أمل دنقل... التمرد على السائد والمغامرة الجمالية

بعد 35 سنة على غيابه

أمل دنقل
أمل دنقل
TT

أمل دنقل... التمرد على السائد والمغامرة الجمالية

أمل دنقل
أمل دنقل

إذا كان الزمن هو الناقد الأهم والعامل الحاسم في الحكم على نتاج الشعراء والمبدعين، فإن المرء لا يجافي الحقيقة بشيء إذا اعتبر أن أمل دنقل هو أحد الشعراء القلائل الذين نجحوا في امتحان الزمن، وتمكنت نصوصهم من الرسوخ بثبات في ذاكرة القراء والمتابعين على المستويين المصري والعربي. ففي حين كان النسيان جاهزاً لتلقف العشرات من مجايلي الشاعر، فإن العشرات من نصوص أمل دنقل، الذي رحل في مثل هذه الأيام قبل ثلاثة عقود ونصف العقد، لا تزال نابضة بالحياة وقادرة على الإفلات من أسر اللحظة العابرة لمعاينة عراك الإنسان، العربي بوجه خاص، مع نفسه من جهة، ومع محيطه وسلطاته القامعة وقدره المأساوي من جهة أخرى. على أن قدرة دنقل على مقارعة النسيان لم تتوفر بفعل موهبته العالية وحدها، بل بفعل عوامل عدة، من بينها إخلاصه التام لهذه الموهبة، وتعهده لها بالكدح والاطلاع، وصدقه النادر في علاقته بنفسه وبالآخرين، إضافة إلى اندفاعته الضارية باتجاه الحياة، ورفضه الحاسم لعقد الصفقات المادية والأخلاقية مع سلطة الأمر الواقع، أو للتنازل عن كل ما يتعلق بالحرية والعدالة وكرامة الإنسان.
لم تكن شخصية أمل دنقل من جهة ثانية لتتسم بالمرونة واللين وتدوير الزوايا، ولا كان صاحبها قابلاً للانصياع للأعراف والتقاليد السائدة، بل ظل طيلة حياته مخلصاً لنزاهته وصدقه وصوته الداخلي. ورغم أنه انخرط بكليته في عوالم القاهرة وطقوسها المدينية وصراعات مجتمعها الثقافي، فإن ميله الجارف إلى الصعلكة والتسكع وارتياد الحانات والمقاهي لم يستطع أن يقتلعه من جذوره الصعيدية التي أصَّلت في داخله قيم الفروسية والشهامة والكرم والحدب على الآخرين. على أن صاحب «تعليق على ما حدث» لم يكن ليقيم في الوسط من أي شيء، ولا ليقبل بأنصاف الصفات والحلول، بل يوثر الذهاب إلى تخوم الأضداد، حيث يلتقي النزق مع الخجل الريفي، واللسان السليط مع القلب المنفطر، والعدائية الفظة مع البكاء المكتوم والدموع الخرساء. ولعل أفضل بورتريه عاكس لظاهر أمل وباطنه هو ذلك الذي قدمته حبيبته ورفيقة سنيّه الأخيرة عبلة الرويني في كتاب «الجنوبي»، حيث تشير إلى تناقضاته السلوكية بالقول: «استعراضي يتيه بنفسه في كبرياء لافت للأنظار. بسيط بساطة طبيعية يخجل معها إذا أطريته وأطريت شعره... صخري شديد الصلابة لا يخشى شيئاً ولا يعرف الخوف أبداً، لكن من السهل إيلام قلبه». أما إشارة الرويني إلى انفعالية زوجها وميله إلى المشاحنات الحادة والعراك الجسدي، فقد عاينتها بشكل مباشر أثناء سهرة جامعة أقامها أحد الكتاب في بيروت بمناسبة انعقاد «ملتقى الشقيف الشعري» في أوائل الثمانينات، حيث تعارك أمل مع أحد شعراء العراق المعروفين بعد أن عمد هذا الأخير إلى اتهام المصريين بالمساومة، والتفريط بحقوق الفلسطينيين. فأمل الذي لم يستسغ آنذاك تجاهل البعض للتضحيات الجسيمة التي قدمها آلاف المصريين على مذبح القضايا العربية المختلفة لم يستطع أن يدافع عن كبريائه الجريح بغير ذلك النوع من العنف اللفظي والجسدي.
لم يبتعد أمل دنقل عن الموضوعات الوطنية والقومية التي تناولها العديد من أترابه الذين عُرفوا اصطلاحاً بجيل الستينات، والذين وجدوا أنفسهم ممزقين بحكم الظروف العربية الصعبة بين الذهاب بمغامرة الحداثة حتى تخومها الرؤيوية والجمالية، وبين اعتبار الشعر أداة فعالة من أدوات التغيير السياسي والاجتماعي. ولعل هذا الارتباك بين المفهومين قد عكسته بشكل جلي مجلة «الآداب» البيروتية، كما دار «الآداب»، اللتان احتفتا في الآن ذاته بفكرة اللا منتمي عند كولن ولسون وبمبدأ الأدب الملتزم عند جان بول سارتر. ومع أن دنقل قد انحاز بشكل واضح إلى فكرة الالتزام في الأدب وإلى تقليص المسافة التي تفصل الشعر عن جمهوره، إلا أنه حرص كل الحرص على ألا يتم ذلك على حساب القيمة الإبداعية والجمالية للنص. وإذا كان عمله الأول «مقتل القمر» لا يختلف عن النصوص السائدة في زمنه، رغم ما فيه من إرهاصات تعبيرية وصورية واعدة، فقد أخلد الشاعر إلى الصمت سنوات عدة ليخرج بعدها بمجموعته المتميزة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» التي بدت بعض نصوصها إرهاصاً واضحاً بهزيمة يونيو (حزيران)، وبفقدان الجدوى من أي تغيير في ظل مازوشية الأمة الجمعية والاستسلام التلقائي لأنظمة القهر والاستبداد. وهو ما تعكسه بوضوح قصيدة «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» التي يخاطب فيها الشاعر «قيصر الصقيع» قائلاً: «يا قيصر العظيم: قد أخطأتُ / إني أعترفْ / دعني على مشنقتي ألثم يدكْ / ها أنذا أقبّل الحبل الذي في عنقي يلتفْ فهو يداكَ / وهْو مجدك الذي يجبرنا أن نعبدكْ... يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان بانحناءْ / لا تحلموا بعالم سعيدْ / فخلف كل قيصرٍ يموت قيصرٌ جديد». وبعد وقوع الهزيمة بأيام معدودة يكتب أمل في القصيدة التي جعلها عنواناً لمجموعته «أيتها العرافة المقدسة / ماذا تفيد الكلمات البائسة؟ قلتِ لهم ما قلت عن قوافل الغبارْ / فاتهموا عينيك يا زرقاء بالبوارْ / وحين فوجئوا بحد السيف / قايضوا بنا / والتمسوا النجاة والفرارْ».
ثمة نبرة من المرارة وخيبة الأمل تطل من وراء كل قصيدة كتبها أمل دنقل بعد الهزيمة. ففي مجموعته اللاحقة «تعليق على ما حدث»، يتنقل الشاعر في أزقة مدينته الكبرى، فلا يسمع سوى نشيج البشر التائهين فوق أزقة الفقر والخنوع والإذلال، حيث الماء يسقط دماً في الصنابير، والنيل يبحث عن أوراقه الثبوتية لكي يُسمح له بالجريان، والشاعر المنكفئ إلى داخل نفسه يتوق إلى الصراخ ضد ما يحدث فيصاب بالرعب مخافة أن يحمل الصدى نداءه إلى «الهوائيات فوق أسطح البيوت». أما «العهد الآتي»، فتشكل من حيث التكثيف الدلالي والنضج المعرفي وتوظيف التراث الإنساني واحدة من أفضل مجموعات الشاعر وأكثرها تمثيلاً لمهاراته وتحولاته المتسارعة. فالشاعر إذ يستعير من النص الديني بعض رموزه ومفاتيحه اللغوية والأسلوبية يبدو وكأنه يعيد على طريقته كتابة هذا النص من منظور التاريخ الفعلي، لا من منظور المثاليات المجردة. وهو تبعاً لذلك يقدم لقرائه إصحاحات ومتواليات حوارية تجسد رؤيته إلى واقع البشر وحقيقتهم الصادمة: «قلت: فليكن العدل في الأرض / عينٌ بعينٍ وسنٌّ بسنْ / قلت: هل يأكل الذئب ذئباً أو الشاة شاة / ولا تضع السيف في عنق اثنين: طفلٍ وشيخ مسنْ / ورأيت ابن آدم يردي ابن آدم / يشعل في المدن النار / يغرس خنجره في بطون الحوامل / يلقي أصابع أطفاله علفاً للخيول / يقص الشفاه وروداً تزيّن مائدة النصر... وهي تئنْ». ولم يفت الشاعر بالمقابل الإفادة من المرويات والسير الشعبية المتغلغلة في وجدان العرب من محيطهم إلى خليجهم، بغية الحث على مواجهة الظلم والانتصار للحقوق المغتصبة والدم المراق. وهو ما عكسته قصيدته الملحمية «أقوال جديدة عن حرب البسوس» التي أثبت فيها الشاعر مرة أخرى أن ما يحدد قيمة العمل الفني ليس موضوعه بل قدرة صاحبه على رفده بطاقة المغايَرة، والتأويل، وشحنات التوهج الإبداعي. وما زلت أذكر حتى الآن تلك اللحظات المؤثرة التي صعد فيها أمل دنقل، متكئاً بسبب المرض على عصاه، إلى منبر الشعر في الذكرى الخمسين لغياب شوقي وحافظ، حتى إذا شرع بالقراءة وعاين بالملموس حب جمهوره له استعاد حيويته المعروفة، وهو يردد بلسان كليب مخاطباً أخاه المهلهل قبل أن يلفظ أنفاسه: «لا تصالحْ ولو منحوك الذهبْ / أتُرى حين أفقأ عينيك / ثم أثبّت جوهرتين مكانهما هل تَرى؟ هي أشياء لا تُشترى... إنها الحرب ُقد تُثقل القلب لكن خلفك عار العربْ لا تصالح ولا تتوخّ الهربْ».
