعاون وتسليم السلاح في هذه المنطقة.

وتخشى قوى لبنانية معارضة لـ«حزب الله» طروحات يتم التداول بها علناً، وأخرى خلف الأبواب المغلقة بخصوص حل أزمة سلاح الحزب، على غرار إبقاء السلاح المتوسط والخفيف الذي لا يهدد أمن إسرائيل، بيد عناصر الحزب، وكذلك إعطاء الحزب مكاسب سياسية على حساب أطراف أخرى من أجل إقناعه بأن يوافق على تسليم سلاحه. وكان موقف المبعوث الأميركي توم برّاك، الذي اعتبر فيه أنه «ليس من الضَّروري نزعُ سلاح (حزب الله)، إنما منع استعماله»، قد فاقم هذه الهواجس.


خوسيه أنطونيو كاست... «بينوشيه جديد» في تشيلي بصناديق الاقتراع

خوسيه أنطونيو كاست... «بينوشيه جديد» في تشيلي بصناديق الاقتراع
TT

خوسيه أنطونيو كاست... «بينوشيه جديد» في تشيلي بصناديق الاقتراع

خوسيه أنطونيو كاست... «بينوشيه جديد» في تشيلي بصناديق الاقتراع

بعد 35 عاماً على سقوط نظام الجنرال أوغوستو بينوشيه، قرر التشيليون، يوم الأحد الفائت، بأغلبية ساحقة، اختيار أحد أنصاره رئيساً جديداً لهم، في انتخابات مُنيت فيها القوى اليسارية بأقسى هزيمة منذ عودة النظام الديمقراطي في عام 1990. الرئيس الجديد، خوسيه أنطونيو كاست، مولود في العاصمة سانتياغو منذ 59 عاماً من أسرة ألمانية هاجرت إلى تشيلي بطريقة غير شرعية في نهاية الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها والده جندياً في الجيش النازي. يشكّل وصول كاست إلى رئاسة تشيلي التي تنعم بنسبة عالية من الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي في محيطها الإقليمي المضطرب، خطوة متقدمة في الاستدارة اليمينية لأنظمة الحكم في أميركا اللاتينية التي تحظى باهتمام خاص من الإدارة الحالية في الولايات المتحدة. سارعت إدارة الرئيس دونالد ترمب إلى تهنئة الرئيس المنتخب، معربة عن استعدادها لفتح صفحة جديدة من التعاون معه.

في سبتمبر (أيلول) 1988 ذهب التشيليون إلى صناديق الاقتراع في استفتاء شعبي حول بقاء الجنرال بينوشيه في الحكم أو رحيله. سبقت الاستفتاء حملة واسعة شارك فيها أنصاره ومعارضوه في أنحاء البلاد، وبخاصة في الأوساط الطلابية التي كانت المعقل الرئيسي للقوى المعارضة، من أقصى اليسار إلى اليمين المحافظ والمعتدل. يومها برز بين القوى الطلابية المؤيدة لبقاء بينوشيه في الحكم، شاب في الثانية والعشرين من عمره، يدعى خوسيه أنطونيو كاست، يدرس الحقوق في جامعة سانتياغو الكاثوليكية، ويعتبر أن النظام العسكري الذي يقوده الجنرال، بعد انقلابه على حكومة الشيوعي سالفادور الليندي، هو «لصالح جيل الشباب، ومؤسس لمستقبل زاهر من الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي في تشيلي».

يومها كان ميغيل، الشقيق الأكبر لخوسيه أنطونيو، وزيراً غير مرة في حكومة بينوشيه الأولى وحاكماً للمصرف المركزي، وأحد أركان الدائرة الضيقة التي كانت تحيط بالجنرال وتسعى لبقائه في الحكم، رغم تنامي المعارضة الشعبية ضده وفقدانه للعديد من حلفائه الإقليميين والدوليين. كما أن شقيقاً آخر له، بين أشقائه التسعة، كان قد أدين في تحقيق حول اختفاء عشرات الطلاب والمزارعين وإعدام العديد منهم عام 1973.

بعد مرور أربعين عاماً تقريباً على تلك الحقبة، وصل خوسيه أنطونيو كاست إلى سدة الرئاسة ليقول في أول تصريح له بعد دقائق معدودات من تأكد فوزه مساء الأحد الفائت: «ما كان ليحصل الذي حصل لولا وجود الله معنا»، فيما كان أنصاره يهتفون للرئيس المنتخب الذي «أنقذهم من الشيوعية». في تلك الأثناء، كان الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، الحليف الإقليمي الأوثق للرئيس الأميركي دونالد ترمب، يعلن عن ابتهاجه بفوز من وصفه بالصديق، معتبراً فوزه «خطوة جديدة في المنطقة على طريق الدفاع عن الحياة والحرية والملكية الخاصة»، فيما كانت التهاني تنهال عليه من أقطاب اليمين المتطرف في أميركا اللاتينية وأوروبا.

لكن خلافاً للعديد من قادة القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة الذين تشكّل انتماؤهم العقائدي في كنف الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعيشها بلدانهم، وصعدت شعبيتهم من الرغبة العارمة في التغيير وعلى ركام الأحزاب التقليدية، يمكن القول إن كاست هو من «أنقياء» الآيديولوجيا اليمينية المتطرفة التي نهلها من مشاربها الأصلية منذ المراحل الأولى لنشاطه السياسي الذي بدأ بتربيته العائلية، ثم في مرحلة الدراسة الجامعية عندما انضمّ إلى حزب «الاتحاد الديمقراطي المستقل» الذي أنشأه خايمي غوزمان المنظّر العقائدي لنظام بينوشيه والذي اغتالته المعارضة عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ عام 1991، واستمرت لما يزيد على عشرين عاماً في صفوف ذلك الحزب حيث تولّى مناصب عديدة، منها أربع ولايات متتالية كعضو في البرلمان، قبل أن ينشقّ عنه في عام 2016 لاعتباره أن الحزب قد انحرف عن مشروعه الأصلي وتخلّى عن «المبادئ الأخلاقية» التي وضع أسسها الجنرال بينوشيه.

بعد عام واحد على انشقاقه عن «الاتحاد الديمقراطي المستقل»، قرر كاست خوض المعركة الرئاسية، فحصد في انتخابات عام 2017 فشلاً ذريعاً، إذ لم ينل سوى 8% من الأصوات، ليعلن أنه يؤمن بـ«الله والوطن والعائلة»، وأنه سيواصل مسيرته بعزم وإيمان، قائلاً: «لو كان الجنرال بينوشيه على قيد الحياة لكان صوّت لي». وبعد إعلان هزيمته في تلك الانتخابات، توجّه إلى السجن لزيارة ميغيل كراسنوف الذي كان القضاء قد أدانه بالحبس ألف عام (1000 عام) لارتكابه عشرات الجرائم ضد الإنسانية على عهد بينوشيه. وكان كاست، في حملته الانتخابية تلك، اقترح إغلاق الحدود البرية مع بوليفيا لوقف تدفق المخدرات، وتعيين مدرّس للتعليم الديني في المعاهد الرسمية، والعفو عن المعتقلين لأسباب تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان إبان الحكم العسكري.

في عام 2019، أسّس كاست «الحزب الجمهوري» عشيّة اندلاع موجة الاحتجاجات الشعبية والطلابية التي اجتاحت البلاد ضد النظام الليبرالي الجديد الذي كان بدأ يترسّخ في تشيلي. صارت تلك الاحتجاجات تُعرف لاحقاً بالانفجار الاجتماعي، وتصدّت لها الحكومة بقمع شديد أوقع عدداً من القتلى. وعندما أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية للمرة الثانية، في عام 2021، خاض حملته تحت عنوان «استعادة الأمن والنظام ومحاربة الانفجار الإجرامي». ورغم تضمين برنامجه عناوين مثل «اليمين الجديد» و«مواجهة الانهيار الآيديولوجي والمؤسسي»، أو مثل «استعادة دور الثقافة في الحياة العامة»، أعلن من غير مواربة معارضته لزواج المثليين والإجهاض، داعياً إلى إلغاء وزارة شؤون المرأة، والمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، معرباً في إحدى الندوات عن خشيته من أن «امرأة تتحول إلى رجل لتصبح فيما بعد كاهناً».

في الجولة الأولى من تلك الانتخابات، حلّ كاست في المرتبة الأولى حاصداً 28% من الأصوات، لكن في الجولة الثانية، ورغم جنوح خطابه نحو الاعتدال وطرح بعض الطروحات التوفيقية، خسر أمام مرشح اليسار الرئيس الحالي غابرييل بوريتش الذي قال له عندما هاتفه ليل الأحد الفائت للتهنئة: «سوف تشعر بوطأة الوحدة في السلطة». بعد هزيمته الثانية تولّى رئاسة «الشبكة السياسية للقيم»، وهي منظمة تضمّ سياسيين وناشطين يمينيين من أميركا اللاتينية وأوروبا والولايات المتحدة وأفريقيا، يعارضون الحركة النسائية الراديكالية والإجهاض والمساواة بين الأجناس الاجتماعية. وقبل أيام من مغادرته ذلك المنصب، صرّح قائلاً: « أولئك الذين يسخرون منّا في وسائل الإعلام ويصبّون علينا حقدهم في وسائل التواصل الاجتماعي، هم الذين يخافون منّا لأنهم يعرفون أننا لا نتراجع أو نستسلم في الدفاع عن مبادئنا وقيمنا».

من الأسباب الرئيسية التي أدّت إلى هزيمته في محاولته الثانية للوصول إلى الرئاسة، كانت التعبئة الواسعة في صفوف النساء والطلاب، وذلك قبل أن يصبح الاقتراع إلزامياً بموجب القانون اعتباراً من السنة التالية. وقد حرص كاست في حملته الانتخابية الثالثة على عدم التعمّق في طروحاته الآيديولوجية المثيرة للجدل، مثل معارضة الإجهاض وزواج المثليين والدفاع عن النظام السابق (نظام بينوشيه)، الأمر الذي أثار بعض البلبلة في الوسط الديني المتزمت الذي ينتمي إليه ويناصره بقوة. وركّز، في المقابل، على ضرورة تشكيل حكومة طوارئ تتفرّغ في المرحلة الأولى من ولايته لمعالجة الأزمة الاقتصادية، والوضع الأمني، والهجرة، والنمو الاقتصادي المتباطئ منذ سنوات.

كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها فوز كاست في انتخابات الرئاسة التشيلية بعد ثلاثة عقود ونصف على رحيل الجنرال بينوشيه وفي خضمّ التحولات التي تعتمل في شبه القارة الأميركية اللاتينية التي تحوّلت، في غضون أشهر قليلة، إلى إحدى أولويات الإدارة الأميركية. هل تغيّرت الخريطة السياسية في تشيلي؟ هل انتهت المواجهة التقليدية بين أنصار النظام العسكري ومؤيدي الديمقراطية؟ أو بين جلادي ذلك النظام وضحاياه؟ أو هل أن وصول كاست إلى القصر الذي شهد مقتل، أو انتحار، سالفادور الليندي، ليس سوى النتيجة الحتمية لنهاية فصل سياسي ولفشل القوى والأحزاب التقليدية، اليسارية والوسطية واليمينية، في معالجة الأزمات التي بدأت تحاصر إحدى أنجح التجارب السياسية الحديثة في أميركا الجنوبية؟

الإجابة عن هذه التساؤلات لا بد من أن تنتظر تسلّم كاست مهامه أواسط مارس (آذار) المقبل حين سيعلن برنامج حكومته الذي على أساسه ستحدد القوى المعارضة موقفها من العهد الجديد وأساليب مواجهته، لا سيما أن الأصوات التي حملته إلى سدة الرئاسة في الجولة الثانية من الانتخابات، لا تعكس، على الأرجح، ما يتمتع به من تأييد حقيقي، بل هي مرآة للقوى الرافضة التجربة اليسارية الراهنة.

