لم تشهد منطقة في العالم ما شهدته أميركا اللاتينية خلال العقود الخمسة الأخيرة من تقلبّات حادة في الأنظمة السياسية؛ تأرجحت بين الديكتاتوريات العسكرية الدامية، التي ما زالت ملفّات ممارساتها الوحشية مفتوحة إلى اليوم وبين الثورات الشعبية واليسارية المسلّحة التي تفجّرت ضد أنظمة القمع والإقطاع والاستبداد، ثم انتهت بإرساء أنظمة كانت في أحيان كثيرة أشدّ قمعاً واستبداداً.
وبالمناسبة، يتفّق باحثون كثرٌ على أن جذور الأنظمة الإقطاعية والاستبدادية في أميركا اللاتينية تضرب في الموروث الاجتماعي والسياسي من عهود «الفتح» الإسباني والبرتغالي، الذي حمل معه أنماط الحكم الإقطاعي إلى شبه القارة في نهاية القرن الخامس عشر. ويُرجع هؤلاء نشوء الديكتاتوريات العسكرية إلى تأثير الحركة النازية التي فرّ العديد من قادتها إلى بلدان أميركا الجنوبية، واستقرّوا فيها بعد سقوط «الرايخ الثالث»، وبنوا علاقات وطيدة مع النخب العسكرية، خصوصاً في البلدان الأميركية الجنوبية. أما الأنظمة اليسارية والاشتراكية فظهرت غالباً نتيجة المسرى الطبيعي للتطورات السياسية، وكانت الوليد الشرعي للعلاقة السببية التي تحكم التغييرات الاجتماعية في النظم الاستبدادية على مر التاريخ، لكنها لم تترسّخ إلا في كنف شطرنج «الحرب الباردة»، وسعي الاتحاد السوفياتي إلى تطويق واشنطن من حديقتها الخلفية، أو الضغط عليها من خاصرتها الجنوبية.
يستدلّ من التطورات التي تشهدها عدد من بلدان أميركا اللاتينية منذ العام الماضي أن هيمنة الأحزاب والقوى اليسارية والشعبوية على المشهد السياسي خلال العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من هذا القرن، قد بدأت تتجه نحو الأفول أمام تقدّم الأحزاب اليمينية في بلدان مثل الأرجنتين والبرازيل والبيرو وتشيلي وغواتيمالا والباراغواي.
هذه التطورات جاءت إما نتيجة التناوب الديمقراطي علـى السلطة بعد الانتخابات، أو بفعل منعطفات شبه انقلابية فرضتها الملاحقات القضائية لفضائح الفساد، أيقظت في المخيّلة الشعبية - وبخاصة في أوساط المحللين والخبراء السياسيين - صورة اليمين العائد إلى السلطة من بوابة «نهاية الدورة» للأنظمة التقدمية.
ويستفاد من الدراسات التي أجرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأميركا اللاتينية (سيبال) (CEPAL) أن انحسار «الموجة الحمراء» في هذه المنطقة لا يشكّل مفاجأة لمن يتابع عن كثب دورة التقلبات الاقتصادية، ويقرأ التطورات السياسية في ضوئها. إذ يتبيّن أن ثمة علاقة سببية واضحة بين المسرى الاقتصادي والتحولات السياسية الكبرى منذ مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، تتعاقب فصولها على وقع التطورات والأزمات الاقتصادية والمالية في العالم وتداعياتها على الساحة الأميركية اللاتينية.
معدلات النمو
في سبعينات وثمانينات القرن الماضي تراوح معدّل النمو الاقتصادي في أميركا اللاتينية بين 4 في المائة و5 في المائة، مقارنة بمعدل 2.5 في المائة، الذي استقرّ عنده النمو منذ الاستقلال تقريباً حتى منتصف ستينات القرن العشرين، ومع الارتفاع الكبير لأسعار النفط ومعظم المواد الأولية في بداية السبعينات شهدت المنطقة الممتدة بين جنوب الولايات المتحدة والقطب الجنوبي فورة استثمارية وارتفاعاً ملحوظاً في الإنفاق العام، وشاعت أجواء الرخاء الاقتصادي لترسّخ الديكتاتوريات العسكرية التي كانت سائدة في نصف بلدان أميركا اللاتينية تقريباً. ومن ثم، ساد اعتقاد بأن البحبوحة الاقتصادية وتدنّي معدلات البطالة ما هما إلا النتيجة الطبيعية لتثبيت الأمن الاجتماعي وتوطيد الاستقرار على يد الأنظمة المتشددة.
إلا أن تلك الفترة لم يكتب لها الدوام في منطقة تتحرك على وقع الاقتصاد الأميركي ومؤشر اهتمام واشنطن بـ«حديقتها الخلفية» اللاتينية. وحقاً، في منتصف الثمانينات، قررت الولايات المتحدة رفع معدلات الفائدة لاحتواء الموجة التضخمية الجامحة التي كانت تعاني منها، فدخلت أميركا اللاتينية مرحلة من الركود الاقتصادي بفعل خروج كثيف للرساميل الوطنية التي جذبتها العائدات المرتفعة لسندات الخزينة الأميركية، وتزامن ذلك مع انهيار أسعار بعض المواد الأولية التي يقوم عليها اقتصاد بعض البلدان في المنطقة.
هذه كانت فترة «العقد الضائع» التي تراجعت خلالها المعدلات الإنتاجية، ورافقتها أزمة نقدية ومصرفية سرعان ما ولَّدت موجة عارمة من الاستياء والاحتجاجات الاجتماعية، وأدّت هذه الموجة إلى انهيار الأنظمة الديكتاتورية والحكومات العسكرية التي كانت واشنطن قد بدأت تتخلى عنها. وحدها كوبا «الكاستروية» صمدت في وجه ذلك الإعصار، وبقيت لحية «الرفيق» فيديل متدليّة بتحدٍّ وإباء على مرمى حجر من سواحل ولاية فلوريدا الأميركية.
خطط وفق مبادئ واشنطن
معظم الحكومات اليمينية التي ورثت الأنظمة العسكرية بمباركة من الولايات المتحدة وضعت خطط إنقاذٍ اقتصادية قامت على المبادئ الأساسية التي كانت واشنطن قد فرضتها عبر «توافق واشنطن» بواسطة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أي: انضباط ضريبي صارم، واستقرار في الأسعار، وخصخصة مؤسسات الخدمات العامة، و«تحرير» التجارة والمبادلات المالية. وتجدر الإشارة هنا إلى ما قالته المديرة الحالية لصندوق النقد الدولي كريستين لاغارد في حديث خاص بـ«الشرق الأوسط»، على هامش اجتماع وزراء المال وحكّام المصارف المركزية في «مجموعة العشرين»، وهو أن «الصندوق يجري مراجعة داخلية لتأثير التدابير التي فرضها على بلدان أميركا اللاتينية أواخر الثمانينات وبداية التسعينات من حيث قدرة تلك البلدان على استيعاب تداعياتها الاجتماعية وصمود الأنظمة السياسية في وجه تلك التداعيات».
وفي منتصف التسعينات كانت أزمة الديون في أميركا اللاتينية قد دخلت مرحلة الانفراج الأخيرة بعد المقايضة التي فرضتها واشنطن عبر صندوق النقد: خفض الديون مقابل «الإصلاحات» الاقتصادية، بينما كانت معدلات الفائدة في الولايات المتحدة قد تدنّت إلى مستويات مغرية استقطبت رؤوس الأموال مجدداً إلى أميركا اللاتينية. وهكذا ساد اعتقاد بأن أسواق المال هي التي ستضبط إيقاع الإنفاق في منطقة اتُهم قطاعها العام بسوء الإدارة والتبذير، على اعتبار أن المؤسسات العامة المستوفية شروط الملاءة وحسن الأداء هي وحدها المؤهلة للحصول على القروض والشروط التمويلية الميسّرة. بدا يومها أن «خلطة» الديمقراطية مع السياسات الاقتصادية والمالية الليبرالية هي العلاج الناجع للأزمات السياسية والاجتماعية التي تعاني منها دول المنطقة منذ عقود. لكن الاندلاع المفاجئ للأزمة المالية الآسيوية والإعسار الروسي أواخر التسعينات أحدثا ارتباكاً كبيراً في الأسواق العالمية، ما أدّى لهروب كميات ضخمة من رؤوس الأموال إلى خارج الأسواق الناشئة تحسبّاً لتداعيات مشابهة فيها، فعادت أميركا اللاتينية مجدداً لدوامة الاضطرابات الاجتماعية والاحتجاجات الشعبية على وقع انكماش اقتصادي حاد وأزمة نقدية ومديونية عالية.
بداية الألفية الثالثة
مع بداية الألف الثالث كانت الاضطرابات والاحتجاجات الشعبية تسيطر على المشهد الاجتماعي في أميركا اللاتينية، ما أدى إلى تهاوي الحكومات اليمينية واحدة تلو الأخرى، منهزمة أمام الأحزاب والقوى اليسارية... وأحياناً اليسارية الشعبوية.
غير أن الحكومات اليسارية المعتدلة - خلافاً لليسارية الشعبوية التي قامت في فنزويلا والإكوادور وبوليفيا - لم تتخلّ عن الركائز الاقتصادية التي كانت في أساس برامج الحكومات اليمينية، مثل الانضباط الضريبي الصارم وضبط التضخم والأسواق المفتوحة، بل استندت إليها لوضع برامج اجتماعية طموحة لإعادة توزيع الثروة. وساعد على تمويل هذه البرامج المكلفة ارتفاع أسعار المواد الأولية مع بداية القرن وعودة الرساميل الأجنبية التي بلغت مستويات غير مسبوقة عام 2012 عندما بدأت الدول الصناعية تسعى وراء عائدات أفضل لاستثماراتها بعد الأزمة العالمية في 2008.
ومرة أخرى ساعد ارتفاع عائدات الصادرات من المواد الأولية و«تسونامي» الاستثمارات المالية المباشرة على حدوث طفرة اقتصادية لا سابق لها، ما رسّخ الاعتقاد بأن النجاح الاقتصادي مرهون حصراً بالسياسات الوطنية الناجحة، وبالانتقال السلمي للسلطة عبر الانتخابات الديمقراطية. ولكن مع بداية العقد الحالي هبّت على المنطقة رياح الركود الاقتصادي من جديد على وقع الأزمة في منطقة «اليورو» وتباطؤ النمو في الصين والانهيار الجديد في أسعار المواد الأولية وهروب رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة نحو ملاذات استثمارية آمنة.
وأفرطت الحكومات في ادعاءاتها بأن البحبوحة الاقتصادية والإنجازات الاجتماعية كانت «ثمرة» السياسات التي اتبعتها، وليست وليدة الظروف الإقليمية والدولية المواتية، ونجحت لفترة في إقناع الناخبين بصحة تلك الادعاءات، فقامت المظاهرات وعمّت الاحتجاجات عواصم البلدان التي كانت ترزح تحت وطـأة الإجراءات التقشفية والتسريحات الجماعية للعمال وخفض الخدمات الأساسية. وإذ تزامن ذلك مع انكشاف فضائح فساد كبرى طالت مسـؤولين من مستوى رؤساء الجمهورية، بدأ موسم العودة إلى الأنظمة اليمينية في بعض البلدان مثل الأرجنتين وتشيلي والبيرو، «مبشّراً» بفصول مشابهة في البلدان الأخرى المقبلة على انتخابات اشتراعية أو رئاسية هذه السنة.
البرازيل... و«لولا»
في البرازيل، كبرى بلدان أميركا اللاتينية وأقوى قواها الاقتصادية، يضيق هامش المناورة أمام الرئيس الأسبق لويس «لولا» دا سيلفا في مواجهة الملاحقات القضائية التي قد تنتهي بزجّه في السجن قريباً، وحرمانه من الترشّح لانتخابات الرئاسة في الخريف المقبل مع أنه ما زال السياسي الأكثر شعبية في البلاد. كذلك يخضع الرئيس الحالي ميشال تامر لملاحقات قانونية بتهم أكثر خطورة استطاع حتى الآن الالتفاف عليها بفضل الأكثرية البرلمانية التي يتمتع بها، والتي ترفض رفع الحصانة عنه، وأيضاً لأن أحداً من حزبه لا يرغب في خلافته راهناً.
لكن المفاجأة الحقيقية في الانتخابات البرازيلية لن تأتي من صدور حكم يحول دون ترشّح «لولا» الذي يستعدّ مرشّح آخر متحدر من أصل لبناني هو فرناندو حدّاد لخلافته، بل من النجم الشعبوي الصاعد جاير بولسونارو، الذي بات يعرف بـ«ترمب البرازيلي» لما في برنامجه وأسلوبه من تشابه مع برنامج الرئيس الأميركي دونالد ترمب ومسلكه الشخصي. عندما أعلن هذا العسكري السابق والنائب عن ريو دي جانيرو ترشّحه أواخر العام الماضي كانت نسبة التأييد الشعبي له دون العشرة في المائة، لكن الاستطلاعات الأخيرة أظهرت ارتفاعاً كبيراً في شعبيته التي قاربت 25 في المائة ليغدو منافس «لولا» الأول.
لا يوارب بولسونارو في إشهار تأييده للديكتاتورية العسكرية السابقة في البرازيل، ولا يتورّع عن القول: «إن الديكتاتورية أخطأت عندما عذّبت ولم تقتل»، ثم إنه يدافع عن حق المواطنين في اقتناء السلاح والإعدامات خارج القانون للمجرمين وتجار المخدرات على طريقة رودريغو دوترتي رئيس الفلبين. ويعزو المراقبون الصعود السريع في شعبيته لموجة العنف التي تجتاح البرازيل بمعدّل 60 ألف جريمة قتل سنوياً، ولاقتناع كثيرين بأن لا مخرج حالياً من الأزمات السياسية والاقتصادية والأخلاقية بالطرق التقليدية.
«الجارة» المكسيك
أما المكسيك، ثاني كبرى دول المنطقة و«جارة الولايات المتحدة»، فتستعّد من جهتها لانتخابات عامة ورئاسية في مطلع يوليو (تموز) المقبل في أجواء من القلق الاجتماعي والأمني المتزايد، نتيجة موجة العنف غير المسبوقة والتأزم في العلاقات مع واشنطن بعد دخول ترمب إلى البيت الأبيض.
المرشح الأوفر حظاً حتى الآن هو الزعيم الشعبوي لوبيز أوبرادور، الذي هُزم في الانتخابات الرئاسية عام 2006 بعد فضيحة مدوّية بتزوير النتائج، ورفضه لأشهرٍ القبول بها. وبينما يعلّق المكسيكيون آمالاً كبيرة على أوبرادور لمكافحة الفساد المستشري وتطهير الإدارة من كبار المسؤولين المتهمين بالتواطؤ مع تجّار المخدرات والمنظمات الإجرامية التي تنشر الرعب في البلاد، يخشى مراقبون من تفاقم العلاقة المتوترة مع واشنطن في هذه المرحلة الحساسة التي يعيد الطرفان خلالها التفاوض حول «اتفاقية التجارة الحرة» التي تشكّل حجر الأساس بالنسبة لعلاقات المكسيك التجارية مع محيطها الإقليمي والركيزة الأساسية لاقتصادها.
كوبا... والحليف الفنزويلي
في أي حال، الرياح اليمينية التي تهبّ مجدداً على أميركا اللاتينية كالأعاصير الموسمية التي اعتادت عليها المنطقة، ستتلاشى مرة أخرى أمام السواحل الكوبية التي ما زالت عصيّة على أي تغيير حقيقي، وليس هناك ما يدلّ على أنها ستتمكّن من اختراق الستار المنسدل على الكارثة التي تعصف منذ سنوات في فنزويلا. ففي التاسع عشر من الشهر الحالي سيترجل راؤول كاسترو عن صهوة الثورة التي اختصرها مع شقيقه الأكبر فيديل طوال ستة عقود، وللمرة الأولى سيتولّى مقاليد السلطة فيها رئيس لا يحمل كِنية كاسترو.
ميغيل ديّاث كانيل هو الخلَف الذي وقع الاختيار عليه ليقود هذه الثورة المعمّرة والمنهكة التي أوقدت نيران الحركات اليسارية في طول أميركا اللاتينية وعرضها، والتي تجهد للبقاء منذ سنوات بفضل المساعدات التي يضخّها النظام الفنزويلي في عروق اقتصادها المتيبّسة بعد انهيار الراعي السوفياتي وانقطاع مساعداته السخيّة.
أهميّة كوبا في معادلة اليمين واليسار لا تقتصر على رمزيتها العالية إقليمياً وعالمياً، بل تكمن اليوم خصوصاً في سيطرتها شبه الكاملة على نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا، التي رغم الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الذي تتخبّط فيه، تملك أحد أكبر مخزونات العالم النفطية. ومنذ صعود الرئيس الفنزويلي اليساري السابق أوغو تشافيز إلى الحكم، بمساعدة مباشرة من نظام كاسترو، سخّرت كوبا أفضل مهاراتها ومؤسساتها ومواردها للتحكّم بمراكز القرار الهامة للحكومة الفنزويلية في كراكاس انطلاقاً من اعتبار استقرار النظام الكوبي مرهوناً ببقاء حكومة موالية له في فنزويلا. التعيينات الرئيسة في القوات المسلحة والسلطة القضائية وأجهزة الأمن والاستخبارات كانت تستند إلى «المشورة» أو التوجيهات الكوبية. ورغم الأزمة المعيشية والتموينية الطاحنة التي تعاني منها فنزويلا، ما زالت الإمدادات النفطية المجانية مستمرة لكوبا. كذلك تسدد الحكومة الفنزويلية بسخاء فاتورة عشرات الآلاف من الأطباء والمدرّبين والمستشارين الكوبيين المنتدبين لمساعدة فنزويلا، فضلاً عن العمولات التي تتقاضاها المؤسسات الرسمية الكوبية التي تلعب دور الوسيط في صفقات الاستيراد الفنزويلية للمواد الغذائية وغيرها. وبفضل المساعدات النفطية التي تقدمها فنزويلا إلى البلدان الجُزُرية في البحر الكاريبي، ونفوذ النظام الكوبي في الجهاز الدبلوماسي الفنزويلي، استطاعت سلطات هافانا استقطاب هذه البلدان بعدما أخرجتها من دائرة نفوذ واشنطن.
بيد أن الوضع في فنزويلا بلغ درجة من الانهيار وتراجع التأييد الشعبي للنظام بحيث بات من المستحيل المراهنة على بقائه بالصيغة الحالية. وما عاد مستبعداً في مثل هذه الظروف، خصوصاً بعد تجميد واشنطن سياسة الانفتاح علـى كوبا، أن تتجه هافانا إلى ما تتداوله بعض الأوساط الدبلوماسية عن «صفقة» مع بعض أطياف المعارضة الفنزويلية التي تسيطر على ثلثي مقاعد البرلمان، تقصي مادورو عن السلطة وتأتي برئيس تؤمّن له كوبا الدعم الاستشاري واللوجيستي بفضل شبكة أنصارها في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، مقابل الحفاظ على المساعدات الاقتصادية الحيوية بالنسبة للنظام الكوبي.
مثل هذه الصفقة من شأنها أن تفتح باباً لحلحلة الأزمة السياسية المستعصية ومعالجة الوضع الإنساني المتدهور في فنزويلا، وتسلّم السلطة إلى حكومة يمينية، ولكن بغطاء ودعم من آخر ثورة شيوعية على قيد الحياة في العالم.
أميركا اللاتينية... في سطور
> «أميركا اللاتينية» مصطلح عرقي جغرافي يُطلق على مجموعة البلدان الواقعة في القارة الأميركية، التي تتكلم إحدى اللغات المشتقّة من اللاتينية (نسبة إلى منطقة لاتزيو الإيطالية التي تقع فيها مدينة روما)، خصوصاً الإسبانية والبرتغالية، وبنسبة أقلّ الفرنسية.
ظهر هذا المصطلح للمرة الأولى في مطالع القرن التاسع عشر الميلادي، وما زال إلى اليوم موضع انتقاد ومثار جدل لتجاهله الحضارات واللغات التي كانت قائمة في تلك البلاد قبل الفتح الإسباني. وهو الفتح - أو الاحتلال - الذي عقب وصول كريستوف كولومبوس وسيطرته على جزء كبير من القارة الأميركية، ثم الفتح البرتغالي الذي سيطر على ما بات اليوم البرازيل، وتبعته بريطانيا وفرنسا وهولندا التي سيطرت على مجموعة من الجزر الصغيرة ما زال بعضها تابعاً لها إلى اليوم.
ويرى باحثون وحركات عديدة أن مفهوم أميركا اللاتينية، أو بعض مرادفاته مثل «أميركا الأيبرية» أو «أميركا الإسبانية»، لا يعكس الواقع التاريخي والحضاري والعرقي لتلك المنطقة. إذ إنه يتجاهل مئات الثقافات وعشرات الحضارات المزدهرة التي كانت قائمة فيها قبل وصول الأوروبيين. ثم إن الشعوب أو الأعراق المحلية التي كانت تعيش فيها، ما زالت إلى اليوم تشكّل غالبية السكان في بعض البلدان مثل بوليفيا والبيرو وغواتيمالا والإكوادور.
معظم البلدان الأميركية اللاتينية نالت استقلالها عن إسبانيا والبرتغال وفرنسا في القرن التاسع عشر على خطى الحركة الاستقلالية المناهضة للاستعمار البريطاني، التي انطلقت في الولايات المتحدة في الربع الأخير من القرن الثامن عشر. وتبلغ المساحة الإجمالية لبلدان أميركا اللاتينية نحو 20 كيلومتراً مربعاً، أي ما يعادل 13.5 في المائة من مساحة الكرة الأرضية، ويناهز عدد سكانها 625 مليون نسمة.