في قلب لندن على «مسرح هارولد بنتر اللندني» احتفل محبو الفن الرابع بمناسبة مرور 60 عاماً على رفع الستار عن واحدة من أروع بواكير الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بنتر (1930 - 2008)، وهي مسرحيته الثانية «حفل عيد الميلاد». والمسرح الحامل اسم الكاتب الحائز جائزة نوبل للآداب في عام 2005 يوفق في طرح قراءة بعيون معاصرة لعمل كلاسيكي، توخى من خلاله تطبيق أساليب حديثة لمقاربة الفن المسرحي.
عقب عقود من عرض المسرحية الأول لا يزال بريق واحد من أهم الأصوات المسرحية في القرن العشرين يتألق وإن كان يرسم صورة قاتمة لأجواء عبثية في بنسيون رخيص أشبه في عتمته بالمغارة، ويشرف على الساحل البريطاني الملبَّد بالغيوم. تقُيم «ميج»، مديرة البنسيون، حفل عيد ميلاد لأحد نزلائها القدامى، وهو «ستانلي ويبر»، عازف بيانو سابق في العقد الرابع من العمر (ينهض بدوره باقتدار الممثل البريطاني ستيفن مانجان). المفاجأة أن اثنين من الغرباء، يدعيان غولدبيرغ وماكين، يفرضان نفسيهما على الحفل. والغريبان نذيرا الشؤم القادمان من أجل «ستانلي» خصيصاً، فيقْلبان الحدث إلى جحيم مقيم.
وبقدر عبثية هذا اللقاء، يعيد مخرج العرض أيان ريكسون إحياء نص مسكون في ظاهره وباطنه بكل ما يسم موروث بنتر المسرحي: نزعة إلى تحقير البشر لطبيعة بدائية تنطوي عليها جرائمهم وآثامهم، ومتن مطبوع بحوار ملغز، كثيراً ما يخفى علينا معناه في إطار من كوميديا من نوع خاص، ذلك النوع الذي يبث في خلجاتنا إحساساً بالتوجس والرهبة، إضافة إلى وجود شخصيات مترددة تنفتح صراعاتها الداخلية وهوياتها الرمادية على ويلات التاريخ الحديث.
وفي الإطار ذاته، يتحول عنصرا الوقت والمكان إلى عاملين هلاميين، يستعصي على المتفرج تعقب أثريهما، فلا يجد مفراً من اللجوء إلى صنوف شتى من التفسيرات والتأويلات. وهذا الغموض ينطبق على هوية الشخصيات وبواعثها، ومنها عنوان المسرحية ذاته حين يصدم «ستانلي» ربة البنسيون قائلا: «اليوم ليس عيد ميلادي يا ميج!»
يعتقد بنتر، شأنه شأن الناقد رولان بارت والفيلسوف ميشال فوكو، أن ما يقصده المؤلف من خلال نصه أمرٌ هامشي، مكرِّساً فكرة أن النص ينضح بمقاصده وتتفتح براعمه ليؤدي بلا شريك دور المفسر والشارح المطلق. فعندما سأل الممثل البريطاني ألان إيكبيرن بنتر يوماً عن دوره في المسرحية، وكان بنتر مخرجها: «من أين أتت الشخصية؟ وأين هي ذاهبة؟ قل لي شيئا يساعدني على فهمها»، ما كان من بنتر - وكان لا يفصح ولو على سبيل الهفوة عن مصدر إلهامه - إلا أن رد عليه قائلاً: «كُنْ في حالك وركِّز في النص!» لم يكن بنتر فظاً بطبعه، وإنما آمن في عناد بكفاية النص لسبر إشكاليات الدراما، وأن النصٌ يتحدث عن ذاته.
وفي غياب أي تفسير لما يحدث من مصادفات وعثرات، ينطوي الحوار على ما يشوبه من ألغاز، ألغاز الإضافة مثلما هي الحال مع ألغاز الحذف، ولا سيما حذف الدافع، منطقياً كان أم رمزياً. ما الذي بعث بالغريبين إلى حضور الحفل؟ لمَ يقيم موسيقي كان يوماً مشهوراً في بنسيون رث؟ لم يتصرف الرجلان بهذا الشكل المريب، ولم تند عنهما أبشع النعوت؟
لقد هبط «غولدبيرغ» اليهودي المرح و«ماكين» الآيرلندي الوقح على ضحيتهما المعتكف لكي يكيلا له أمر الاتهامات والتهديدات ويعذباه بالاستجوابات: «لا تكذب! لقد خنتَ المنظمة. إنني أعلم كل شيء. ما الذي تراه من دون نظارتك؟ اخلعها!» وهذا الاضطهاد المجاني قد يوحي بأن «ستانلي» في الحقيقة فاقد للذاكرة أو أنه يكابد أوهاماً لا تخلو من جنون الارتياب.
وعليه؛ كان الصمت المحسوب، وقد احترمه المخرج المعاصر، أداة بنتر لعكس عبثية الحياة في إطار مفاهيمه الفلسفية. فالمسرحي الذي عمل ممثلاً في المسرح والسينما والتلفزيون واتخذ يوماً اسماً مستعاراً، عدّ الواقع هو المقيم، والعبث واللامعقول هو العابر. أبطاله يختلقون حاضرهم في خضم اللحظة ويتطرفون في محو ماضيهم وتاريخهم. والحياة في وعيه أشد غموضاً مما تعرضه المسرحيات، إنها «ما يجري بين السطور، وماذا يحدث حين لا تقال الكلمات نفسها».
وهذه البلبلة تتماشى مع شخصيات تعيسة يتهددها جفاف العاطفة، لا حظ لها من السداد، تنطلق من أفواهها ضحكات سوداوية تجلجل على خشبة المسرح. وهو ما حدا بالناقد مايكل بيلينغتون، كاتب سيرة بنتر، إلى أن يؤكد أن «حفل عيد الميلاد» ليست مجرد حكاية مثيرة من مسرح الذخائر، تطل علينا من خلال عدسة الحساسية الأوروبية، وتمازج بين أجاثا كريستي وكافكا، حسب وصف أحد المخرجين الألمان، وإنما «مسرحية ترصد واقعية سيكولوجية شديدة الوطأة».
وكأن الألغاز المتعمدة لا تكفي، فاحتفظت لغة العمل، التي تهلهلت وتناقضت وتفسخت معانيها ودلالاتها الجوهرية بين المشهد والآخر، بعتقها وإيقاعها البطيء المميز لتلك الحياة اليومية البعيدة الطافحة بالملل، فخرجت بتعبيرات ذات بنية وقاموس ينتهكان المعاصر السائد، مثلما تزيا الممثلون بحلة ستينية خالصة. ورغم الهنات اللغوية، يحبك المتن الخيوط من هنا ومن هناك عقب 3 فصول صوب خاتمة أشد ما تكون هندسة في بنيتها حين ينتهي المطاف بأن يألف الأبطال صنوفاً من فقدان الذاكرة واضمحلال الأمل.
ولكن إلى أي مدى حدَت العصرنة بالمخرج إلى تجديد المسرحية لكي يعدها النقاد «رائعة هي أبعد من تكون عن القوالب المسرحية الكلاسيكية»؟ تعرض المسرحية نسوة لا هم لهن إلا إشباع الرجال حولهن، والرجال يمثلون لهن حلقة الوصل الوحيدة بالعالم بينما ينخرط النص في تحليل تراتبية السلطة الذكورية والخريطة الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين في إلحاح لم يختلف كثيراً عن إلحاح القضايا ذاتها في ستينات القرن الماضي.
ولأن بنتر كان بالسليقة يناصر الضعفاء، دمجت مسرحيته مسحة عدوانية تشرِّح أخطاراً تطل بوجهها من وراء أشرعة السلطة والانفراد بالحكم. وقد نراها كناية ورمزاً سياسياً مظلماً عن تلك الفترة المتقلقلة من تاريخ السياسة البريطانية. كان بنتر يرى أن الحكومات والممارسات السياسية بوجه عام منبع للسخرية والنكران مثلما راوده شكٌ مقيم في كل أشكال السلطة المنظَّمة. وهذا المسرحي الأشبه بالعراف العليم يتنبأ بوقائع تدك جدران وطنه دكاً عقب عقود من كتابة المسرحية مثل تفشي العنصرية ونزعة بلده إلى التقوقع باختيارها الانكفاء ذاتياً والانسلاخ من الاتحاد الأوروبي.
شخصيات تنفتح صراعاتها الداخلية على ويلات التاريخ الحديث
إعادة عرض مسرحية «حفل عيد الميلاد» لبنتر بعد 60 عاماً من تقديمها
شخصيات تنفتح صراعاتها الداخلية على ويلات التاريخ الحديث
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة