مع وفرة المنتجات الأدبية في السوق الخليجية، وخصوصا ما يتعلق بالرواية والقصة القصيرة، يرى نقاد ومتابعون أن عددا كبيرا من هذه الأعمال كتب بلغة أقرب إلى اللغة المحكية، وأنها لا تساهم في تقديم أدب رفيع من حيث التكوين اللغوي.
فاتهام الأدباء الحاليين بأنهم يقدمون منتجات أدبية (رواية أو قصة أو شعر أو كتاب) يفتقد الرصانة اللغوية، ويصل إلى الحد الذي يوصم تلك المنتجات بأنها تساهم في (تهبيط) الذوق اللغوي، وإضعاف الذائقة الأدبية. بينما يرد المدافعون، إن هذا اللون من اللغة هو اللغة الوسطى المحكية التي تعبر عن حركة ونبض الشارع، وأن الأدب ينتمي في عمومه لعصره لغة وأسلوبا.
يقول الناقد الدكتور حسن النعمي، إن «الأدباء إذا كتبوا بلغة فصحى مرنة مواكبة متجاوبة مع الحياة، فإن منتجهم الأدبي حينها يكون قد ساهم في إبقاء اللغة العربية حية متفاعلة نامية مستوعبة للمستجدات».
ويرى النعمي أن معظم الكتب التي تصدر في السعودية حاليا، في غالبها تكتب بالفصحى الوسيطة والمقبولة. مبينا أنها تحقق تفاعلا مع عدد كبير من القراء. ويقول: «لا خوف على اللغة العربية من لغة الإعلام ولغة الأدب الحديث».
ويضيف: «هناك مستويات للغة الأدب المطروح الآن، منها: لغة الشعر الحديث، وهي لغة راقية والتعايش معها سهل مع مستوى من التكنيك العالي. ولكن إجمالا، هناك مقولة تفيد بأن الشعراء هم من يصنعون اللغة، وأنا بدوري أعممها للأدباء بأنهم يحيون اللغة، بمعنى أن الأدباء خط دفاع مهم جدا للحفاظ على اللغة العربية».
ويرى النعمي أن الفارق بين الفصحى والعامية ليس بالفارق الخطير في الفهم، مشيرا إلى كون الناس تفهم اللغة سواء بالعامية أو الفصحى، يعد في حد ذاته قيمة كبيرة لا تتوفر في كثير من لغات العالم.
* طالب الرفاعي: رفع الذوق اللغوي
* وفي الإطار نفسه، يرى الروائي الكويتي طالب الرفاعي، أن سؤالا كهذا يكشف الحاجة الملحة لمراكز دراسات فكرية وثقافية عربية، وهي وحدها بدراساتها وبحوثها الميدانية مؤهلة للإجابة على الأسئلة ذات الطابع الجمعي.
واستدرك الرفاعي قائلا: «على المستوى الشخصي، أرى أن الإنتاج الأدبي بعموم الأجناس الأدبية، وأخص على الذكر الشعر والقصة القصيرة اللذين ازدهرا خلال منتصف الستينات وحتى أواخر السبعينات، وتاليا تسيد جنس الرواية على سواه من الأجناس الأدبية، أرى أن النتاج الأدبي العربي ساهم مساهمة فاعلة في رفع مستوى الذوق اللغوي لدى شريحة القراء».
وأضاف: «علينا أن نفرق بين فئتين: فئة القراء المهتمين، وفئة عموم الناس. فبحكم الأمية الكبيرة المنتشرة بين الشعوب العربية، وبحكم قلة أوقات القراءة مقارنة بشعوب أمم أخرى، فإن الفئة العربية القارئة هي فئة قليلة جدا مقارنة بعموم الشعب. ومن هنا فمؤكد أن هذه الفئة القارئة قد استفادت من الإنتاج الأدبي، وساهم، بشكل أو بآخر، برفع مستوى تذوقها اللغوي».
وتأكيدا لرأيه استدل الرفاعي على ذلك، بكثرة النتاج الشبابي الخليجي في الأعوام الأخيرة، سواء كان قصة أو رواية، منوها أن تربية أجيال من أبناء الخليج على الشعر والقصة والرواية العربية، دفعتهم لأن يسلكوا درب الكتابة، ودفعتهم للاستعانة باللغة العربية لإيصال نتاجهم الإبداعي.
