سنوات السينما

سنوات السينما
TT

سنوات السينما

سنوات السينما

Night of the Living Dead
(1968)
تأسيس رعب الأيام المقبلة

بعد ظهر يوم غابر في بعض ريف بنسلفانيا، يقوم رجل وشقيقته بزيارة المقبرة. من بعيد هناك رجل يقترب ببطء. يلفت نظر الشقيق فيسخر منه ويخيف شقيقته به. رجل يجرّ قدمه جرّاً، ويبدو كما لو أنه خرج من المقبرة. بعد قليل يبدأ بمهاجمتهما. الشقيق يسقط ميتاً. أخته (جوديث أو ديا) تصاب بهلع شديد وتركض إلى البيت الوحيد في المكان. الزومبي وراءها.
في البيت ينضم إليها شاب اسود اسمه بن (دوان جونز). تخشاه في البداية لكنها لاحقاً ما تأمن إليه. بعد حين يكتشفان وجود عائلة مختبئة في غرفة تحت الأرض، ويصل شاب وزوجته للانضمام إليهما. هذا قبل أن يطبق الزومبيز على البيت يحاولون الدخول لالتهام الجميع.
«ليلة الموتى - الأحياء» كان أول فيلم لجورج روميرو في سلسلة امتدت لتشمل خمسة أفلام أخرى، من بينها ما كان مصدر إعادات صنع قام بها مخرجون آخرون. في عام 1968 عندما قام بتصوير الفيلم وعرضه، كانت الألوان غزت السينما منذ عقود، لكن تبعاً لميزانية شحيحة قرر المخرج غير المعروف قبل ذلك تصوير الفيلم بالأبيض والأسود، وحسناً فعل، لأنه جاء كما لو كان جزءاً من التصميم القشيب الذي يشمل الفيلم بأسره: البيت المعزول. الريف البعيد عن المدنية والمخيف حتى من دون ملتهمي لحوم بشر ومجموعة الممثلين الجدد وآخرين من غير المحترفين الذين ظهروا أمام الكاميرا، وبعضهم لم يظهر بعد ذلك الفيلم مطلقاً.
الشاب الأسود بن هو محور الشخصيات جميعاً. رجل واقعي يحاول مساعدة نفسه وسواه وللغاية عليه أن يعتمد على كل فرد في ذلك البيت. البعض يتعاون (الزوجان الشابان) والبعض الآخر يمتنع (رجل العائلة التي كانت تختبئ تحت الأرض) بدافع الخوف والكره. ليس من الزومبيز وحدهم بل من ذلك الشاب الأسود الذي فرض وجوده وبرهن على صحة أفعاله وتوقعاته ما جعل ذلك الرجل العنصري يعتبره خطراً عليه.
في حين أن «ليلة الموتى - الأحياء» هو بالتأكيد فيلم رعب حول انتشار وباء يحوِّل الموتى إلى أحياء جائعين لالتهام الآدميين، إلا أنه ورد في إطار وضعين سياسيين الأول هو الأحداث العنصرية التي شهدتها الولايات المتحدة في الستينات، والثاني الحرب الدائرة في فيتنام.
حتى وإن لم نشهد في الفيلم أي ذكر للعنصرية ولا لفيتنام، إلا أن مجرد خروجه مختلفاً عما سبقه من أفلام الزومبيز يبعث المقارنة من منطلق الحديث عن عفن يصيب الوسط الأميركي (أي الولايات التي تعتبر أكثر أميركية من المدن الكوزمبوليتانية) وتناول العنصرية المكتومة خلال الأحداث كما في مشهد النهاية عندما يبقى بن الناجي الوحيد من بين جميع من لجأ إلى ذلك البيت لكن هذا لا يضمن له النجاة من قناصة بيض اعتقدوه زومبي فأردوه.
ليس فيلم الزومبي الأول، لكن ما سبقه من أفلام منح الحالة مواصفات مختلفة عن تلك التي أتى بها جورج روميرو. فالزومبيز في فيلم «زومبي بيضاء» (إخراج فيكتور هلبرن، 1932) كانت امرأة حوّلها العالِم الشرير (ومثله الشرير الأشهر بيلا لاغوسي) إلى مخلوقة مسلوبة الإرادة والحياة. في «مشيت مع الزومبي» (جاك تورنور، 1943) اقتراح بأن القبائل السوداء التي تسكن بعض جزر خط الاستواء هي الزومبي.
هذا الفيلم الثاني بقي، فنياً، أفضل فيلم زومبي لذلك ما تبعه من أعمال لم يشهد احتلال أي موقع بارز في هذه السينما إلى حين قيام روميرو بتقديم شريحته من الزومبيز مفضلاً استبعاد المبررات وخوض تجربة الصراع ما بين الآدميين والوحوش كما لو كان ينقل واقعاً. في الحقيقة كان يرصف لتغيير وجه الزومبيز في المستقبل وإلى الأبد.

من «ليلة الأحياء الموتى»



بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
TT

بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»

بشير الديك، كاتب القصّة والسيناريو لعدد كبير من الأفلام المصرية طوال العقود الأربعين الماضية، الذي توفي في اليوم الأخير من العام الراحل، 2024، كان أحد السينمائيين الخارجين عن قوانين السينما التقليدية في النصف الأول من سنوات مهنته. لكن على الرغم من أنه في النصف الثاني وقّع على أعمال كثيرة من التي يمكن وصفها بالتقليدية، ومن بينها 6 أفلام من بطولة نادية الجندي، فإنه واظب على معالجة نصوصه باحتراف يجمع بين حكايات تحمل مضامين تنتمي إلى نزعة جادة وتنشد ميزانيات كبيرة.

لعل حقيقة أن نادية الجندي كانت تصبو دوماً إلى أدوار تخلّدها وأفلام تحافظ عبرها على مكانتها لعب بشير الديك دوراً في تلبية هذه الرغبات عبر حكايات تشويقية في المقام الأول، وشخصية رئيسية مضخّمة وذلك في أفضل نصوص ممكنة ضمن التوليفة التجارية.

بدأ هذا التعاون على نحوٍ ثلاثي: بشير الديك يكتب، ونادر جلال يُخرِج ونادية الجندي تلعب دور البطولة. هذه الأفلام هي «الإرهاب» (1989)، و«شبكة الموت» (1990)، و«عصر القوّة» (1991)، ومن ثَمّ «مهمّة في تل أبيب» (1992)، و«الشطّار» (1993)، ولاحقاً «امرأة هزّت عرش مصر» (1995).

كمال الشناوي ونادية الجندي في «مهمّة في تل أبيب»

‫اتجاهان‬

بعد بدايات متفاوتة الأهمية من بينها «مع سبق الإصرار» لأشرف فهمي (1979)، و«دعوني أنتقم» لتيسير عبّود (1979)، و«الأبالسة» لعلي عبد الخالق (1980) التحق الديك ببدايات المخرج الراحل محمد خان عبر 6 أفلام هي «الرغبة» (1980)، و«موعد على العشاء» (1981)، و«طائر على الطريق» (1981)، و«نص أرنب» (1983)، و«يوسف وزينب» (1984) و«الحرّيف» (1984) وكلها من أفضل ما حققه خان.

تعامُل الديك مع الموضوعات الجادة التي عرفتها تلك الأفلام سمح له بكتابة واحد من أفضل أعماله وهو «سواق الأتوبيس»، الذي حققه الراحل عاطف الطيب سنة 1982، وكلاهما لاحقاً تعاونا على تحقيق فيلم مهم (أكثر مما كان جيداً) آخر هو «ناجي العلي» (1992). لجانبهما فيلم ثالث هو «ضد الحكومة» (1992) من بطولة أحمد زكي ولبلبة.

في تقييم كتابات بشير الديك تتداخل بعض العناصر التي يمكن إيجاز هذا التقييم عبرها.

من ناحية، حاول دوماً التطرّق صوب قضايا مهمّة تطرح قصصاً ذات جانبٍ وطني مثل «مهمّة في تل أبيب»، الذي دار حول جاسوسة مصرية تعمل لصالح إسرائيل، ومن ثَمّ تندم فتطلب منها الاستخبارات المصرية (ممثلة بكمال الشناوي)، العمل لحساب مصر وتنجح. «ناجي العلي» ينضم إلى هذا النحو من الأعمال.

السيناريست المصري بشير الديك (وزارة الثقافة)

في ناحية أخرى، لم يتأخر عن كتابة ما كان سائداً في الثمانينات والتسعينات من اتجاه صوب الحديث عن مراكز قوى في الشارع المصري والصراع بين الأخيار والأشرار. هذه الموجة لم تعرف بداية ونهاية محدودتين فتاريخها عريق يعود لعقود سابقة، لكنها عرفت في تلك الفترة تدافعاً بين المخرجين للحديث عن تلك المراكز في حارات القاهرة (في مقابل الكثير من صراع الخير والشر على ساحلَي بور سعيد والإسكندرية في أفلام الخمسينات والستينات) في أجواء ليست بعيدة عن الخط الذي وضعه نجيب محفوظ وشخصياته.

مخرجون عديدون حقّقوا هذه الأفلام التي شُكّلت حكاياتها من صراع القوى في الشارع المصري مثل أشرف فهمي («الأقوياء»، 1982)، وأحمد السبعاوي («السلخانة» 1982 و«برج المدابغ» 1983) وكمال صلاح الدين («جدعان باب الشعرية» 1983). لكن من مزايا ما كتبه بشير الديك في هذه الأعمال التي لاقت رواجاً جماهيرياً إنه كتب ما هو أعمق في دلالاته من قصص المعلّم الشرير ضد سكان منطقته وأزلامه الذين يتصدّون للأبرياء إلى أن يخرج من رحم تلك الحارة من يواجههم جميعاً.

بداية من «نصف أرنب» توّجه الديك إلى حكاية تشويقية ذات طابع بوليسي، وفي «سوّاق الأتوبيس» وقف مع ابن المدينة في موضوع حول تفتت المجتمع مادياً. أما في «الحرّيف» فنقل اهتمامه إلى الوسط المهمّش من سكان القاهرة وأحلامهم ومتاعبهم الشخصية.

‫هموم المجتمع‬

ما يجمع بين هذه الأعمال هموم تسلّلت إلى عدد كبير من كتابات بشير الديك السينمائية.

في مقابلة تمّت بين المخرج عاطف الطيب وبيني بعد مشاهدة فيلمه النيّر «سواق الأوتوبيس»، سألت المخرج عن كيف بدأ التفكير في تحقيق «سوّاق الأتوبيس». أجاب: «بدأت الفكرة في جلسة صداقة مع بشير الديك ومحمد خان. وكنا نتحدث بشأن همومنا وطموحنا الخاص لصنع سينما أخرى مختلفة، وكانت الظروف الحياتية نفسها تجمعنا كلنا تقريباً. فقد كنت أشعر في ذلك الوقت بالذنب إزاء فيلمي الأول (يقصد «الغيرة القاتلة»، 1982)، الذي اضطُرِرت فيه إلى الاعتماد على سيناريو مأخوذ عن أصل أدبي (أجنبي) رغم إيماني الدائم بضرورة الكتابة المباشرة للسينما. اقترح محمد خان وبشير الديك فكرة وُضع لها عنوان: (حطمت قيودي)، تدور حول عائلة مهدّدة بالضياع نتيجة فقدان الأب للورشة التي أسسها وبحْثُ الابن، سائق الأتوبيس، عن مخرج من الأزمة بلا جدوى وأعجبتني الفكرة، خصوصاً أنني أميل كثيراً إلى الدراما التي تدور في نطاق عائلة. وبدأنا بالفعل في تطوير الفكرة خلال الكتابة وتبادل الآراء. وكنا كلما نتعمق في الموضوع تتضح لنا أهمية الفكرة التي نريد التعبير عنها. في الكتابة الثانية للسيناريو، وصل الفيلم إلى ما أصبح عليه».

كتب بشير الديك نحو 60 فيلماً ومسلسلاً تلفزيونياً، معظمها جمع هذه الصفات المجتمعية على نحو سائد أو مخفف. هذا ما جعله أحد أبرز كتاب السيناريو في مصر في حقبة كان للسينما البديلة والمستقلة عن السائد دور فاعل في نهضة الفيلم المصري عموماً.

مع الطيّب وخان ورضوان الكاشف ورؤوف توفيق وخيري بشارة ورأفت الميهي وسواهم، ساهم بشير الديك في منح تلك الفترة مكانتها الساطعة التي لا تغيب.