في مثل هذه الأيام من عام 2014، صعد ماتّيو رينزي إلى سدّة رئاسة الحكومة الإيطالية وهو لم يبلغ بعد الأربعين من عمره إثر فوزه الكاسح بمنصب الأمين العام للحزب الديمقراطي (يسار وسط)، ثم في الانتخابات العامة (البرلمانية) العامة ليصبح أصغر رئيس وزراء في تاريخ إيطاليا. وفي ذلك العام وضعته مجلة «فورتشن» في المرتبة الثالثة بين الأشخاص الأكثر تأثيراً في العالم دون سن الأربعين، واختارته مجلة «فورين بوليسي» بين أول 100 مفكّر في العالم.
إلا أن كل هذه الأرقام القياسية التي جمعها ماتّيو «السريع» توشك اليوم أن تتحطّم أمام الصعود المعلن لنجم آخر من نجوم السياسة الإيطالية هو لويجي دي مايو، القيادي البارز في حركة «النجوم الخمس»، أكبر المنتصرين في الانتخابات العامة التي أجريت يوم الأحد الماضي.
ولد لويجي دي مايو، القيادي الإيطالي الشاب، الذي ينتظر كثرة من المراقبين أن تسند إليه رئاسة الحكومة الإيطالية الخيرة، عام 1986، في كنف عائلة متواضعة بجنوب إيطاليا.
كان والده ناشطاً في حزب الحركة الاجتماعية (الفاشيون الجدد) التي قامت على أنقاض الحزب الفاشي الإيطالي. ولم يكمل لويجي دراسته الجامعية في نابولي، كبرى مدن جنوب إيطاليا، بعدما تنقّل بين كليّتي الهندسة والحقوق، وشارك في تأسيس الاتحاد الطلابي في كل منهما. ومن ثم، تدرّب كصحافي لفترة قصيرة في إحدى الصحف المحلية، ثم عمل كبنّاء ومراقب في ملعب كرة القدم لنادي نابولي.
في عام 2007 كان لويجي دي مايو من مؤسسي «مجموعة أصدقاء بيبي غريلّو» التي قامت عليها بعد سنتين حركة «النجوم الخمس» التي أسسها النجم الكوميدي المعروف غريلو تحت شعار محاربة الفساد وإصلاح المنظومة السياسية والخروج من منطقة اليورو. وفي عام 2013 فاز بمقعد في البرلمان، ثم انتُخِب نائباً للرئيس ليصبح الأصغر سنّاً في تاريخ الجمهورية الإيطالية.
أما القفزة الأبرز والأهم لدي مايو فكانت خلال خريف العام الماضي عندما اختارته حركة «النجوم الخمس» مرشّحاً لها لرئاسة الحكومة في الانتخابات التي انتزعت فيها المرتبة الأولى بنسبة 32 في المائة من الأصوات، ما يضع هذا السياسي الشاب في الموقع المتقدم لرئاسة الحكومة الجديدة.
خطيب مفوَّه وواسع الاطلاع
لمع دي مايو إبان الحملة الانتخابية، وقبلها، كخطيب مفوّه واسع الاطلاع وملمّ بأدقّ تفاصيل المواضيع السياسية والاقتصادية. ويؤكد الذين تابعوه في اللقاءات التي أجراها مع مسؤولين سياسيين وماليين، في أوروبا والولايات المتحدة أخيراً، أنه ترك انطباعاً إيجابياً أشاع الارتياح في أوساطهم إزاء احتمال تكليفه رئاسة الحكومة.
إلا أنه، في المقابل، لم يتجاوب خلال الحملة الانتخابية مع الدعوات المتكرّرة التي وجّهت إليه لإجراء مناظرة مع ماتيو رينزي، الخاسر الأكبر في الانتخابات إلى جانب الملياردير سيلفيو برلسكوني. وكان هذا الأخير، الذي بدأ يكسب رزقه مغنّياً على متن السفن السياحية التي تجوب المتوسط قبل أن يجمع ثروته الطائلة كمقاول، قد ركّز سهام انتقاداته على الحركة في شخص دي مايو. ووصلت الحملة إلى حّد تعييره دي مايو مراراً بأنه «طالب فاشل... لم يستقرّ في وظيفة... حتى إنه عمل حمّالاً في ورش البناء، ثم مراقباً في ملعب نادي نابولي كي يتسنّى له مشاهدة المباريات مجاناً».
ليس نسخة عن غريللو
من اللافت أن شخصية دي مايو المتزّنة والهادئة تتعارض، من حيث الشكل والأسلوب، مع شخصية مؤسس «النجوم الخمس» بيبي غريلّو، الذي راهن على أن يكون دي مايو خلَفه في قيادة الحركة، فبينما يتّصف الأول بالاتزان في كلامه وتصرفاته وتبدو عليه ملامح التلميذ النبيه والمهذّب، يفرط الثاني في مظهره البوهيمي والفوضوي، ويسرف في استخدام تعابير نابية وشبه سوقيّة في خطبه المباشرة والمسجّلة.
والجدير بالذكر، أنه، على غرار دي مايو، لم يكمل غريلو دراسته الجامعية مكتفياً بالحصول على شهادة محاسب قبل أن يكتشف مواهبه الفنية بل والكوميدية أحد المذيعين التلفزيونيين المشهورين، فيعرض عليه المشاركة في برنامج للمنوّعات عام 1977. كان هذا البرنامج باب غريللو إلى النجاح والشهرة. ومنه انطلق لإعداد برامجه الخاصة، التي سرعان ما بدأ يستخدمها لتوجيه انتقادات جريئة ولاذعة للطبقة السياسية، إلى أن اتخذت إدارة التلفزيون الرسمي قراراً بمنعه من الظهور على قنواتها بعد تهجّمه على رئيس الوزراء - آنذاك - بتّينو كراكسي بمناسبة زيارة قام بها إلى الصين الشعبية.
ومن ثم، تابع غريلّو نشاطه الفني - السياسي خارج أطر الإعلام الرسمي. وكانت انتقاداته الجريئة تلقى تجاوباً واسعاً لدى الجمهور مع تفشّي الفساد في الجسم السياسي الإيطالي، وانكشاف الفضائح نتيجة الملاحقات القضائية التي قادتها مجموعة القضاة المعروفة باسم «الأيادي النظيفة». وفي عام 2005 أطلق غريللو مدوّنته بالإيطالية والإنجليزية واليابانية، وسرعان ما أصبحت بين المدونات العشر الأوسع انتشاراً في العالم. وفي عام 2008 اختارتها صحيفة «الغارديان» البريطانية من بين الأكثر تأثيراً.
بدايات «النجوم الخمس»
هذا النجاح الشعبي دفع غريللو في عام 2009 إلى تأسيس حركته السياسية «النجوم الخمس» على الشبكة الرقمية لنشر أفكاره حول النزاهة والديمقراطية المباشرة، ولم يلبث أن حقق نجاحات متتالية في الانتخابات الإقليمية عامي 2010 و2012. بل في عام 2013 حلّت الحركة في المرتبة الثانية في الانتخابات العامة بنسبة 25 في المائة من الأصوات، لكنها لم تحصل سوى على 109 مقاعد في مجلس النواب بسبب طبيعة القانون الانتخابي الذي كان في مصلحة اللوائح التحالفية.
وفي ذروة الأزمة المالية والاقتصادية الأوروبية، التي وضعت عدداً من المصارف الإيطالية على شفا الإفلاس، وأجبرت حكومة برلسكوني اليمينية على الاستقالة، سعى غريلّو للحصول على 4 ملايين توقيع لإجراء استفتاء حول بقاء إيطاليا في منطقة اليورو رغم أن الدستور لا يجيز ذلك. لكنه لم يجمع أكثر من مائتي ألف توقيع، فتراجع عن اقتراحه.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن غريللو كان يشرف على إدارة الحركة - التي أسسها مع صديقه الراحل الخبير في الاتصالات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي جيانروبرتو كازاليجيو - من غير أن يترشّح في الانتخابات، مكتفياً بدور الموّجه والمرجع لحسم الخلافات واتخاذ القرارات الاستراتيجية في الحركة. غير أن كثيرين لا يعرفون أن السبب في عدم ترشحه يعود لحكم صادر بإدانته في حادث سير أودى بحياة أحد الأشخاص، مما يحرمه من حق الترشّح بموجب القانون الإيطالي. كذلك من بين الانتقادات التي توجه إلى غريللو أنه ديماغوغي يهاجم خصومه مركّزاً على مواضيع سطحية وحياتهم الخاصة، علماً انه يملك يختاً ويتنقّل في سيارة «فيراري».
تشكيل الحكومة الجديدة
ليست إيطاليا مثالاً يُحتذى من حيث وضوح مشهدها السياسي وسهولته، ولا من حيث استقرار الحكومات فيها. لكنها نادراً ما واجهت مشهداً معقدّاً وحسّاساً كالذي تمخّض عن انتخابات يوم الأحد الماضي. برز في هذه الانتخابات طرفان قويّان من خارج التركيبة السياسية التقليدية، يطالب كل منهما بأحقيّة تشكيل حكومة جديدة: الأول هو حركة «النجوم الخمس» التي فازت بأكثر من 30 في المائة من الأصوات، والثاني هو تحالف يمين الوسط الذي باتت تتزعمه «عصبة الشمال» بعد الهزيمة التي مني بها حزب برلسكوني «فورتسا إيطاليا» (إلى الأمام يا إيطاليا)، إلا أن أياً من الطرفين لا يملك الدعم الكافي لتشكيلها، وهو مما يقتضي الدخول في تحالفات أقل ما يقال فيها إنها غير طبيعية وشبه مستحيلة.
المسؤولية الكبرى الآن ملقاة على عاتق رئيس الجمهورية، رجل الدولة الهادئ، سيرجيو ماتاريلا الذي عليه أن يبحر بصمت في هذه الأجواء المعتكرة التي أفاقت عليها إيطاليا، سعياً إلى حل لا يستبعد أن يفضي (في أسوأ الأحوال) إلى العودة إلى صناديق الاقتراع بعد تعديل القانون الانتخابي.
وفي غضون ذلك، وبينما يراقب الاتحاد الأوروبي بقلق متزايد تطورات الوضع في البيت الإيطالي، تواصل حكومة تصريف الأعمال مهامها برئاسة باولو جنتيلوني، الذي لا شك في أنه يظل من بين الأوراق التي يحتفظ بها رئيس الجمهورية لساعة الحسم الاضطراري التي قد لا تكون بعيدة.
مرونة وتكيّف
في أي حال، لا ينتظر أن يظهر أي تغيير كبير في المشهد الراهن - باستثناء التصدّع التقليدي الذي بدأت تتسّع شروخه في أوساط اليسار وإعلان برلسكوني الولاء لزعامة جديدة لليمين - قبل الثالث والعشرين من هذا الشهر عندما يعقد البرلمان الجديد جلسته العامة الأولى. لا بد عندئذ أن تظهر الملامح الأولى للتحالفات المحتملة لانتخاب رئيس المجلس ونوابه وأعضاء هيئة المكتب، وليس مستبعداً أن تتضح خطوط الانشقاقات داخل الأحزاب والتحالفات الانتخابية وفاءً للتقاليد الإيطالية العريقة.
أما اللافت في الفترة القصيرة التي انقضت حتى الآن منذ إجراء الانتخابات، أن «النجوم الخمس» التي كانت الأكثر تشدداً من حيث رفضها لمبدأ التحالفات والمساومات، بدأت تُظهر استعدادا للانفتاح والليونة. إذ أعلن مؤسسها «بيّبي غريلّو» أن «البقاء ليس للأقوى، بل لمَن يحسن التكيّف. نحن فينا بعض من الديمقراطيين المسيحيين، وبعض من اليمين وبعض من اليسار وبعض آخر من الوسط. بإمكاننا أن نتكيّف مع أي شيء... ولذلك سنفوز دائماً».