في عمله الأخير «أوراق الغرفة رقم 8» الذي كتبت معظم نصوصه في المستشفى، تبلغ تجربة أمل ذروة شفافيتها ونقائها التعبيري والروحي. ليس ثمة من مكان هنا للغة الصاخبة والغضب من تردي الواقع، بل تصفية حساب مع الحياة، واستعداد للعبور إلى الضفة الأخرى. والكتابة هنا تشتغل على خط الدمج بين مصير الكائن الفرد وبين المآلات المماثلة للأشياء والكائنات، كما في قصائد «الخيول» و«الطيور» و«الزهور» التي تهدى إلى المرضى، وتحمل «اسم قاتلها في بطاقة». وإذا كان ثمة شبه واضح بين تجربتي المرض لدى بدر شاكر السياب وأمل دنقل، إضافة إلى شبه آخر في الشكل والملامح، فإن الثاني مدفوعاً بأنفة وكبرياء نادرين لا يحول معاناته إلى فرصة للنواح والتفجع وطلب الاستغاثة، بل إلى أسئلة ممضة عن مغزى وجودنا العابر على الأرض. وحتى في قصيدته «ضدّ من» لا يكتفي بالإشارة إلى ما يعتمل في داخله من حرقة النفس ووهن الجسد، بل يشير إلى المفارقة الملغزة بين بياض أماكن الموت وسواد التعبير عن حضوره «لون الأسرة / أربطة الشاش والقطن / قرص المنوّم / أنبوبة المصل / كوب اللبنْ / كلّ هذا البياض يذكّرني بالكفنْ / فلماذا إذا متّ يأتي المعزّون متّشحين بشارات لون الحدادْ / هل لأن السوادْ هو لون النجاة من الموت / لون التميمة ضدّ الزمنْ / ضدّ مَنْ؟ ومتى القلب في الخفقان اطمأنْ؟».
لا بد أخيراً من طرح السؤال الذي طالما طرحه المختصون والنقاد على أنفسهم: هل حالت السياسة والالتزام بقضايا الوطن والأمة دون ذهاب أمل دنقل بعيداً في مغامرة الكتابة؟ وإذا كنت أجيب من زاويتي الشخصية بالنفي فليس من باب المجاملة، والشاعر لم يعد بيننا اليوم، بل لأن موهبة أمل المتوقدة وانصهاره الوجداني بموضوعاته وقراءته العميقة للتاريخ قد أسهمت جميعها في النأي بتجربته عن التقريرية والمباشرة والشعارات الطنانة، وأتاحت لشعره أن يوائم بين الحفر المعرفي والرؤيوي من جهة، وبين براعة التأليف الماكر والقدرة على الإدهاش من جهة أخرى. كما أن هجوم أمل الضاري على الحياة والتحامه بورودها وأشواكها، أبعد شعره عن الافتعال والتجريد الذهني، ووفر له مروحة واسعة من المرئيات والتفاصيل والحواريات السردية التي ترسم للبشر المتعبين ملامحهم وهواجسهم وتلاحق مصائرهم إلى محطاتها الأخيرة. إنه شعر حواس وروائح ومذاقات وأخلاط وغرائز ورغبات طازجة وشقاوات وآلام، بقدر ما هو شعر ارتطام شبقي بالعالم وكائناته وأشيائه. إضافة إلى كل ذلك ثمة قدرة لافتة على التجريب والمغامرة الشكلية التي تجعله يضع نصين متوازيين على صفحة واحدة، أو يستثمر على إيقاعات البحور وجوازاتها وشطورها بما يعصم النص من الرتابة والتنميط الأسلوبي. وهو يلح على استخدام الرجز لأن هذا البحر يتيح أكثر من سواه التعبير عن خلجات النفس وتوتراتها، بعيداً عن التطريب والإنشاء العاطفي الصرف. كما يُظهر الشاعر براعة استثنائية في اجتراح التناظرات الدقيقة بين الجمل واختيار القوافي الساكنة ذات الرنين الصوتي المتناغم. أما المعيار الأهم للحكم على شاعرية أمل دنقل فيتمثل في تجاوزها بنجاح لامتحان الزمن، بحيث يمكن لنا أن نقرأها مرات ومرات دون أن يفارقنا الشعور الغامر بمتعة القراءة أو لذة الاكتشاف.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.