العصر الذي لا سمات لهhttps://aawsat.com/home/article/1259846/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D9%84%D8%A7-%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D9%84%D9%87
لكل عصر سماته التي تشير لجوهره منذ بداية البشرية لحد الآن. فهناك عصر الطفولة البشرية في أثينا، أو على الأقل هكذا كان يسميه ماركس، عصر البراءة الأولى، حيث الكل أحرار قبل أن يقسم الإنسان نفسه إلى مالك ومملوك، عصر الحكمة والفلسفة التي لا تزال حية على الرغم من القرون. وهناك عصر النهضة، وعصر التنوير، حين اكتشفت البشرية نفسها من جديد، وتحررت من خرافة تلك القوى الخفية، التي استندت طويلاً إلى مرجعيات لم يخترها أحد، وحكمت ضمائرنا قبل عقولنا، وأثقلتنا بعقد ذنوب لم نقترفها. ثم حل عصر الانحطاط طويلاً، ومعه توحش الإنسان على أخيه الإنسان الذي بلغ مداه الأعلى في العصر الإمبريالي الذي اكتسح ثلاثة أرباع المعمورة، مسلحاً بالجشع والرأسمال الذي لا يشبع. كان عصر الاحتدام الكبير بين القوة الكاسحة حادة الأنياب، والإنسان الذي لا يملك سوى أغلاله. وأنتج هذا الاحتدام ثروة جمالية كبرى في الشعر والتشكيل، والرواية والعمارة، ربما لم تعرفها البشرية بهذا الشكل من قبل. وقد ولد منه بالضرورة عصر الثورات، العنيفة وغير العنيفة، التي حاولت اقتحام السماء ثم هوت، لكنها تركت بصماتها الواضحة، التي يصعب على الزمن محوها، على الإنسان ومصيره وتطوره اللاحقين. ولكن خرجت من بطنه أيضاً الحرب، الابنة الشرعية للرأسمال المتوحش والقمع والعنف وضيق الأفق القومي، واستقرت بيننا لأكثر من نصف قرن. وبدا كأن عصراً جديداً سيبدأ. ولكن للتاريخ دوراته الخبيثة، أو كأنه كف فجأة عن الدوران. كأن شيئاً تضخم كثيراً، ثم انفجر، وحل فراغ مخيف. اختفت من على جدران العالم شعارات الأخوة الإنسانية، والتضامن، والعمل الجماعي، والمصير المشترك. ومعها اختفت تلك الأعمال العظيمة في الشعر والفلسفة والرواية والتشكيل والعمارة. حلت محلها وحدتنا مع الـ«تويتر»، الذي يقرر مصائر العالم الآن من غرفة منعزلة، ومناجاتنا في «فيسبوك»، الذي صار «أخاً أكبر» لنا، أين منه أخ جورج أورويل، والفساد الذي وصل حتى إلى آلهة الأولمب، حراس كلماتنا وكتبنا، القابعين في أعلى صرح يطل من علٍ علينا، ويقرر ذائقتنا ووجداننا. أية سمة تميز عصرنا الذي نعيش؟ ما هي سمة هذا العصر؟ لا نكاد نجد سمة واحدة تشير إليه، وتدل على جوهره. لا نرى منه سوى سطح مبهر، مزركش، قد يكون مطلياً بالذهب، لكنه يبقى سطحاً... بلا عمق لنغور فيه ونكتشف معدنه.. اختفت الصراعات والأفكار الكبرى التي حركت البشرية لحد الآن.. لم نعد ننظر إلى أفق بعيد بانتظار الذي يأتي، فقد بتنا على يقين كامل بأنه لن ينتهي... وأساساً لا شيء هناك ليأتي. لا شيء ينبئ أنه موجود. وفي حالة كهذه لا نملك سوى أن نتمدد مسترخين على السطح، سطح العقل والروح. الكل عارٍ على السطح، وهو فخور بذلك، كأن البشرية تعبت من كل صراعاتها مع نفسها، واستكانت لتلهو بحوافها الريح كما تشاء، بينما «يظل المركز يدور... ويدور»، كما كتب وليم بتلر ييتس في بداية القرن العشرين.
لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.
ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.
ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.
وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.
ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.
لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.
على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.
إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».
ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:
من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية
إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ
لنطلع في شمسك الرائعة
نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ
ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ
أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.
وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.
وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء: