فنزويلا... بؤرة قلق أميركا اللاتينية

انتخابات رئاسية مقبلة وسط ارتفاع أعداد النازحين وتفاقم الأزمات الإقليمية

فنزويلا... بؤرة قلق أميركا اللاتينية
TT

فنزويلا... بؤرة قلق أميركا اللاتينية

فنزويلا... بؤرة قلق أميركا اللاتينية

تعيش فنزويلا المضطربة اليوم أجواء تأجيل بسيط أُقرّ قبل أيام للانتخابات الرئاسية المقدّمة عن موعدها الأصلي. إذ أعلنت اللجنة العليا للانتخابات الفنزويلية أخيراً تأجيل موعد إجراء الانتخابات من مايو (أيار) المقبل إلى يونيو (حزيران) المقبل، وهذا مع العلم أن السلطات اليسارية برئاسة الرئيس نيكولاس مادورو كانت قبلاً قد قدّمت موعد الانتخابات الذي كان يفترض أن يكون في ديسمبر (كانون الأول) المقبل مع نهاية فترة ولاية مادورو.
تصرفات مادورو ضربت عرض الحائط بالمبادرات الدولية ومطالبات المعارضة لإجراء الانتخابات في يونيو المقبل، كما جاءت مطالبات الرئيس نيكولاس مادورو بالإسراع بالعملية الانتخابية لتنسف جهود حل الأزمة في جمهورية الدومينيكان التي تحتضن محادثات المعارضة الفنزويلية وأطراف الحكومة برعاية إقليمية ودولية، ويتعقد المشهد وتعلن الدولة الحاضنة للمفاوضات على لسان رئيسها دانيلو مادينا تعليق المحادثات إلى أجل غير مسمى.
أخذت أزمة فنزويلا حيزاً كبيراً من جولة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في أميركا اللاتينية، وجعلته يتحدث عنها في كل محطاته التي شملت كلاً من المكسيك والأرجنتين والبيرو وكولومبيا، واختتمت بجامايكا.
هذه الأزمة أصبحت تلقي بظلالها على كل دول الإقليم، وبخاصة كولومبيا «جارة فنزويلا» إلى الغرب التي تشارك فنزويلا حدوداً تتخطى مئات الكيلومترات، وعبر هذه الحدود يتدفق يومياً آلاف النازحين والفارين من الأزمة الاقتصادية التي تعصف بها.
هذا الوضع دفع كولومبيا، وأيضاً البرازيل (إلى الجنوب)، إلى تعزيز مراقبة حدودهما مع فنزويلا، ونشر آلاف عناصر الأمن والهجرة لضبط الحدود وحركة النازحين، ولا سيما، مع وصول معدلات التضخم في فنزويلا إلى أرقام قياسية تخطت 4000 في المائة، وخسارة «البوليفر» (العملة الفنزويلية) أكثر من 85 في المائة من قيمتها في دولة تعد من أغنى بلدان العالم بالنفط.
بالطبع اختيار الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أساساً تقديم موعد الانتخابات من ديسمبر إلى مايو، ليس اعتباطياً، وبخاصة، أنه يأتي في وقت حساس. تحديداً، قبيل إعلان كوبا تولّي زعامة جديدة للجزيرة الشيوعية تحل محل عائلة كاسترو في الحكم، مع تنحي الرئيس الحالي راؤول كاسترو وابتعاده عن المشهد السياسي. والمعروف أن كوبا هي محرك اليسار الأميركي اللاتيني والدولة الداعمة لقيادة فنزويلا الحالية. كذلك، يتزامن التقديم بعد انعقاد «قمة الأميركتين» في البيرو، وهي القمة التي سيحضرها زعماء أميركا الشمالية والجنوبية بحضور الرئيس دونالد ترمب؛ ما سيمكن فنزويلا من الحضور بحلة جديدة وسط أزمتها السياسية الطاحنة.
المعارضة الفنزويلية اليمينية والليبرالية، من جانبها انتقدت التحركات الحكومية الأخيرة، ووصفت تقديم موعد الانتخابات من (ديسمبر إلى مايو - قبل التأجيل البسيط ليونيو) بـ«المناورة غير الشرعية»، من منطلق أن الفترة الرئاسية للرئيس مادورو ستنتهي في ديسمبر بنهاية العام الحالي. ومن ثم، فإنها ترى أن الغاية من تقديم الموعد مباغتة المعارضة، ومنعها من تنظيم صفوفها؛ ما يضعف إمكانية خوضها المعركة الانتخابية بالشكل المأمول. وبالفعل، أصابت خطوة السلطات اليسارية المعارضة بحالة من التوتر دفعتها للإقرار بأنها «تلقت ضربة أذهلتها»، على لسان كبير مفاوضي الفريق المعارض للحكومة خوليو بورغيس.

موقف أوروبي قاطع
نواب في البرلمان الأوروبي، من جهتهم، طالبوا بتوسيع العقوبات المفروضة على فنزويلا «لتطاول» الرئيس نيكولاس مادورو، وحذروا من أن الاتحاد الأوروبي لن يعترف بنتيجة الانتخابات الرئاسية المقبلة «إلا إذا كانت حرة».
وطلب النواب الأوروبيون خلال جلسة حضرها جميع الأعضاء في مقر البرلمان بمدينة ستراسبورغ (شمال فرنسا)، بتأييد 480 نائباً ومعارضة 51 وامتناع 70 عن التصويت، توسيع العقوبات المفروضة على أبرز المسؤولين الفنزويليين «بعد تفاقم الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسانية». وكان في طليعة المستهدفين بالعقوبات الرئيس مادورو ونائبه طارق العيسمي والمسؤولون العسكريون الرئيسيون.
وجاء في بيان للبرلمان: إن «الاتحاد الأوروبي لن يعترف بالانتخابات إلا إذا كانت حرة ومنصفة». كما أضاف البيان إن «الانتخابات الوحيدة التي سيعترف بها الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، بما في ذلك البرلمان، هي انتخابات تقوم على جدول زمني انتخابي واقعي، يتفق عليه في إطار حوار وطني بين كل الأطراف المعنيين والأحزاب السياسية، مع شروط مشاركة مماثلة للجميع تكون منصفة وشفافة».
ما تجدر الإشارة إليه أن الرئيس مادورو، وريث الرئيس اليساري العسكري الراحل هوغو تشافيز، مرشح في هذا الاقتراع. وكانت فيديريكا موغيريني، وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، قد قالت أمام النواب الأوروبيين، إنه «يجب تحاشي فرض ظروف مفتعلة للحد من مشاركة الأحزاب السياسية». وعلى جانب آخر، فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقاً أولياً بسبب تقارير تفيد بأن قوات الأمن في فنزويلا تستخدم العنف المفرط ضد المتظاهرين منذ عام 2017، وأعلنت المحكمة، التي تتخذ من لاهاي (هولندا) مقراً لها، أنها ستبحث في الادعاءات المتعلقة باعتقال الآلاف من أفراد المعارضة، بالإضافة إلى الانتهاكات التي يواجهونها خلال الاعتقال.

احتجاجات منذ سنة
تجدر الإشارة إلى أن فنزويلا تشهد احتجاجات منذ أبريل (نيسان) الماضي، حين تحرك الرئيس مادورو لتعزيز سلطاته. وكما سبقت الإشارة، رغم تمتع فنزويلا باحتياطيات نفطية تعد بين الأضخم في العالم بها، فإنها تعاني من التضخم ونقص السلع الأساسية. وفي تقرير صدر في أغسطس (آب) 2017، خلص مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى أن استخدام قوات الأمن القوة المفرطة بهدف وقف المظاهرات وعنف الجماعات المسلحة الموالية لمادورو كان وراء سقوط 70 قتيلاً على الأقل. ومن ثم، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تقرر في مرحلة لاحقة، استناداً إلى المعلومات التي تم جمعها خلال التحقيق الأولي، فتح تحقيق رسمي بالواقعة.
بجانب هذا المشهد المعقد، تضاف حزمة العقوبات المفروضة على سلطات كاراكاس من كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. إذ فرضت واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي عقوبات استهدفت قيادات بارزة في إدارة الرئيس مادورو كذلك طالت العقوبات قطاع النفط في البلاد، وبخاصة شركة النفط الوطنية. وهو ما دفع وزير الخارجية تيلرسون للقول إن الولايات المتحدة ستضع في اعتبارها تأثير أي حظر نفطي محتمل ضد فنزويلا، على دول أخرى في المنطقة. وأضاف تيلرسون، الذي كان يتكلم في مدينة كينغستون، عاصمة جامايكا - المحطة الأخيرة في جولته والدولة الوحيدة غير اللاتينية في برنامج جولته بأميركا اللاتينية، إن بلاده «ستأخذ في الاعتبار بشكل كامل التأثيرات على الدول الإقليمية، وسيصار إلى النظر في الإجراءات التي قد تتخذها واشنطن للتخفيف من الآثار السلبية». أيضاً، أشار تيلرسون إلى إنه بحث هذه المسألة مع رئيس الوزراء الجامايكي أندرو هولنيس. من ناحية أخرى، جاءت تصريحات تيلرسون بعدما كان قد أثار إمكانية فرض حظر نفطي على فنزويلا خلال زيارة للأرجنتين. وفي المقابل، قال الرئيس الفنزويلي مادورو، إن بلاده «ستواجه مثل هذا الحصار؛ لأن دولاً غير الولايات المتحدة مستعدة لشراء النفط منها».

واشنطن تزيد الضغط
كانت التركيز في محطات جولة تيلرسون في المكسيك والأرجنتين والبيرو وكولومبيا، وأخيراً جامايكا، على زيادة الضغط على فنزويلا. ومعلوم أن واشنطن تتهم السلطات اليسارية الحاكمة في العاصمة كاراكاس بالفساد وانتهاكات حقوق الإنسان. وبجانب الموقف السياسي السلبي الأميركي أساساً من الحكم الفنزويلي، ابتداءً من الرئيس السابق الراحل تشافيز، والمستمر بعده في عهد خلفه مادورو، أسهم في معاناة فنزويلا الاقتصادية والسياسية تراجع أسعار النفط. كذلك، تتهم واشنطن وقوى المعارضة التي تدعمها واشنطن مادورو وحكمه – ومن قبله حكم تشافيز - بسوء الإدارة طال لسنوات. واليوم، أدى التضخم المتصاعد إلى نقص الغذاء والمعاناة المعيشية؛ ما دفع مئات الآلاف من الفنزويليين إلى عبور الحدود إلى كولومبيا.

روسيا والصين
تداعيات الأزمة الفنزويلية امتدت أكثر في الآونة الأخيرة، لتشمل علاقة كاراكاس مع كل من موسكو وبكين. إذ تتهم المعارضة اليمينية الفنزويلية المدعومة من واشنطن، حكومة الرئيس مادورو بالاستعانة بالصين لدعم الاقتصاد الفنزويلي. كذلك، تتهمها بشراء السلاح من روسيا بحيث تغدو فنزويلا محوراً إقليمياً أساسياً في القارة الأميركية للإقليم، يمكن أن يؤدي إلى احتكاك بين الصين والولايات المتحدة.
ولقد ردت وزارة الخارجية الصينية أخيراً على تهم المعارضة الفنزويلية، وكذلك اتهام وزارة الخزانة الأميركية لبكين بمساعدة حكومة مادورو «من خلال استثمارات غامضة قائمة على مبدأ النفط مقابل القروض»، فقالت: إن دعم الصين لفنزويلا «عاد على المواطنين الفنزويليين العاديين بالفائدة، ولاقى ترحيباً كبيراً». فلقد كان ديفيد مالباس، كبير الدبلوماسيين الاقتصاديين بوزارة الخزانة الأميركية، قد ادعى في خطاب ألقاه بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية «أن تركيز الصين على السلع وصفقات التمويل الغامضة أضر بدول المنطقة بدلاً من أن يساعدها». وجاء انتقاد مالباس دور الصين في مساعدة سلطات كاراكاس بعد طرح وزير الخارجية تيلرسون «احتمال وقوع انقلاب عسكري» في فنزويلا.
غير أن المتحدث باسم الخارجية الصينية، تشينغ شوانغ، رد على المواقف الأميركية بالقول: إن «التعاون المالي بين الشركات والمؤسسات في البلدين يقوم على مبدأ تبادل المنفعة». وأردف المتحدث الصيني: إن «القروض تتماشى تماماً مع المعايير الدولية، وعادت بالنفع على شعب فنزويلا... وما قالته الولايات المتحدة لا أساس له ويتسم بانعدام مسؤولية شديد».
كذلك، أشار المتحدث الصيني إلى أن «التعاون بين الصين وفنزويلا ساهم في بناء أكثر من عشرة آلاف منزل منخفض التكلفة، وتوليد الكهرباء، وتوفير الأجهزة المنزلية لثلاثة ملايين أسرة فنزويلية منخفضة الدخل». واستطرد قائلاً: إن التعاون بين الصين وفنزويلا «دفع التنمية الاجتماعية الاقتصادية في فنزويلا إلى الأمام، وقوبل بالترحيب والدعم من كل المستويات في المجتمع». وضمن هذا الإطار، سبق للصين أن اتهمت من جانبها واشنطن بأنها «لا تحترم أميركا اللاتينية»، وذلك بعدما حذر الوزير تيلرسون دول أميركا اللاتينية «من الاعتماد الزائد على الروابط الاقتصادية مع الصين».

الهجرة أزمة لدول الجوار
أوضاع الشوارع والمباني في المدن الفنزويلية، وفق المصادر الغربية، موجع للغاية، وتزداد الأوضاع سوءاً يوماً بعد يوم. وقال أحد سكان العاصمة كاراكاس في مقابلة صحافية: «الحزن يعم الجميع هناك. لا أمل لأحد الآن، ولا يعرف أحد ما يجب القيام به. لقد سئم الجميع كل شيء، وخيبة الأمل منتشرة في كل مكان... يشعر الجميع بالضياع التام».
هذا المشهد يعبر عنه بوضوح منظر وصول الآلاف من رعايا فنزويلا في كل يوم إلى كولومبيا. بعضهم يبحث عن المواد الغذائية الأساسية أو عن الأدوية، وبعضهم الآخر يبحث عن مستقبل لحياته. لكن الواقع أنه، يستحيل الوقوف على الرقم الحقيقي للاجئين والنازحين الفنزويليين الذين يعيشون اليوم في المدن الكولومبية؛ إذ إن كثيرين منهم يعيشون هناك بصورة غير مشروعة أو بصفة مؤقتة.
وكالة «الهجرة في كولومبيا» تشير إلى أن عشرات الآلاف من رعايا فنزويلا يعيشون حالياً في البلاد. وتعكس هذه الأرقام حالة الدعم الاجتماعي التي توفرها الحكومة الكولومبية اليمينية للنازحين الذين يغادرون البلاد المأزومة، وهي السياسة التي تثير توتراً جديداً بين حكومتي البلدين. وبالمناسبة، كانت الولايات المتحدة أيدت تقديم الدعم المالي إلى كولومبيا لاحتواء الأزمة. غير أن كولومبيا ليست بالضرورة الوجهة الوحيدة للفنزويليين الراغبين بمغادرة بلدهم. فمن المقاصد الأخرى المفضلة للفنزويليين الولايات المتحدة وإسبانيا، ولا سيما بالنسبة لأولئك الذين لديهم صلات عائلية هناك. يضاف إلى ذلك، رصد ميل واضح للهجرة إلى الأرجنتين وتشيلي، في أقصى الطرف الجنوبي من قارة أميركا اللاتينية.

