المكتبة... آخر حصون الصمت

في رحاب مكتبة
في رحاب مكتبة
TT

المكتبة... آخر حصون الصمت

في رحاب مكتبة
في رحاب مكتبة

في «اسم الوردة» يجعل أومبرتو إيكو من مكتبة الدير مسرحاً لسلسلة من عمليات القتل الغامضة، ثم يأتي زوران جيفكوفيتش بنوفيلا «المكتبة» يحتفي فيها بالسحر والغموض دون الرعب، وبين المؤلفين الإيطالي والصربي يقف البرازيلي ألبرتو مانغويل الذي جعل من المكتبة وفعل القراءة فرعاً معتبراً من التأليف. عشرات من الكتاب كالوا للقراءة عبارات المديح، بوصفها فعلاً لإطالة عمر البشر المحدود، لكن مانغويل يعتبرها «ممارسة للخلود» وإذا كان الأمر كذلك؛ فالطبيعي أن تكون المكتبة مكاناً للصمت وتقاليده، بما يجعل منها داراً للعبادة، بل في الواقع، فإن دور العبادة هي التي تطمح إلى صمت المكتبة الآن.
من الأساس كانت القراءة في دور العبادة علنية، لأنها قراءة للغير في الغالب ولهذا يصعب القول إنها أماكن للصمت. ومع ازدهار السياحة في العصور الحديثة لم تعد دور العبادة قادرة على توزيع وقتها بين صوت العظة وصمت التأمل فحسب.
وضعت البرامج السياحية دور العبادة على جداولها في المدن التي وصلت إليها السياحة؛ وقد وصلت السياحة إلى كل مكان مأهول في العالم، بحكم الرغبة المجنونة في «البكارة» التي تدفع بأفواج السياح إلى الأبعد عاماً بعد عام، حيث تلتهم في طريقها العديد من الأشياء، وبينها حصة الصمت التي تنطوي عليها دور العبادة.
تُبنى المعابد من أجل وظيفتها الإيمانية، عمارتها الفخمة الضخمة تستهدف تمجيد اللامرئي اللامحدود في مقابل الإنسان الضئيل، لكنها غالباً ما تتضمن الرغبة في تمجيد الباني. الفرعون، الملك، أو الرئيس المطلق اليد. وسواء تقدم تعظيم المعبود الباقي أو المعبود الفاني في أسباب بناء المعبد؛ فإن الجمال والضخامة وربما بعض الأساطير المتعلقة بالمكان وبعض الحوادث التاريخية التي جرت فيه هي الأسباب المعتادة لجعل هذا المعبد أو ذاك مقصداً سياحياً.
لا يجد السائح أدنى مشكلة في ممارسة أو تمثيل الورع لبضع دقائق من وقته المنذور للفراغ، لكن الأكثرية تدخل إلى المعابد لتتأمل عظمة العمارة، أي عظمة الإنسان، وربما للتفكر في حجم العناء البشري الذي أوجد هذا الصرح.
في كل الأحوال فقدت المعابد سطوتها. لم تعد أماكن مثل الكاتدرائية الكبيرة في غرناطة أو كنيسة نوتردام في باريس أو حتى كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان مكاناً للورع، بل لتمثيل الورع. العظة التي تلقى تحت وميض فلاشات الكاميرات تبدو فقرة في البرنامج السياحي، حيث الغرباء أغلبية.
باختصار؛ فقدت دور العبادة قدرتها على الصمت، ولحسن الحظ لم يزل هناك مكان يغفله السياح هو المكتبة!
لم تصبح المكتبة طموحاً سياحياً بعد، باستثناء المكتبات الشخصية لكبار المبدعين، وهذه مقصد سائح نوعي نادر يرغب في مزيد من التعرف على كاتبه من خلال معرفة ما كان يقرؤه. في غير هذه الحالة أفلتت المكتبة من نهم الفرجة، ونجت من الدفع بها إلى زاوية الأثر لتصبح شيئاً من الماضي، مثلما يتنبأ الكثير من المتحمسين للعصر الرقمي والخائفين منه على السواء.
لم تزل المكتبات نشطة تؤدي دورها، وعلى الأرجح سيستمر هذا الدور قياساً إلى ما يوفره الذهاب إلى السينما من متعة، على الرغم من النمو المتلاحق لمساحة شاشة التلفزيون المنزلي.
في رحلة قمت بها إلى إيطاليا مؤخراً، زرت أربع جامعات: نابولي، روما، ميلانو، وتورينو. ولأنني أُساق إلى المنصة كالمسوق إلى المقصلة، وأعتقد جازماً أن ما يمكن أن أقوله حول الكتابة قاله عشرات من قبل وبوضوح أفضل؛ فإنني أختصر من زمن لقاءاتي حول الكتابة، ويصبح لدي الكثير من الوقت الذي يمكن إنفاقه في القراءة والتلصص على أحوال القراء. هكذا تيسرت لي رؤية مكتبات الجامعات التي زرتها، بالإضافة إلى مكتبة بلدية تورينو.
هل دخول مكتبة تضم كتباً في لغة لا أعرفها يجعل مني ضرباً من سائح؟ ربما كان الأمر كذلك، لكنني أزعم قدرة الحب على الإفهام. حب الكتب جعل من رجل أمي هو محمد مدبولي ناشراً ناجحاً، يعرف الكتاب الجيد من التربيت على المخطوط. وأنا أحب الكتب، ويمكن أن أفهمهما بقلبي في أي لغة كانت، من خلال هدهدة كتاب في يدي أو قراءة السعادة على وجه قارئه المتوحد معه. لكن الفهم والقدرة على الوصول إلى الجوهر ليس السبب الذي ينزع الوجه السياحي عن المكتبة كمكان وعني كزائر. الفضل يرجع للصمت.