ويعتقد أنه ليس أدل من المكانة التي وصل إليها النتاج الروائي في دول الخليج العربي، أنه أصبح حاضرا في جميع المعارض العربية، سواء كان الناشر عربيا أو خليجيا، وهو ما يكشف انتشار القراءة والكتابة، والإيمان بأهمية الكتابة وبجدواها، خصوصا وأن هناك أعمالا روائية وقصصية استطاعت أن تصل إلى القارئ العربي، وهو ما لم يكن حاصلا في عقود ماضية.
وقال الرفاعي: «لعقود كانت هناك نظرة عامة دونية تجاه النتاج الشعري والقصصي والروائي الخليجي، باستثناء كتابات بعينها لكتاب خليجيين استطاعوا أن يثبتوا وجودهم على الساحة العربية، ومن أبرزهم السعودي عبد الرحمن منيف، والكويتي إسماعيل فهد إسماعيل كروائيين، والبحريني قاسم حداد، والعماني سيف الرحبي كشعراء».
ويضيف: «لكن العجلة سرعان ما دارت ومع دورتها جاء روائيون وقصاصون خليجيون، واستطاعوا بإبداعهم أن يلفتوا أنظار القراء العرب واهتمامهم، وأن ينالوا جوائز عربية وعالمية مرموقة، وأن يقولوا بما لا يدع مجالا للشك بوجود الشاعر والقاص والروائي الخليجي إلى جانب أقرانه من الكتاب العرب».
ويخلص الروائي طالب الرفاعي إلى القول: «نعم لقد ساهم الإنتاج الأدبي شعرا وقصة ورواية في رفع مستوى الذوق اللغوي لدى عموم شريحة القراء العرب، وساهم أكثر في خلق جيل عربي واسع من الكتاب الشباب، وما كان يمكن أن يحدث ذلك لولا النتاج العربي الأدبي السابق، وما تركه من بصمة في قلوب الكثيرين من الشباب، ووحدها تلك البصمة كان المشجع الحقيقي وراء ما نرى من كتابات روائية وقصصية عربية تضاهي أي كتابة عالمية».
* صالحة غابش: حرية الإبداع
* من جهتها، لا ترى الكاتبة الإماراتية صالحة غابش، مدير عام المكتب الثقافي والإعلامي بالمجلس الأعلى لشؤون الأسرة في الشارقة، أن الإنتاج الأدبي حاليا ساهم أو أثر في اللغة العربية المعاصرة، أو تلك التي تجري على ألسنة الشباب والأطفال هذه الأيام، معزية ذلك لكون أغلب أطفال اليوم استعانوا بعبارات أجنبية مختلفة اللهجات وأولها الإنجليزية.
وقالت: «أخذت العربية الفصحى - للأسف - تشكل مع الواقع الجديد، جماليات على ألسنة الأجيال الجديدة، على غير زمننا الذي كنا نقرأ فيه قصصا عن التراث وموضوعات معاصرة مهمة تؤثر في الإنسان وفي القيمة الإنسانية، وتدعونا لأن نؤمن بها نظريا وسلوكيا، حيث كانت تلك الحكايات ثرية باللغة العربية الفصحى».
وأضافت صالحة: «الآن حتى اللغة العربية تحتاج إلى الاعتناء بها عناية مضاعفة عما سبق، حتى تكون أيضا لغة العصر والتي هي لغة التقنية والتكنولوجيا سواء من خلال الشعر أو الرواية أو القصة». وأوضحت أن «الواقع ينبئ عن تراجع ولو أنه قليل في لغة الإنتاج الأدبي».
وعلى مستوى الشعر، قالت صالحة، إن «الشعر المعاصر في حاجة لقراءة فلسفية أو تأملية، فإذا منحنا الشباب حرية قراءة النظر على غير طريقتنا القديمة، أو على غير ما كنا نحفظ النص ونحفظ شرح النص، فإنهم سيستوعبون الفكرة حسب رؤيتهم الشخصية لهذا النص، بحيث يستنتجونه ويتحدثون عنه باللغة العربية الفصحى، ولكان التواصل أقوى بين الجيل ولغته العربية».
وأكدت أن النصوص الأدبية حاليا، لا تساعد كثيرا في إعطاء من يتعامل معها من الشباب العربي الحرية بأن يعبر عن فكرته، تماما مثل النقاد والذين من حقهم أن ينظروا إلى النص بشكل مختلف بحسب ثقافتهم وموروثهم واتجاههم.
وقالت: «نحن لا نملي عليهم فكرة النص، فوفقا لحرية التعامل وحرية التعاطي والانفتاح الكبير يكون صعبا، إذ لا بد أن نفتح لهم نافذة ليتنفسوا من خلالها اللغة العربية الفصحى حسب وجهة نظرهم دون الخروج عن القواعد الرئيسة».
* علي بافقيه: رفعت الذوق
* من جهته أكد الشاعر السعودي علي بافقيه، على أن المنتجات (الإبداعات الأدبية) بمختلف مشاربها، كانت دوما إحدى أدوات الرقي بالذوق اللغوي، وهي التي كما يرى تجدد اللغة العربية خاصة الشعر، مشيرا إلى أنه يضيف إليها وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال في سائر الأجناس الأدبية الأخرى خاصة الفنون الأدبية الأخرى.
وقال: «الشعر والسرد والقصة والمسرح، من أهم الفنون الأدبية، التي ترتقي باللغة بعكس ما يعتقد التقليديون والمحافظون والذين يرون أن التجديد في اللغة والتجديد في الفن والأدب من خلالها يضر بها»، وزاد: «إذا قارنا بين اللغة العربية قبل 70 عاما وحاليا، سنجد أن اللغة العربية أرقى وأجمل وأكثر تطورا مما سبق».
وأضاف بافقيه: أن «هناك من يعتقد أن الإنتاج الأدبي المطروح في الساحة الثقافية حاليا أو الأصوات الجديدة التي تغرد في الساحة، لا يجيدون اللغة العربية أو لا يهتمون بها، ولديهم أخطاء في الصياغات والنحو والإملاء، غير أنني أعتقد أن الزمن كفيل بأن يصفيها من الشوائب ويطورها، إذ إن الأجيال الجديدة تحاول أن تطوع اللغة لتواكب التسارع التقني والحياتي».
وقال: «حينما كنت طالبا أدرس في أميركا، كنت أداوم على زيارة مكتبة هارفارد، إذ لديهم قسم للغة العربية، وكنت قد صادفت جرائد مصرية قديمة، فلما قرأت الصياغات وجدت بالفعل أن اللغة الآن أكثر صفاء ورقيا وتطورا وأكثر جودة وإبداعا وهذا ما حصل في الأجناس الأخرى».
* يوسف المحيميد: تأثير محدود
* أما الروائي والكاتب السعودي يوسف المحيميد، فيرى أن تأثير الإنتاج الأدبي على الذوق اللغوي ضئيل، لا سيما مع انفلات مواقع التواصل الاجتماعي، مبينا أن انتشار اللهجات بشكل مريع ساهم في ذلك، فضلا عن ندرة من يقرأ الشعر الآن، أو حتى القصة القصيرة.
أما الرواية، وفقا للمحيميد، فهي انساقت مع اللغة أو اللهجة المحكية، وقال: «إذا كان هناك وسيلة رفعت الذوق اللغوي، وفرضت الفصحى بجمالياتها، فهي أفلام الرسوم المتحركة قديما، قبل عقدين، حينما كانت تتم دبلجتها في بيروت، فتعلم منها ذاك الجيل من الأطفال، جماليات اللغة، وسلامة نطقها ومخارجها».
وأضاف: «قد يكون للأدب تأثير في رفع الذوق الأدبي، لكنني أراه محدودا، وعلى نطاق ضيق لدى عدد من القراء. لكنني أظن أن اللغة المنطوقة بعناية وسلامة في أفلام الكرتون، أكثر تأثيرا من لغة الكتب المنسية».