مادورو ابن «الطبقة العمالية»
- من هو الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، وريث الزعيم اليساري السابق هوغو تشافيز؟
اسمه الكامل هو نيكولاس مادورو موروس، ويبلغ من العمر 55 سنة. وهو متزوج من سيليا فلوريس، التي هي أيضاً من وجوه الحركة التشافيزية وكانت مدعية عامة سابقة للجمهورية.
نشأ مادورو في حي تقطنه الطبقة الوسطى بالعاصمة كاراكاس، حيث ناضل في مرحلة الدراسة الثانوية، كما كان عازف غيتار في فرقة روك إبان فترة مراهقته. وفي المرحلة الجامعية، أمضى سنة في دراسة العلوم السياسية في كوبا. كما كان في شبابه سائق حافلات، كما كان قيادياً في نقابة مترو كاراكاس. ويقال إنه كان موضع سخرية في بداياته السياسية، لكنه حزم منذ 2013 تولى مقاليد الحكم في فنزويلا.
المحلل السياسي الأميركي مايكل شيفر، قال في معرض تقييمه تجربة مادورو وشخصيته: «كثيرون قللوا من شأنه، بل ثمة من نعاه سياسياً منذ أن أصبح رئيساً. لكن، على الرغم من تعدد المظاهرات المناوئة وشبه إفلاس البلاد وتدهور الشعبية، لا شيء كما يبدو يهز سلطته. وهذا، مع أنه لا يتمتع بجاذبية سلفه الراحل هوغو تشافيز ولا فصاحته».
من ناحية ثانية، يقول عنه فيليكس ساياس، مدير معهد ديلفوس للاستطلاعات: «مادورو شخص ماهر جداً في تحقيق التوازنات، ونجح في تقسيم السلطة داخل التيار التشافيزي الذي كانت له القبضة الحديدية في حكم البلاد إبان الرئيس الراحل تشافيز. هذا أكسبه السلطة اللازمة لفرض ترشحه للانتخابات الرئاسية». وأردف ساياس: إنه «يملك نوعاً من الجرأة السياسية. وبعدما رشحه الحزب الاشتراكي الموحد (الحاكم) رسمياً للانتخابات الرئاسية، من المتوقع أن يحكم نيكولاس مادورو في حال فوزه فنزويلا حتى عام 2025، وحين لا يكون في جولة ميدانية في العاصمة كاراكاس، فإنه يشاهد صباحاً عبر قناته على (يوتيوب) وبيده كأس من الشاي جلبته زوجته سيليا فلوريس، وهو يخاطب الفنزويليين».
ويتابع ساياس قراءته في شخصية الرئيس اليساري: «سلطته مصدرها تشافيز، الذي كان قد رشحه لخلافته قبل وفاته، إلا أننا الآن إزاء مادورو آخر مختلف... مادورو يدرك أنه أقوى؛ ولذا فهو هو أكثر شراسة». وحقاً، مع ظهور يومي وخطابات مطولة وتصريحات مناهضة للإمبريالية، يشبه مادورو كثيراً سلفه ومرشده تشافيز، الذي كان حكم فنزويلا بين 1999 و2013، إلا أن تصرفات مادورو دفعت رجال حقبة تشافيز لانتقاده ومن هؤلاء رافايل راميريز، سفير فنزويلا الأسبق لدى الأمم المتحدة، الذي أقيل من منصبه في ديسمبر 2017 من منصبه بتهمة الفساد. ومما قاله راميريز – الذي يدعي متابعون أن مادورو تخلص منه بعدما رأى البعض فيه منافساً محتملاً له: إن مادورو «أفرط في استغلال اسم تشافيز وصورته، لكنه مهما فعل فلن يشبه تشافيز».
مع هذا، فإن الرئيس اليساري الطموح والشعبوي عمل على تحسين صورته. فهو يصف نفسه دائماً بأنه رئيس «جاء من طبقة العمال»، ويقود سيارته الرباعية الدفع، ويسخر من لكنته حين يتحدث بالإنجليزية ويرقص «السالسا»، ثم إنه لا يكاد يغيب عن وسائل التواصل الاجتماعي.
وعنه قال مسؤول في القطاع الخاص، كان على اتصال به حين كان وزيراً للخارجية: إنه «يملك أسلوباً بسيطاً. وهو لا يفقد حسه الفكاهي حتى عندما تغرق البلاد. إنه خطيب جيد، لكنه ليس تشافيز».
جدير بالإشارة، أن مادورو تولى منذ 2006 وزارة الخارجية في عهد سلفه تشافيز، الذي عينه لاحقاً نائباً للرئيس في أعقاب بالانتخابات الرئاسية في 7 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2012، وعند وفاة تشافيز، أصبح مادورو رئيساً بالوكالة. ثم انتخب رئيساً.
هذا، وتشمل مسيرة مادورو أيضاً، توليه لفترة قصيرة رئاسة الجمعية الوطنية (البرلمان) في الفترة بين عام 2005 وعام 2006. وفي عام 1998 فاز بأول ولاية له نائباً في البرلمان تحت راية «حركة الجمهورية الخامسة» التي أسسها تشافيز الذي وصل إلى السلطة في العام ذاته. وكان الرجلان التقيا أيضاً في صلب «الحركة الثورية البوليفارية» التي أسسها تشافيز أيضاً، وقاد إبان رئاسته لها انقلاباً فاشلاً ضد الرئيس كارلوس أندرياس بيريز في 1992.



لبنان: تدابير سياسية ــ عسكرية لتجنب جولة جديدة من الحرب

جنود قرب مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان خلال عملية تسليم مجموعات فلسطينية سلاحها للجيش اللبناني يوم 13 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)
جنود قرب مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان خلال عملية تسليم مجموعات فلسطينية سلاحها للجيش اللبناني يوم 13 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)
TT

لبنان: تدابير سياسية ــ عسكرية لتجنب جولة جديدة من الحرب

جنود قرب مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان خلال عملية تسليم مجموعات فلسطينية سلاحها للجيش اللبناني يوم 13 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)
جنود قرب مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان خلال عملية تسليم مجموعات فلسطينية سلاحها للجيش اللبناني يوم 13 سبتمبر 2025 (أ.ف.ب)

نجح لبنان الرسمي، إلى حد كبير، نتيجة التدابير السياسية والعسكرية التي اتخذها في الفترة الماضية، في وقف، أو «فرملة»، التصعيد الإسرائيلي الذي كان مرتقباً قبل نهاية العام، رداً على ما تقول تل أبيب إنها محاولات من قبل «حزب الله» لإعادة ترميم قدراته العسكرية. وتلعب واشنطن، راهناً، دوراً أساسياً في الضغط على إسرائيل لإعطاء فرصة للمسار السياسي - الدبلوماسي الذي انطلق مؤخراً مع موافقة الدولة اللبنانية على تطعيم الوفد الذي يفاوض في إطار لجنة وقف النار (الميكانيزم) بشخصية مدنية.

عُقدت يوم الجمعة، جولة ثانية من مفاوضات مدنية بين لبنان وإسرائيل، هي الأولى من نوعها منذ 40 عاماً، بعد انضمام السفير اللبناني السابق سيمون كرم، والمدير الأعلى للسياسة الخارجية في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي يوري رسنيك، إلى المستشارة الأميركية مورغان أورتاغوس، لاجتماعات لجنة الإشراف على تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية (الميكانيزم)، مشاركين مدنيين إلى جانب العسكريين.

ويطمح لبنان الرسمي أن تؤدي هذه المفاوضات لتنفيذ مطالبه بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي لا تزال تحتلها، وتحرير الأسرى المحتجزين لديها، ووقف اعتداءاتها وخروقاتها للسيادة اللبنانية، فيما بدا لافتاً حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عن نيته أن يؤدي هذا المسار التفاوضي إلى تعاون اقتصادي مع لبنان.

استراتيجية عسكرية جديدة

وبدا واضحاً مؤخراً أنّ قيادة الجيش اللبناني تنتهج استراتيجية جديدة في إدارة المرحلة، تسعى من خلالها للتأكيد أنها تنفّذ كامل مهامها جنوب نهر الليطاني، بعكس ما يروج له الإسرائيليون عن تلكؤ وتباطؤ في هذا المجال. وفي هذا الإطار، نظّم الجيش جولة أولى للإعلاميين المحليين والأجانب، تلتها جولة مماثلة للسفراء والدبلوماسيين الأجانب إلى منطقة جنوب الليطاني، للاطلاع من كثب على ما تم إنجازه على الأرض. ويهدف الجيش من خلال هذه الخطوات إلى كسب الرأي العام الدولي إلى صفّه، وإحراج إسرائيل التي ترفض تقديم أي تنازل لملاقاة التنازلات اللبنانية المتتالية.

وأسهمت موافقة الجيش اللبناني على تفعيل مهامه جنوب نهر الليطاني، بما في ذلك تفتيش بعض المنازل التي حدّدتها لجنة «الميكانيزم»، في دعم مسار التهدئة القائم وقطع الطريق على الحجج والمبررات الإسرائيلية لتوجيه ضربة عسكرية جديدة وواسعة داخل لبنان.

وانتقد مقربون من «حزب الله» إجراءات الجيش الأخيرة، واعتبروا أن الموافقة على تفتيش منازل السكان «تنازل جديد يُقدم عليه لبنان وخضوع للإرادة والرغبة الإسرائيلية، ما سيستدعي مزيداً من الطلبات والشروط من قبل تل أبيب».

في المقابل، يعتبر الجيش أنه وبإجراءاته هذه، يجنّب أهل الجنوب مزيداً من القتل والدمار، خصوصاً بعد إلغاء إسرائيل مؤخراً ضربة جوية هددت بها لأحد المنازل بعد إقدام الجيش اللبناني على تفتيشه أكثر من مرة، للتأكد من خلوه من الأسلحة.

فرصة دبلوماسية

وبعدما كانت كل الأجواء الداخلية والخارجية ترجّح فرضية اندلاع حرب إسرائيلية جديدة مع «حزب الله» نهاية العام الحالي، أو مطلع العام الجديد، خصوصاً مع إعلان وزير الخارجية اللبناني، يوسف رجي، مؤخراً عن تحذيرات وصلت من جهات عربية ودولية تفيد بأن إسرائيل تحضّر لعملية عسكرية واسعة ضد لبنان، يتحدث مسؤولون لبنانيون الآن عن تمديد المهلة المعطاة للبنان لإنجاز مهمة حصرية السلاح على كامل الأراضي اللبنانية.

وفي هذا السياق، يشير النائب آلان عون إلى «فرصة أعطيت للمسار التفاوضي الذي أطلقه رئيس الجمهورية عبر السفير سيمون كرم، لعلّه يحقّق تقدّماً في ملف السلاح من جهة والمطالب اللبنانية من جهة أخرى، إلا أن لا أحد يمكنه أن يضمن أن فترة السماح هذه ستدوم طويلاً، ما يبقي لبنان تحت خطر مرحلة تصعيد وجولة عنف أخرى لتحقيق مكتسبات أو فرض تنازلات لم تحققها المفاوضات». ويلفت عون في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «الأميركيين كانوا وراء الفرصة الدبلوماسية الجديدة، وهم من ضغطوا على الطرف الإسرائيلي للتجاوب مع دعوة رئيس الجمهورية (جوزيف عون) إلى التفاوض. وجاء تعيين (السفير) كرم في هذا السياق». ويضيف: «لكن رعايتهم لمسار التفاوض الذي يتناسب مع الرغبة اللبنانية، لا يلغي تأييدهم الكامل لإسرائيل وخطواتها في حال فشل المفاوضات وعودة التصعيد».

ويعتبر النائب عون أن «موقع لبنان التفاوضي صعب جداً، ولذلك يجب أن تكون استراتيجية التفاوض قائمة على مبدأ الاتفاق وفق (السلّة الكاملة) التي ترضي الطرفين، ولو تطلّب الحلّ جدولة مراحل لتنفيذه على غرار اتفاق غزة، لأن لبنان، للأسف، عاجز عن فرض أي شروط وتنازلات جزئية في ظلّ الخلل الفادح بميزان القوى».

خلاف أميركي - إسرائيلي

ويذهب دبلوماسيون سابقون أبعد في مقاربة ما يجري، معتبرين أنّ التطورات تندرج في إطار «كباش» أميركي - إسرائيلي؛ فبينما تسعى واشنطن وإدارة الرئيس دونالد ترمب إلى تثبيت الاستقرار في المنطقة، تفضّل إسرائيل مواصلة عملها العسكري لتحقيق أهدافها.

