انقسام في إيران حول قائمة أمنيات بومبيو

المواجهة غير محسومة بين «صقور» تحدي واشنطن و«عمليي» التراجع التكتيكي

انقسام في إيران حول قائمة أمنيات بومبيو
TT

انقسام في إيران حول قائمة أمنيات بومبيو

انقسام في إيران حول قائمة أمنيات بومبيو

للوهلة الأولى، تبدو «خريطة الطريق» الجديدة لإيران التي كشف عنها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أشبه بوصفة لتغيير النظام في طهران. هذه النظرة وجدت صدى اتخذ شكل تعليقات مبدئية صدرت عن الاتحاد الأوروبي على قائمة بومبيو التي تضمّنت 12 مطلباً، والتي عرضها في مؤسسة «هيريتيدج فاونديشن» بواشنطن. فوزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون ومسؤولة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني يزعمان أنه بتخطي حدود الاتفاق النووي الإيراني المثير للجدل، قد ينفذ بومبيو أجندة خفية ضد النظام الإيراني.
هذا الزعم ليس خيالياً، فبومبيو ومستشار الرئيس الأميركي الجديد للأمن القومي جون بولتون مناديان بتغيير النظام منذ أكثر من عقدين من الزمان.
لكن نظرة أقرب على خريطة طريق بومبيو قد تكشف نهجاً أكثر تطوراً.
لقد حاول وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ربط المسألة النووية مع المسألة الأوسع، وهي سلوك إيران الذي يمس مصالح الولايات المتحدة وحلفاءها. وليس من الصعب تخمين السبب وراء ذلك النهج. فإن لم تكن الجمهورية الإسلامية تهدد تلك المصالح، فلن يهم ما إذا كان لديها برنامج نووي أم لا، أو حتى إن كانت تمتلك أسلحة نووية أم لا. فالمطالب الأربعة الأولى التي طرحها بومبيو تتعلق بمشروع إيران النووي، وهي بالفعل تأتي تحت غطاء الاتفاق النووي الذي صاغه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
- مطالب بومبيو
المطلب الأول يلزم إيران بإبلاغ «وكالة الطاقة الذرية» بجميع أوجه النشاطات العسكرية لمشروعها، وهو بالفعل ضمن بنود معاهدة «حظر الانتشار النووي» التي تعد إيران أحد الأطراف الموقعة عليها. وبعدم المطالبة بذلك خلال مرحلة مفاوضات الاتفاق النووي، المعروفة باسم «خطة العمل المشتركة» (JCPOA)، أسهم أوباما في إضعاف اتفاقية «حظر الانتشار النووي». ويريد بومبيو أن يصحح ذلك الخطأ ويعيد الزخم إلى الاتفاقية بعدما فقدته بسبب دبلوماسية أوباما غير الحكيمة.
كذلك فإن مطلب بومبيو الثاني بوضع حد لبرنامج تخصيب اليورانيوم ووقف بناء مفاعل جديد للبلوتونيوم، يجب أن يكون من السهل لإيران قبوله، شريطة ألا تخفي أجندة سرية بهدف إنتاج أسلحة نووية. ويشير الباحث الإيراني همايون نقيبي إلى أنه «ليس لإيران حتى الآن استخدامات لليورانيوم الذي تقوم بتخصيبه بدرجات أقل من 5 في المائة... وأن التوقف عن عمليات التخصيب كلها لن يتسبب في ضرر يذكر لأي من أوجه الاقتصاد الإيراني». وفيما يخص إنتاج البلوتونيوم، فقد أعدت إيران خططاً لإنشاء مفاعل لإنتاج الماء الثقيل ودخلت في مفاوضات مع الصين لإعادة تصميم مفاعل أراك البعيد تماماً عن أي استخدامات عسكرية. ولتأكيد ذلك، طالب بومبيو بتجميد عمل مفاعل أراك على الرغم من أن إيران تعمل على استخدامه في أغراض غير عسكرية. ومع هذا، لا يعد الوصول إلى حل وسط في شأن هذا المفاعل أمراً مستبعداً تماماً.
وبالنسبة لمطلب بومبيو الثالث المتمثل بسماح إيران لمفتشي «وكالة الطاقة الذرية» بالذهاب إلى أي مكان يرونه ضرورياً، تضمنه وتصونه قوانين الوكالة واتفاقية «حظر الانتشار النووي»، فإن بومبيو يريد أن يستعيد الشكل القانوني في التعامل مع إيران. ذلك أن أوباما كان قد خالف قوانين الوكالة ونصوص الاتفاقية، و«اخترع» صيغة رخوة يمكن من خلالها لإيران والوكالة أن توافق على المواقع الواجب تفتيشها.
ونصل إلى مطلب بومبيو الرابع، وهذا المطلب هو أن تتوقف إيران عن تطوير الصواريخ الباليستية وإنتاج صواريخ قادرة على حمل رؤوس حربية نووية. هنا يجب أيضاً ألا يكون الالتزام صعباً. إذ أعلنت إيران على الملأ تجميد مشروع الصواريخ التي يتخطى مداها 2400 كلم. والواقع أنه سيكون لتلك الصواريخ معنى إن كان هذا الحمل نووياً أو كيماوياً، ذلك أن حمل 675 كيلوغراماً من مادة «تي إن تي» العادية لما هو أبعد من أرض المعركة لن يكون ذا معنى من الناحية العسكرية. هنا أيضاً قرر أوباما أن ينظر في الاتجاه الآخر بأن يترك الباب مفتوحاً لكل التكهنات فيما يتعلق بنيات إيران النووية لتطوير صواريخ لها معنى فقط إذا كانت ضمن إطار الاستراتيجية النووية. وبالتالي، سيزيل مطلب بومبيو كل الغموض لما فيه صالح جميع الأطراف.
أيضاً مطلب بومبيو الخامس، الداعي للإفراج عن الرهائن الأميركيين وحلفائهم، ليس بالمطلب الغريب ولا هو صعب التنفيذ. حتى الآن هناك 32 رهينة قيد الاعتقال، لم يصدر بحق أي منهم أي اتهام ولم يدن أحدهم. و10 منهم على الأقل مواطنون أميركيون وبريطانيون كانوا من أنشط المتحمسين لإيران الخمينية في أميركا وبريطانيا. بل ومن بين هؤلاء مؤسسو «المجلس الوطني الإيراني - الأميركي» (ناياك)، وهو جماعة ضغط أسستها إيران وتمولها وهدفها الالتفاف على العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وبحسب منوشهر رضائي، وهو رجل أعمال ساعد جماعات الضغط الإيراني في الولايات المتحدة وبريطانيا، فإن «بومبيو يطالب طهران بالإفراج عن جماعات ضغطها الخاصة».
- وقف دعم حزب الله
يتعلق مطلب بومبيو السادس «بوقف الدعم الإيراني للجماعات الإرهابية» مثل الفرع اللبناني لـ«حزب الله»، وجماعة «الجهاد الإسلامي» في فلسطين و«حماس». وهنا أيضاً فإن اتهام الولايات المتحدة بانتهاج سلوك «إمبريالي» ليس في محله، فبومبيو يطالب ما سبق أن طالب به مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي مراراً وتكراراً بعدما حددوا الجماعات سالفة الذكر بالاسم «جماعات إرهابية». وحتى لو لم يقل بومبيو أي شيء في هذا الصدد، فإيران، بوصفها عضواً في الأمم المتحدة، كان من الواجب عليها التوقف عن دعم تلك الجماعات.
أما بالنسبة لمطلب بومبيو السابع فقد يكون ماضياً في سبيله للتنفيذ بفضل التطورات نفسها في العراق، وهي تطورات خارجة عن سيطرة إيران. ففي الانتخابات العامة الأخيرة، صوّت العراقيون للاستقلال، بأن ألحقوا هزيمة نكراء بالأحزاب والجماعات والشخصيات المنصاعة لإيران. وبحسب المراسل الصحافي علي جوانمردي، هرب الجنرال قاسم سليماني، الرجل المسؤول عن «تصدير الثورة» من بغداد تحت جنح الظلام بعدما فشلت مهمته في تشكيل تحالف مساند لطهران. ولخوفه على سلامته، آثر الفرار إلى السليمانية، حيث ثمة جماعة كردية مؤيدة لطهران وجد عندها الملاذ الآمن. لقد تراجعت طهران عن نهجها العدائي القديم تجاه نتائج الانتخابات العراقية التي وضعت التيار الذي يقوده مقتدى الصدر على رأس قائمة الفائزين. وفي غضون 24 ساعة، توقف الهجوم الإعلامي على الصدر، ويوم الثلاثاء قدم إيرج مسجدي، السفير الإيراني في بغداد، التحية للصدر بوصفه قائداً عظيماً يستحق الاحترام.
ومن ثم، مهما حدث لفرصة الأزمة التي خلقها بومبيو، فهناك شيء واحد مؤكد، هو أن العد التنازلي لتلاشي النفوذ الإيراني في العراق بدأ بالفعل. أما فيما يتصل بنزع أسلحة الميليشيات العراقية، فهذه ستكون إحدى المهام الأساسية للحكومة المقبلة في بغداد، لا سيما أن كل المكونات المطلوبة للتحالف المستقبلي أعلنت التزامها بها.
- الموضوع اليمني
مطلب بومبيو الثامن، هو وضع حد نهاية لدعم المتمردين الحوثيين في اليمن. ويلقى هذا المطلب الدعم في إيران نفسها. وبحسب مصادر في إيران وفي الاتحاد الأوروبي، فإن تقليص الدعم للحوثيين كان أحد المغريات التي قدمها وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف إلى نظرائه في الاتحاد الأوروبي خلال الاجتماع الذي عقد بداية الشهر الحالي في بروكسل. فـ«الخطة» الإيرانية المقترحة تعتمد جزئياً على خطة أعدها وزير الخارجية البريطاني السير آلان دانكان والكويت على مدار عام مضى.
- الانسحاب من سوريا
مطلب بومبيو التاسع هو أن تبادر إيران إلى سحب قواتها من سوريا، وهو المطلب الذي يلقى حالياً الدعم من روسيا - على الأقل ضمنياً - وستجد دول الاتحاد الأوروبي صعوبة في معارضته. وقد تعترف إيران في مرحلة ما بأن «مشروعها الكبير» لسوريا لن يتحقق، وأن لا فائدة ترجى من الإبقاء على تلك القوات، حيث الهيمنة دون غطاء جوي، وإلا ستكون صيداً سهلاً لأي هجوم جوي. لقد كان مطلب الانسحاب من سوريا أحد أكثر الشعارات شعبية التي تغنى بها ملايين المحتجين المناهضين للنظام في أكثر من 150 مدينة إيرانية منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وبالتالي، بالرحيل عن سوريا، فإن المؤسسة الخمينية ستتمكن من نزع سلاح بعض المنتقدين داخل إيران. ثم إن نقص المال عنصر متنامي الأهمية في هذا الشأن، إذ تجد إيران مصاعب متزايدة بتحمل أكلاف الإبقاء على 80 ألف مقاتل ميليشياوي ومرتزق من لبنان وأفغانستان وباكستان في لعبة تتحكم فيها روسيا والولايات المتحدة.
- المطلبان الأخيران
المطلبان الأخيران اللذان قدمهما بومبيو غامضان وعموميان، وليس من الصعب الالتفاف حولهما. فإن مساندة إيران لطالبان في أفغانستان كانت مؤقتة ومتقطعة. وآخر عملياتها في منطقة فراه الأفغانية المتاخمة لإيران هدفت إلى إثارة القلاقل رداً على قرار كابل تقليص حصة إيران من الماء الوارد إليها من نهر هلمند. وهناك أيضاً مطلب توقف إيران عن تهديد إسرائيل بالإبادة والكف عن شن الهجمات الصاروخية (عبر الحوثيين) على المملكة العربية السعودية. وأيضاً مطلب تهدئة الهجوم الإعلامي على إسرائيل، وهو ليس بالمطلب الصعب، وتكرر في كثير من المناسبات في الماضي. أما بخصوص الهجمات الصاروخية على السعودية، فإن قرار وقف مساندة الحوثيين سيحقق ذلك الهدف.
- الموقف من إيران نفسها
ولكن، الأخبار السارة بالنسبة للمؤسسة الخمينية والسيئة لخصومهم داخل إيران هي أن قائمة أمنيات بومبيو لم تذكر شيئاً عن حقوق الإنسان، أو حتى نهاية للقمع داخل إيران. ويظهر هذا، على النقيض من كل المزاعم، أن بومبيو حقاً يسعى إلى تغيير سلوك طهران فيما يخص عدداً من قضايا السياسة الخارجية، ولا يهدف إلى تغيير النظام. وهو بتنفيذ ذلك، فإنه ينهي سياسة أوباما الداعمة بقوة للنظام في إيران ولكن من دون أن يعد بتدخل أميركي مباشر في صراع القوى في إيران. ومع بعض الفوارق، فإن هذا بالضبط ما قدّمه الرئيس دونالد ترمب إلى الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون. ولقد كان كيم حكيماً، أو على الأقل حسن الصرف، في قبوله العرض. ولذلك دعونا ننتظر لنرى ما سيفعله المرشد الأعلى علي خامنئي، المعجب بكوريا الشمالية، بعد تلقيه العرض نفسه.
التخمين الأفضل للوضع الراهن هو أن يحاول علي خامنئي تهدئة خاطر الأميركيين وتبريد الأمور هذه الفترة بدلاً من اللجوء إلى الاستفزاز ودفعهم باتجاه اتخاذ خطوة أشد ضد نظامه. وهذا ما يلوح لدى مراجعة عدد من البيانات والتعليقات الرسمية رداً على تحدي بومبيو ونقاطه الـ12.
إذ سعت افتتاحية نشرتها وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا) يوم الأربعاء، إلى طمأنة كل من الولايات المتحدة وإسرائيل بأن القوات الإيرانية الموجودة في سوريا ولبنان، بما فيها ميليشيا حزب الله «لن تتحرك ضد أيٍ كان، ما لم تتعرض لهجوم يشن عليها». بكلام آخر، فإن اتفاق وقف إطلاق النار الذي عقد مع إسرائيل بوساطة فرنسية عام 2006 ما زال ساري المفعول بما يخص إيران والميليشيات التابعة لها. ولكن من أجل تسويغ وقف إطلاق النار هذا، زعمت الافتتاحية «أن النظام الصهيوني ينزلق نحو الانهيار» وهو «زائل لا محالة في المستقبل»، وعليه لا حاجة لإيران أن تأخذ أي إجراء عسكري.
المعزوفة نفسها عزفها الجنرال يحيى رحيم صفوي، القائد السابق للحرس الثوري وكبير مستشاري خامنئي العسكريين حالياً، إذ قال في كلمة ألقاها في مدينة خرّمشهر (المحمّرة) يوم الثلاثاء الماضي: «نحن موجودون في العراق وسوريا فقط كمستشارين، ولا نشارك في أي نوع من النشاط الميداني»، وأردف: «لا تشمل مهامنا الاستراتيجية أي تحرك عدواني».
وفي الاتجاه نفسه، ولكن إزاء اليمن وأفغانستان هذه المرة، تسير صحيفة «كيهان»، المعبّرة عن مواقف خامنئي. إذ جاء في افتتاحية الصحيفة يوم الأربعاء الماضي قولها: «لقد قلنا وكررنا دائماً أن الحل في اليمن لا يمكن إلا أن يكون سياسياً. والادعاء أن إيران تدعم حركة طالبان مثير للسخرية... بكل بساطة».
ولكن من جانب آخر، هناك أصوات تحث القيادة في طهران بصورة أكثر مباشرة وصراحة على إيجاد صيغة تفاهم مع الولايات المتحدة «بدلاً من السير باتجاه فخ المواجهة». من هذه الأصوات علي رضا علوي بناه، المحلل السياسي، الذي حث خلال مقابلة أبرزتها وكالة «إرنا» على صفحتها الأولى، الرئيس روحاني، على «مراجعة جوانب من سياساتنا». ومن دون أن يسمي خامنئي بالاسم لمّح علوي بناه إلى إمكانية تجاوز المرشد الأعلى بقوله: «ليس على الرئيس طلب إذن أحد لتعديل السياسة (الإيرانية)». وفي الوقت ذاته، حذّر سعيد حجّاريان، وهو أحد كبار المنظّرين «الإصلاحيين»، من أنه إذا لم ينتهز روحاني الفرصة لإظهار وجود خيارات بديلة، فإنه سيخسر الدعم المتبقي لـ«الحركة الإصلاحية» في المجتمع. والمغزى هنا هو أنه إذا أدرك الناس تماماً حجم كلفة السياسات الحالية، بما فيها التدخل في شؤون الدول الأخرى، فإنهم سيمتنعون عن تأييد استراتيجية «تصدير الثورة» التي يرمز إليها الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري.
وبالتالي، قد تكون ثمة ملامح لتشكُّل تفاهم عريض على الحاجة لحماية النظام حتى لو كان الثمن تجرّع كأس مرة وتقبل خيبة الأمل. وهذا، في الواقع، ما عناه آية الله جعفر سبحاني عندما أكد أن «الأولوية تكمن في حماية النظام الإسلامي، وعلينا ألا نركن لوقوف الكفرة الأوروبيين مع نظامنا، ولا خوض لمعركة غير متكافئة لا نستطيع كسبها في الوقت الراهن».
وهكذا، بالنظر إلى ما تقدّم يبدو أن إحجام بومبيو عن التطرق مباشرة إلى «تغيير النظام» ساعد «العمليين» داخل النظام الإيراني، الذين يريدون اعتماد تراجع تكتيكي بانتظار إما اهتزاز رئاسة دونالد ترمب أو نهايتها. ولكن في المقابل، ما زال هناك في طهران جماعات متعطشة إلى مواجهة مع واشنطن، ما يوحي بأن الجدل المحتدم في العاصمة الإيرانية ما زال بعيداً عن الحسم.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.