ما إن دخلنا إلى مكتبة قسم اللغات الشرقية بجامعة تورينو ماورو توسكو رئيس قسم اللغات الشرقية وأنا حتى لامستُ الصمت. همس البروفسور باسمي وصفتي لرجل وامرأتين على طاولة الاستقبال في مواجهة الباب، ومضينا بخطو خفيف على الأرضية الكاوتشوك التي لا يمكن أن تقص عليها أثراً لضجيج. أشار إلى المكان الذي سأترك فيه حقيبتي. وأخذ يعرفني همساً بالمكتبة ومحتوياتها، حيث تتوالى الكتب العربية والفارسية والتركية والعبرية. نحن عالقون في نزيف الدم في الشرق الأوسط، بينما تتعايش كتبنا في سلام بمكتبة في تورينو!
الكثير من الكتب والدوريات العربية عراقية تعكس مستوى من التواصل مع هذه الجامعة العريقة، كان موجوداً في ظل عراق ليبرالي مثقف قبل أن يحكمه جهل السلاح.
هناك طاولتان فقط للمطالعة بعرض المكتبة، في مواجهة نافذة في منتصف القاعة، تبدو الطاولتان مثل منخفض بين جبلين من صفوف الرفوف العالية، على الطاولتين عدد قليل من قراء وقارئات يبدون من طلاب الدراسات العليا، بينهم من يمسك كتاباً ومن يكتب على الكومبيوتر أو يطالع نصاً على شاشة.
في مكتبة البلدية بهو استقبال يضم شاشات يستخدمها المترددون للتأكد من وجود الكتاب الذي يطلبون استعارته أو مطالعته قبل أن يتقدموا إلى طاولة استقبال ضخمة باتساعها وعدد موظفيها كما في فندق كبير. يتسلم موظفو الاستقبال الطلبات من رواد المكتبة ويطلبونها بدورهم من السعاة الذين سيذهبون لجلبها من قاعة المخزن الضخمة.
قاعة المطالعة كبيرة ومزدحمة، مع ذلك لا خروج على قانون الصمت. البعض يقرأون من أجهزتهم اللوحية كما في الجامعة. نقلت ملحوظتي للصديقة نجلاء والي أستاذة اللغة والترجمة بجامعة تورينو، قالت: «المكتبة مطعم يمكن أن تزوره بساندويتشك في يدك» قالت إنها تأتي أحياناً للقراءة في هذه المكتبة من حاسوبها الخاص، حيث لم تزل قاعة المطالعة المكان الذي يشترط التخلي عن الهاتف، ويضعك داخل هذا الحماس الجماعي الصامت للقراءة.
لقائي في جامعة سابيينزا الذي نظمته المستعربة الكبيرة إيزابيلا كاميرا دو فليتو حضره الروائي فابيو ستاسي، الذي لاحظ فيما يبدو نزوعي إلى الاختصار، فأطلق نحوي عدداً من الأسئلة من قراءته لروايتي «مدينة اللذة» المترجمة إلى الإيطالية، ثم وقف إلى جانبي مؤازراً وتشعب حديثنا ليشمل غريب ألبير كامو، وغير ذلك من روايات. كنت قرأت لفابيو روايته «رقصة شابلن الأخيرة» وكان رائعاً أن أتلقى العون من كاتب أحببت عمله. وعقب المحاضرة، اصطحبنا فابيو إلى مكتبة الجامعة، التي يعمل أميناً لها.
وكانت فرصة لرؤية مكتبة مختلفة؛ فهي لا تنتمي لمخيال الغموض الذي يلف المكتبات من كليلة ودمنة إلى اسم الوردة إلى هاري بوتر (الرواية ذات المخيلة اللصة). قاعة المطالعة مهتوكة السر بنور النهار الذي يدخلها عبر واجهة زجاجية بالكامل، تمتد من الأرض إلى السقف. تحت ذات الإضاءة، في الجهة الأخرى من المساحة الكبيرة المفتوحة تقف الرفوف المعدنية متلاصقة تماماً مثل آلة عملاقة أو حاويات متراصة على سطح سفينة. الفراغ المعتاد بين كل صفين من صفوف الأرفف المتحركة لا يوجد في هذه القاعة إلا مرة واحدة. يعرف أمين المكتبة الرف الذي يقف عليه كتاب يريده. يدير عجلات قيادة الرفوف تباعاً لتتحرك على قضبان وتتجمع يميناً ويساراً بما يجعل الفسحة الوحيدة بالقاعة أمام الصف المطلوب فينطلق إلى مكان الكتاب. بهذه الطريقة تحمل القاعة أضعاف ما تحمله قاعة الرفوف الثابتة.
إلغاء الفراغات في التصميم المضغوط يتيح إخفاء قتيل في هذه المكتبة بأسهل مما يمكن في مكتبة الدير البنديكتي في «اسم الوردة» لكن النور يمنع احتمالية وقوع الجرائم، وغني عن القول أن العشاق في روما لا يحتاجون إلى الاختباء وراء رف كتب لاستراق قبلة. مكتبة من عصر الشفافية، ومع ذلك تحتفظ بتقاليد الصمت!

- كاتب مصري


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم