نظرة حزينة على أقصى المهمّشين يوم الدين

شاشة الناقد

نظرة حزينة على أقصى المهمّشين يوم الدين
TT

نظرة حزينة على أقصى المهمّشين يوم الدين

نظرة حزينة على أقصى المهمّشين يوم الدين

‫• إخراج: أبو بكر شوقي‬
• دراما | مصر - 2018
• القسم: المسابقة الرسمية
• تقييم:

في مشهد يقع قبل منتصف الفيلم، ينهض الصبي المكنّـى بأوباما ليرقص على ألحان أغنية شعبية. الموسيقى آتية من راديو والصوت المستخدم في اللحظات الأولى معادل لما يصدر من صوت المذياع، خفيف وغير مجسّم. لكن المخرج أبو بكر شوقي يختار نقل الصوت من مصدره الأساسي إلى مكساح صوتي مسجل في الاستوديو يتمتع بالحضور الكامل والمجسد. نقلة غير طبيعية وتنقل المشاهد من الخيال المرئي إلى الواقع المفاجئ.
من حسن الحظ أن المشهد لا يستمر إلا للحظات، ينتهي أثره هذا بانتهائه (إذا ما انتبه أحد إليه). ما يبقى هو 92 دقيقة من العمل الرصين القائم على سلسلة أحداث يستمد كل منها قوّته من طبيعته وبيئته والحقائق الخفية حيناً والواضحة حيناً التي تغمر العمل ككل.
بيشاي (راضي جمال) مصري قبطي أصيب صغيراً بمرض الجذام، وما زال جسده يحمل علامات المرض الفارقة رغم أنه شُـفي منه. وجهه مشوّه وأصابع أطرافه مقوّسة. في الخلفية التي ترد على لسان بيشاي، أن والده وضعه طفلاً عند باب المصحة في ريف ليس بعيداً عن القاهرة، ثم هرول عائداً إلى السيارة المنتظرة وهو يعده بأن يعود إليه ويستعيده.
ترعرع بيشاي على هذا الوضع ونتعرّف عليه في مطلع الفيلم وهو يعمل مع حماره (أول ما نسمعه في الفيلم نهيق الحمار) في جمع ما قد يجده يستحق البيع في منطقة صحراوية تطمرها النفايات. وهناك ذلك الصبي أوباما (أحمد عبد العزيز) الذي يشفق عليه. صبي يتيم لا يعرف شيئاً عن ماضيه. على عكس بيشاي ليس لديه تاريخ يرويه. وعندما يقرر بيشاي أن يرحل عن البيئة التي تأويه ليعود إلى قريته البعيدة في جنوب الصعيد المصري يتبعه أوباما ويلتحق به.
الفيلم إذن رحلة من موقع موحش تمر بمواقع موحشة أكثر. هناك الصحراء شبه القاحلة وسكك القطارات القديمة وتجمعات المشوّهين والمعاقين والكثير من السعي للوصول رغم كل الصعاب. لكن هناك أيضاً جمال لدى بعض الشخصيات. في الأساس يستند الفيلم إلى شخصيتين رئيسيّـتين يحملان الفيلم وجوهره بلا عناء ظاهر. شخصان لا يمكن لأحدهما، بعد حين، أن يعيش بعيداً عن الآخر. بيشاي يعامل الصبي كابنه، والصبي يعامله كأبيه. هذا مسيحي والآخر مسلم. والمسيحي مضطر في بعض المواقف إلى الادعاء بأنه مسلم. أولاً في مشهد حبسه في زنزانة يشاركه فيها متدين مسلم (قد يكون إخوانياً)، وثانياً عندما يضطر إلى التظاهر بأنه مسلم ويقوم بالصلاة في مسجد مع جموع المصلين.
الشخصيات الأخرى تتوزع ومعظمها يكشف عن طيبته ودرجة مثلى من الإنسانية. هناك استثناءات (بعض الساخرين وجابي تذاكر في قطار وحرامي يكاد يهرب بالغلة)، لكن الغالبية تندفع صوب هاتين الشخصيتين لتقديم جل ما تستطيع للمساعدة.
لا يفوت المخرج، في عمله الأول هذا، أن ينصرف عن السياسة قولاً وفعلاً من دون أن تنصرف السياسة عنه. الفيلم بحد ذاته عن وضع لمعوزين من أدنى مستويات التهميش. لم يسبق لمخرج روائي آخر أن عمد إلى تقديم من هم أكثر تهميشاً من شخصيات هذا الفيلم، الرئيسية منها والمساندة. هذا بحد ذاته نقد لوضع في بلد لا يزال يحاول معالجة مشكلاته المتكاثرة من دون أن يحل الكثير من بداياتها. والفيلم يسخر من «البيروقراطية المصرية العظيمة»، لكنه يقدّر نتائجها. يصوّر المتدين المسلم ذا الرؤية المحدودة، لكن لولاه لما استطاع بيشاي الهرب من السجن.
من المشهد الأول، عندما تفتح الكاميرا (تصوير الأرجنتيني فدريكو سيسكا) على أفق عريض من الأرض المطمورة بالتراب الباهت والنفايات المترامية، إلى المشهد الأخير عندما يقف بيشاي وأوباما بمحاذاة صحراء أخرى ليعودا من حيث أتيا، تتوالى صور مدقعة كحالهما. المخرج أبو بكر شوقي، الذي وُلد من أب مصري وأم أسترالية ودرس السينما في نيويورك واختار، عمداً، تحقيق هذا الفيلم ليكون عمله السينمائي الأول، لم يكن أمامه سوى أن يلائم الحال الفردي بالحال الجماعي المتمثل في تلك الطبيعة القاحلة.
مع مدير تصوير لديه رؤية أجنبية لمعالجة أوضاع ومعاني الفيلم، توصّل شوقي إلى خلق مناطق بصرية مؤلفة من لقطات حسنة الأحجام. لكنه المسؤول، وقد كتب السيناريو بنفسه وأسند بطولته إلى ضحية مرض الجذام الفعلي راضي جمال الذي لم يمثل دوراً من قبل، عن سلاسة الإيقاع وعن تلك المعالجة التي تبقى على حافة الحالات المستعرضة. تناوله ليس ميلودرامياً على الإطلاق، بل يصب في عمق دراما لها مواطن ساخرة وسوداوية ودائماً إنسانية، لكنها ليست مطلقاً كوميدية. يحيط بالفيلم جو حزين نابع من واقعه بجدارة.
التحدي الأكبر بالنسبة إليه هو - بطبيعة الحال - خلق ممثل من رجل يعيش الحالة ويكتنزها بطبيعة الحال، لكن التمثيل والتعبير عنها ليسا من الأمور التلقائية بالضرورة. ما على الشاشة هو نتيجة ذلك التحدي وهي لا تحتاج إلى تقييم صارم لأنها تأتي طبيعية المنشأ والأداء.
«يوم الدين» ليس فيلماً عن التديّـن ولا حتى عن وحدة اجتماعية بين المسلمين والمسيحيين في مصر. ليس فيلماً وعظياً ولا يحاول أن يتفوّه برسالته، بل يبقيها في إطار الصورة ذاتها. هناك حديث عابر عن يوم الحساب، حيث الجنة تنتظر الصالحين لكن الصورة لا ترغب في تفعيل ما تحويه بحيث تتحوّل، كعادة الكثير من الأفلام المصرية والعربية عموماً، إلى مدرسة لتعليم العمل الصحيح والواجبات الأخلاقية.

من «يوم الدين»: شبحان على الطريق



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.