وحقاً، بعد ساعات من هذا التصريح صدر عن هيئة الصناعيين الإيطالية - وهي إحدى ركائز الثالوث الفاعل في البلاد، إلى جانب رئاسة الجمهورية والفاتيكان - بيان يؤكد أنها لا تخشى من تشكيل حكومة بقيادة «النجوم الخمس»، بل ترى أن المشكلة تكمن في تعذر تشكيل حكومة.
ما لم تقله هيئة الصناعيين إنها تفضّل حكومة بقيادة شعبوية مناهضة للنظام السائد لكنها مخفّفة بتحالف مع الحزب الديمقراطي، على حكومة برئاسة زعيم «عصبة الشمال» اليمينية المتطرفة. لكن المشكلة بالنسبة لليسار تذهب أبعد من ذلك. إذ إن ماتّيو رينزي أوضح انه يفضّل الانتقال إلى المعارضة على التحالف مع «النجوم الخمس».
وطلب من مؤيدي مثل هذا التحالف أن يكشفوا علناً عن مواقفهم، ثم ذهب في عطلة للتزلّج. وفي حين يرى رينزي أن التحالف مع «النجوم الخمس» قد يؤدي إلى مزيد من الانحسار في قاعدة حزبه لصالح الحركة، يخشى آخرون من أن الوصول إلى طريق مسدود والعودة إلى صناديق الاقتراع من شأنه أن يلحق بهم هزيمة أكبر.
«السيناريوهات» الممكنة
في ضوء كل ذلك ليس أمام رئيس الجمهورية ماتاريلا سوى الخيارات التالية:
- «اتفاق على الطريقة الألمانية» بين «النجوم الخمس» والحزب الديمقراطي يُعطى بموجبه هذا الأخير رئاسة مجلس النواب مع المشاركة في الحكومة أو من دونها. وثمة معلومات تفيد بأن مفاوضات تجري حول هذا الاتفاق من دون علم رينزي، الذي قال إن صفقة كهذه لن تمّر إلا فوق جثته. لكن وضع رينزي اليوم هو - في مطلق الأحوال - أقرب ما يكون إلى الجثة.
- «اتفاق على الطريقة الإيطالية»، أي أن يتمكن تحالف اليمين من «إقناع» 56 نائباً من خارجه بالانضمام إليه لتشكيل حكومة برئاسة ماتيو سالفيني (عصبة الشمال). مثل هذا «النزوح» الحزبي ليس مستهجناً في إيطاليا، وإن كان العدد هذه المرة يتجاوز الحالات السابقة. مع هذا يرى مراقبون أنه ليس مستعصياً بالنسبة للاعب ماهر مثل برلسكوني، لا سيما أن البرلمان الإيطالي قد شهد في العقود الخمسة الماضية 566 حالة نزوح لبرلمانيين من حزب إلى آخر. - «اتفاق ضد أوروبا»، بين «النجوم الخمس» و«عصبة الشمال» يعطيهما غالبية مريحة في مجلسي النواب والشيوخ. قد يبدو هذا الاتفاق شبه مستحيل في الظرف الراهن، لكن نصف الإيطاليين صوّتوا لأحد هذين الحزبين اللذين كانا ثمرة الاستياء العارم من تفشّي الفساد، وفشل المؤسسات، والتوتر الاجتماعي الناشئ عن الأزمة الاقتصادية وظاهرة الهجرة.
- «اتفاق ميثاقي». إذا تعذرت الحلول السابقة قد يطلب رئيس الجمهورية من القوى الرئيسية تشكيل «حكومة مؤقتة» تنحصر مهامها بإقرار الموازنة وتأمين استقرار المؤسسات وتعديل القانون الانتخابي والدعوة لإجراء انتخابات جديدة. مثل هذا الاتفاق يستثني سيلفيو برلسكوني، وقد يكون بمثابة الخاتمة الفعلية لمسيرته السياسية وثمناً باهظاً لعودته المتعثرة.