أميركا اللاتينية... اليسار يتراجع

> لم تكرر واشنطن في تشيلي ما فعلته في الانتخابات الرئاسية التي أجريت مؤخراً في هندوراس (لم تُعلن بعد نتائجها الرسمية). في هندوراس تدخلت الإدارة الأميركية مباشرة بشخص رئيسها دونالد ترمب الذي أعلن دعمه المرشح اليميني نصري عصفورة وهدد بعقوبات في حال عدم فوزه، وذهب إلى حد العفو عن الرئيس الأسبق الذي كان يقضي عقوبة بالسجن 45 في الولايات المتحدة بتهمة الاتجار بالمخدرات مع منظمات إجرامية. في المقابل، نأت واشنطن عن أي تدخل مباشر أو غير مباشر في انتخابات تشيلي. كان وراء ذلك سببان رئيسيان، على الأرجح. أولاً، لأنها كانت مرتاحة للنتيجة المتوقعة بفوز خوسيه أنطونيو كاست. وثانياً، لأنها تدرك مدى الحساسية التي يثيرها موضوع التدخل الأميركي في الشأن الداخلي لتشيلي نظراً لسوابق التاريخ غير البعيد، وخشية من ردة فعل معاكسة تقلب موازين القوى.لكن ذلك لم يكن حائلاً دون مسارعة الخارجية الأميركية إلى تهنئة الرئيس المنتخب، معربة عن استعدادها لفتح صفحة جديدة واسعة من التعاون مع تشيلي «من أجل ترسيخ الديمقراطية والأمن ومكافحة الهجرة غير الشرعية والإرهاب المنظم»، كما جاء في بيان رسمي أميركي. وكان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو قد أعرب عن أمله في أن تشيلي، بقيادة خوسيه أنطونيو كاست، «ستدفع باتجاه أولويات مشتركة بين البلدين».أكثر المهللين لفوز كاست كان الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي الذي قال إنها «خطوة إقليمية كبيرة على طريق الدفاع عن الحياة والحرية والملكية الخاصة في شبه القارة». وأضاف ميلي: «أشعر بسعادة غامرة لهذا الفوز الساحق الذي حققه صديقي كاست. إنني على يقين من أننا سنعمل يداً بيد كي نحرر أميركا اللاتينية من نير اشتراكية القرن الحادي والعشرين». وختم تصريحاته بنشره على وسائل التواصل الاجتماعي خريطة لأميركا الجنوبية والبلدان التي يعتبرها حليفة: تشيلي، الأرجنتين، باراغواي، البيرو والإكوادور، تحت عنوان «اليسار يتراجع والحرية تتقدم».وليس مستغرباً أن يكون رئيس الأرجنتين أكثر المهللين لفوز كاست، خاصة أن العلاقات بين البلدين اللذين يتقاسمان أكثر من خمسة آلاف كيلومتر من الحدود البرية تميّزت بعداء ظاهر بين ميلي والرئيس التشيلي غابرييل بوريتش منذ وصول الأول إلى الرئاسة. وأعرب ميلي عن استعداده للمباشرة فوراً بالعمل مع كاست من أجل مكافحة تجارة المخدرات والجريمة المنظمة عبر الوطنية. وكان كاست صرّح خلال الحملة الانتخابية بأنه يرى في ميلي مصدر إلهام ونموذجاً يحتذى لإنهاض اقتصاد تشيلي من ركوده.ولا شك في أن فوز كاست يعزز مطامح الرئيس دونالد ترمب في المنطقة، خاصة بعد الطوق الذي بدأ بفرضه منذ فترة حول النظام الفنزويلي ونشره عشرات القطع الحربية في منطقة الكاريبي تحت عنوان مكافحة الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات. وقد تهافت كل من رؤساء الإكوادور وبوليفيا والباراغواي على تهنئة كاست، معتبرين هم أيضاً أن فوزه يمهّد لبداية عصر جديد في أميركا اللاتينية.الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، ونظيرته المكسيكية كلاوديا شاينباوم، نوّها من جهتيهما بشفافية الانتخابات التشيلية وطابعها السلمي، فيما فاجأ الرئيس الكولومبي غوستافو بترو بتصريح ناري في تعليقه على النتائج قائلاً: «رياح الموت تهبّ من الجنوب والشمال... الفاشية تتقدم، ولن أمدّ يدي أبداً لمصافحة نازي أو ابن نازي. من المؤسف أن بينوشيه وصل بالعنف إلى السلطة، لكن من المؤسف أكثر أن الشعوب الآن هي التي تختار بينوشيه بإرادتها».


واشنطن تُخاطر بالتحوّل من حليف للاتحاد الأوروبي إلى خصم

الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي محاطاً بقادة أوروبيين ومفاوضين أميركيين في برلين يوم 15 ديسمبر 2025 (أ.ب)
الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي محاطاً بقادة أوروبيين ومفاوضين أميركيين في برلين يوم 15 ديسمبر 2025 (أ.ب)
TT

واشنطن تُخاطر بالتحوّل من حليف للاتحاد الأوروبي إلى خصم

الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي محاطاً بقادة أوروبيين ومفاوضين أميركيين في برلين يوم 15 ديسمبر 2025 (أ.ب)
الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي محاطاً بقادة أوروبيين ومفاوضين أميركيين في برلين يوم 15 ديسمبر 2025 (أ.ب)

شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في عهد دونالد ترمب، بولايته الثانية، تحوّلاً نوعياً وعميقاً، انتقلت فيه القارة الأوروبية من موقع الشريك الاستراتيجي التقليدي إلى هدف سياسي معلن في الخطاب الأميركي الجديد. لم يعد البيت الأبيض يقدّم الاتحاد الأوروبي بوصفه ركيزة للنظام الغربي، بل كعبءٍ حضاري وأمني واقتصادي يحتاج إلى «تصحيح» جذري في البنية والسياسات والقيادة. هذا التغيّر في الرؤية لم يبقَ حبيس اللغة الدبلوماسية، بل خرج في الأسابيع الأخيرة إلى العلن عبر تصريحات نارية من واشنطن وتسريبات لأخبار ووثائق أثارت قلق بروكسل.

لم يقتصر التحول في العلاقات الأميركية الأوروبية على تعديل في الأولويات الاستراتيجية، بل امتد ليلامس جوهر العلاقة، حتى أصبحت المجموعة الأوروبية تبدو وكأنها العدو الجديد الذي حّل محل العدو الروسي القديم. هذا ما يظهر من خلال اللهجة العدائية الجديدة التي تبنتها واشنطن تجاه بروكسل. الصدمة كانت شديدة حين صدر تقرير الأمن قومي الأميركي في ديسمبر (كانون الأول) 2025، وعُدّ الأكثر هجوماً تجاه أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة. لم تكتفِ الوثيقة بتقديم القارة العجوز على أنها فضاء هشّ يهدده «الانهيار الحضاري» بفعل أزمات الهجرة وتآكل السيادة الوطنية، بل ذهبت إلى حد اتهام منظومة الاتحاد الأوروبي بتقويض الدولة الوطنية، والتضييق على حرية التعبير. وبهذا، انتقل الخلاف من مستوى السياسات إلى مستوى تصوّر مختلف لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي المرغوب في الغرب.

تجلى العداء أيضاً في لغة غير مسبوقة استخدمها ترمب في المقابلات التلفزيونية والصحافية، ولا سيما في مقابلته مع الموقع الأميركي «بوليتيكو» التي أُذيعت في الثامن من ديسمبر 2025، إذ استخدم فيها عبارات قاسية وغير دبلوماسية لوصف الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه. وأضاف أن أوروبا تتجه في «اتجاه سيئ» وأن سياساتها الحالية في مجالات الهجرة والأمن تضعف القارة بدلاً من تعزيزها.

كما اتهم الرئيس الأميركي القادة الأوروبيين بأنهم «يتحدثون كثيراً ولا يقدمون حلولاً فعلية»، في إشارة واضحة إلى ما يعدّه ضعفاً في الاستجابة للأزمات الأمنية والاقتصادية. هدد ترمب أيضاً بالانسحاب من التزامات الدعم الأوروبي في حالات الطوارئ، مشيراً إلى أن بلاده لن تكون ملزمة بالوقوف إلى جانب أوروبا إذا واجهت تهديداً أمنياً، وهو تصريح وصفه الكثيرون بأنه تصعيد غير مسبوق في تاريخ العلاقات عبر الأطلسي، خاصة بين حلفاء تاريخيين. لكنها ليست المرة الأولى التي تهاجَم فيه المجموعة الأوروبية بهذه الحدّة، فقد سبق أن تبنّى نائب الرئيس الأميركي، جي. دي. فانس، نبرة ساخرة وقاسية تجاه الأوروبيين خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن» في فبراير (شباط) 2025، داعياً أوروبا إلى تحمل المزيد من الأعباء العسكرية في أوكرانيا والتوقف عن «العيش على نفقة» حلف «الناتو»، ومن ثمّ على نفقة الولايات المتحدة.

ردود فعل رسمية غاضبة

تصاعدت نبرة الغضب عند المسؤولين الأوروبيين، بعد مواقف الإدارة الأميركية الأخيرة، وقد تجلّى هذا الرفض في مواقف رسمية وشعبية. حيث انتقد أنطونيو كوستا (رئيس المجلس الأوروبي) الاستراتيجية الأمنية الأميركية الجديدة بشكل مباشر، مُندداً باتهامات «آيديولوجية» حول الرقابة و«الامّحاء الحضاري» لأوروبا. وحذّر من أي محاولة لـ«واشنطن للتدخل في الحياة السياسية الأوروبية» أو التأثير على اختيار الحكومات، مشدداً على أن العلاقات عبر الأطلسي قد «تغيّرت». أما جوزيب بوريل (الممثل الأعلى للشؤون الخارجية) فقد وصف كلام ترمب عن أوروبا «الضعيفة» و«المنحلة» بأنه قريب من «إعلان حرب سياسية». كما أدان بيدرو سانشيز، رئيس الوزراء الإسباني، تصريحات ترمب، قائلاً إن صعود «الترمبية» في جميع أنحاء العالم يمثل تهديداً للديمقراطية، وإن أوروبا يجب أن تظل موحدة في مواجهة هذه الهجمات. كما رفض المستشار الألماني فريدريش ميرتس الانتقادات الأميركية لضعف القادة الأوروبيين، مؤكداً أن ألمانيا لا تزال ملتزمة بحرية التعبير وأن النصائح الخارجية بشأن القيم الديمقراطية غير مرحب بها. وشدد على ضرورة أن تتحمل أوروبا مسؤولية أكبر عن الأمن. أما وزيرة خارجية بريطانيا، إيفيت كوبر، فأكدت أنه رغم خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي، فإن أوروبا تظهر «كقوة» وليس «كضعف»، مستشهدة بزيادة ميزانيات الدفاع والدعم الكبير لأوكرانيا.

وأشار مسؤولون آخرون في الاتحاد إلى أن الخطاب الأميركي أصبح «يتوافق مع رواية الكرملين» ويسعى للتشكيك في صمود الاتحاد. من جانب القوى الكبرى عدّت كل من باريس وبرلين هذا التحول الأميركي تأكيداً لضرورة «الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي» الذي طالما دافع عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وأكدت الحكومة الألمانية أن العديد من الانتقادات الأميركية تستند إلى «آيديولوجيا» لا تحليل استراتيجي.

الرأي العام الأوروبي مستاء

أما على المستوى الشعبي؛ فقد أظهرت بعض الاستطلاعات الأخيرة أن شريحة متزايدة من الأوروبيين أصبحت تنظر إلى الولايات المتحدة، تحديداً في ظل إدارة ترمب، بوصفها «خصماً» أو «عدواً محتملاً»، أكثر من كونها حليفاً موثوقاً. حيث تُظهر استطلاعات الرأي الأوروبية الحديثة تحوّلاً ملحوظاً في المزاج العام تجاه الولايات المتحدة، في ظل الانتقادات المتزايدة الصادرة عن إدارة ترمب بحق أوروبا. فبحسب دراسة للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، لم يعد نصف الأوروبيين ينظر إلى الولايات المتحدة بعدّها حليفاً تقليدياً كما كان الأمر في السابق، بل هي الآن شريك ضروري تحكمه المصالح أكثر مما تجمعه الثقة. وتؤكد استطلاعات «يورو نيوز» ومؤسسة «بيرتلسمان» هذا الاتجاه، إذ يرى نحو 49 في المائة من مواطني الاتحاد الأوروبي أن الولايات المتحدة لم تعد الحليف الأهم لبلدانهم، فيما تؤيد أغلبية واضحة انتهاج سياسة أوروبية أكثر استقلالاً عن واشنطن. كما تكشف بيانات معهد «يوغوف» عن تراجع حاد في الصورة الإيجابية للولايات المتحدة داخل عدد من الدول الأوروبية الكبرى، حيث لا تتجاوز نسبة الآراء الإيجابية ثلث السكان في دول مثل ألمانيا وفرنسا والدول الإسكندنافية. أما استطلاع «لو غران كونتينان» و«كلوستر 17» فيعكس بعداً عاطفياً أكثر حدّة، إذ عبّر أكثر من نصف المستطلَعين عن شعورهم بـ«الإذلال» إزاء السياسات والاتفاقات الأميركية الأخيرة، فيما أبدى سبعة من كل عشرة أوروبيين استعدادهم لمقاطعة المنتجات الأميركية، ورأى نحو 44 في المائة أن الرئيس الأميركي يمثل خصماً لأوروبا لا شريكاً لها. وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى تآكل متسارع في الثقة الشعبية الأوروبية بالشراكة عبر الأطلسي، وتنامي الدعوات إلى إعادة تعريف العلاقة مع الولايات المتحدة على أسس أكثر توازناً، تقوم على الندية والاستقلال الاستراتيجي، بدل الاعتماد التقليدي الذي طبع العلاقات بين الطرفين لعقود.

الملف الأوكراني ومحاولة تهميش الأوروبيين

شكّلت الحرب في أوكرانيا ميداناً عملياً لاختبار عمق التحوّل في النظرة الأميركية إلى أوروبا. فبينما ترى أوروبا أن الدفاع عن أوكرانيا هو دفاع عن أمنها، تميل الإدارة الأميركية إلى التعامل مع الحرب كملف يجب إغلاقه بأسرع وقت ممكن، حتى وإن تطلّب الأمر فرض تسوية تضر بمصالح كييف ودول المجموعة الأوروبية. في هذا السياق كشف تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية نشر في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم عن وجود «ميثاق سرّي» يُقال إن إدارة ترمب بصدّد بلورته بالتعاون مع روسيا، بهدف إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي وتمويل إعادة إعمار أوكرانيا. الخطّة، بحسب الصحيفة، أشبه باتفاق «المال مقابل السلام» ويهدف إلى إنهاء الصراع عبر صفقات اقتصادية ومالية، مع تقليل دور الأوروبيين، الذين تعدّهم واشنطن أطرافاً ثانوية.

ونشرت «وول ستريت جورنال» في تقريرها الذي حمل عنوان «كسب المال، لا الحرب، الخطة الحقيقية لترمب من أجل السلام في أوكرانيا»، تفاصيل اتفاق سرّي مزعوم بين مبعوث واشنطن رجل الأعمال ستيف ويتكوف والمكلف بالاستثمارات الروسية الخارجية كيريل ديمترييف، الذي من المتوقع أن يعتمد على أكثر من 200 مليار يورو من الأصول الروسية المُجمّدة في أوروبا، معظمها في بلجيكا وفرنسا لتسهيل صفقات اقتصادية ضخمة، الهدف منها إعادة إنعاش الاقتصاد الروسي وإمضاء عقود استثمارات أميركية ضخمة في قطاعات استراتيجية روسية. في المقابل، يُنظر في قرض تعويضات بقيمة 45 مليار يورو لأوكرانيا، يتم تمويله من فوائد الأصول الروسية المجمّدة. الأهم هو أن شركات أميركية كبيرة ستستفيد من هذا الاتفاق مثل إكسون موبيل التي ستحصل على حصص في مشاريع طاقة استراتيجية روسية، مثل استخراج الأتربة النادرة، والتنقيب عن النفط في القطب الشمالي. وتشمل المشاريع أيضاً بناء مراكز بيانات ضخمة في أوكرانيا، منها مركز للمعلوماتية في زاباروجيا يعمل بالطاقة النووية.

المخاوف الأوروبية

تسريب تفاصيل هذه الخطّة أثار قلق القادة الأوروبيين، خصوصاً أن هذا المخطّط سيعزز من تعافي روسيا اقتصادياً ويُضعف الاتحاد الأوروبي. كما أن الكشف عن هذه الخطة قد أثار أزمة دبلوماسية مع واشنطن، إذ يرى الأوروبيون أنهم مُهمَّشون تماماً من الصفقة، وأن واشنطن تتعامل مع الأمر وكأنه شأن أميركي - روسي خالص. حيث حذّر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، في كلمة تناقلتها وسائل الأعلام الأوروبية بإسهاب، من أن أي تسوية للحرب في أوكرانيا تسمح لروسيا بإعادة بناء قدراتها العسكرية ستشكّل تهديداً مباشراً لأمن أوروبا. وأكد أن سلاماً لا يقيّد الطموحات الروسية ولا يضمن سيادة أوكرانيا سيكون مجرد هدنة مؤقتة تمهّد لمواجهة جديدة، داعياً الأوروبيين إلى تعزيز قدراتهم الدفاعية والحفاظ على وحدة الصف الأطلسي لمواجهة المخاطر المقبلة.

كما أبدت كايا كالاس، الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، قلقها من أن الخطة الأميركية التي يجري إعدادها، دون مشاركة فعالة من أوروبا أو أوكرانيا، قد تعوق الجهود الدبلوماسية المشتركة وتضعّف موقع الاتحاد الأوروبي في مفاوضات السلام المُرتقبة.

اعتراضات قانونية

كما تواجه الخطة الأميركية الهادفة إلى توظيف الأصول الروسية المجمدة في البنوك الأوروبية لدعم أوكرانيا اعتراضات قانونية متزايدة داخل عدد من دول الاتحاد الأوروبي وبالأخص من قبل فرنسا وألمانيا.

جوهر الإشكال يكمن في أن تجميد الأصول لا يعني قانونياً مصادرتها. فالقوانين الدولية والأوروبية تميّز بوضوح بين إجراء احترازي مؤقت يمنع التصرف في الأموال، وبين نزع الملكية أو تحويلها إلى طرف ثالث، وهو ما يتطلب أساساً تشريعياً أو قضائياً صريحاً. كما تصطدم الخطة بمبدأ الحصانة السيادية للدول، الذي يحمي أصول الدول والبنوك المركزية من المصادرة، حتى في حالات النزاع. وتخشى عدة عواصم أوروبية أن يشكّل تجاوز هذا المبدأ سابقة خطيرة قد تقوّض الثقة في النظام المالي الأوروبي وتعرّض أصولها السيادية مستقبلاً لمخاطر مماثلة. اضافة إلى ذلك، تبرز قيود قانونية وتقنية على المؤسسات التي تحتفظ بهذه الأصول، مثل شركات الإيداع المالي، والتي تلتزم بقوانين صارمة تمنعها من استخدام الأموال أو تحويلها دون غطاء قانوني واضح، تفادياً للمساءلة القضائية.

محاولات أميركية لتفكيك الاتحاد من الداخل

وما يزيد من قلق العواصم الأوروبية هو الشكوك المتنامية حول وجود أجندة موازية سرية للإدارة الأميركية تهدف إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي. فبحسب ما أورد موقع «ديفنس وان» الأميركي المتخصّص في الشؤون الدفاعية، فإن النسخة غير المنشورة من الاستراتيجية الوطنية للأمن القومي تتضمن توجيهات تُركّز على تعزيز العلاقات الثنائية مع أربع دول أوروبية هي النمسا، وإيطاليا، والمجر، وبولندا. وتكشف الوثيقة، تحت شعار مستحدث هو «لنجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى»، عن دعوة كرّستها الإدارة الحالية، تقضي بـ«سحب» هذه الدول بعيداً عن تأثير الاتحاد الأوروبي وتقريبها من واشنطن، مستغلةً النزعات القومية والشعبوية الصاعدة في هذه الدول التي يُنظر إليها على أنها الأكثر استعداداً لتبني خطاب يتناغم مع خطاب ترمب، بشكل أفضل، مع الإشارة تحديداً إلى إيطاليا. تنظر بروكسل إلى هذا المخطط على أنه محاولة لتقويض الوحدة الأوروبية من خلال دعم التيارات المناهضة للاندماج الأوروبي. حيث يتحوّل الخلاف عبر الأطلسي إلى عامل من عوامل التفكك الداخلي في الاتحاد، بدلاً من أن يكون حافزاً لتماسكه كما كان الحال خلال الحرب الباردة. وإذا استمر الخطاب الأميركي في التعامل مع أوروبا بوصفها «شريكاً فاشلاً»، فإن الفجوة عبر الأطلسي ستتسع، وربما تتحول إلى شرخ بنيوي، بحسب ما ترى بروكسل.

التركيز الأميركي ينصبّ على إيطاليا... فما السبب؟

تركز واشنطن مساعيها الأوروبية حالياً على إيطاليا، نظراً لعدة عوامل استراتيجية وسياسية. فهناك أولاً موقعها الجغرافي والسياسي داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تعد واحدة من الدول الكبرى من حيث عدد السكان والاقتصاد داخل الاتحاد. لذلك فإن أي تغيّر في موقفها تجاه بروكسل يمكن أن يؤدّي إلى ارتدادات مهمة في السياسة الأوروبية، إضافة إلى التقارب الآيديولوجي بين بعض قطاعات السلطة الإيطالية والإدارة الأميركية الحالية، حيث تظهر العلاقات بين روما وواشنطن، لا سيما بين قادة سياسيين في إيطاليا وحلفاء في الولايات المتحدة، انسجاماً في عدد من القضايا، حيث يوجد بشكل واضح تقارب آيديولوجي بين حزب «إخوة إيطاليا» الذي تتزعمه رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، والقيم السياسية التي يروّج لها دونالد ترمب. ويقوم هذا التقاطع أساساً على خطابٍ محافظ يركّز على السيادة الوطنية، ورفض توسيع صلاحيات المؤسسات فوق الوطنية، إضافة إلى التشديد على ضبط الهجرة والدفاع عما يُسمّى «الهوية الثقافية» و«القيم التقليدية». كما يشترك الطرفان في نظرة نقدية تجاه النخب الليبرالية والمؤسسات البيروقراطية، سواء في بروكسل أو في واشنطن، عادّين أن هذه النخب ابتعدت عن هموم الطبقات الشعبية. كل هذا يعزّز رغبة واشنطن في استخدام إيطاليا بوصفها نموذجاً لشراكة ليست مؤسسية فقط، بل آيديولوجية أيضاً. وقد تكون الظروف الداخلية في أوروبا بين الولاء المؤسسي للاتحاد ورغبات قومية أكثر استقلالية، كما هو الوضع في إيطاليا، هي فرصة لواشنطن لتعزيز قواسم مشتركة مع قادة إيطاليين حول «السيادة الوطنية»، فلئن كانت جورجيا ميلوني قد حاولت تحقيق نوع من التوازن بين ولائها لبروكسل وواشنطن، فإن شخصيات أخرى قريبة منها، كماتيو سالفيني، لم تتردّد في التعبير عن الإعجاب بالرئيس الأميركي، حيث صرّح سالفيني، عقب فوز ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية نهاية العام الماضي، بأنه سيرتدي ربطة عنق حمراء طوال أربع سنوات، تعبيراً عن تقديره واحترامه لسيد البيت الأبيض الجديد.