ويرى السفير اللبناني السابق في واشنطن رياض طبارة، أن «لبنان ليس لاعباً أساسياً في المشهد الحالي، لذلك تراه يتجاوب مع التحركات الخارجية المتعارضة على قدر المستطاع، وقد تفهمت واشنطن الموقف اللبناني الذي ينسجم مع المثل القائل (العين بصيرة واليد قصيرة)».

ويعتبر طبارة في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «لبنان الرسمي وبالقرارات والإجراءات الأخيرة التي اتخذها يسير على الطريق الصحيح بمواكبة التطورات»، مستبعداً «جولة حرب إسرائيلية جديدة في ظل وجود (فيتو) أميركي واضح يتصدى لمثل هذا السيناريو». ويضيف: «الخلافات طفت إلى السطح بين ترمب ونتنياهو؛ فالأول يريد السلام في أوكرانيا والشرق الأوسط، فيما يعتبر الثاني أن هناك فرصة للتوسع باتجاه إسرائيل الكبرى ويعمل لمواصلة ضرباته لـ(حزب الله)».

ويشير طبارة إلى أن «اللوبي الإسرائيلي في أميركا يعيش حالة تضعضع وانقسام حول دور إسرائيل في العالم، وهو ما تجده الإدارة الأميركية الحالية فرصة لممارسة ضغط غير مسبوق على إسرائيل»، متوقعاً «لقاء حامياً مرتقباً بين ترمب ونتنياهو الذي تم استدعاؤه لإبلاغه بخطوط حمراء، وأبرزها خط أساسي يقول بتفادي الوصول إلى حرب مفتوحة».

كما يرى طبارة أن «إسرائيل أصلاً مرتاحة للواقع الراهن، بحيث إنها تستهدف من تشاء، وما تشاء، عندما تريد وأينما تريد، ما يعزز فرضية استمرار مرحلة الستاتيكو (الجمود) المتواصلة منذ اتفاق وقف النار في نوفمبر (تشرين الثاني) العام الماضي».

ويلتقي ترمب نتنياهو في فلوريدا بالولايات المتحدة يوم 29 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. وفيما يتصدر ملف غزة والانتقال إلى تطبيق المراحل اللاحقة من الاتفاق المرتبط بالقطاع، يحضر الملف اللبناني إلى جانب الملف السوري والعلاقة مع إيران بقوة على طاولة الاجتماع.

ويأمل المسؤولون اللبنانيون في أن يواصل ترمب ضغوطه على نتنياهو لتجنيب لبنان جولة جديدة من العنف، وإن كانوا يرون أن تل أبيب ستواصل عملياتها العسكرية التي تتركز على عمليات اغتيال عناصر ومسؤولين في «حزب الله».

تشدد «حزب الله»

ووسط كل هذه التطورات، يواصل «حزب الله» تشدده في التعامل مع ملف سلاحه شمال نهر الليطاني، بحيث خرج أمينه العام الشيخ نعيم قاسم مؤخراً، ليقول: «سندافع عن أنفسنا حتى لو أُطبقت السماء على الأرض. لن يُنزع السلاح تحقيقاً لهدف إسرائيل، ولو اجتمعت الدنيا بحربها على لبنان. افهموا جيداً: الأرض والسلاح والروح خلطة واحدة متماسكة. أيّ واحد تريدون نزعه أو تمسّون به، يعني أنّكم تمسّون بالثلاثة وتريدون نزعها، وهذا إعدام لوجودنا، ولن نسمح لكم بذلك، ولن يكون هذا».

ويرى أستاذ القانون والسياسات الخارجية في باريس الدكتور محيي الدين الشحيمي، أن «لبنان محاصر بين احتلالين: الأول؛ احتلال (حزب الله)، رغم هزيمته في الحرب، واستمراره في عرقلة كل الخطوات التي تقوم بها السلطة في لبنان للوصول إلى مفهوم الدولة الحقيقي والدستوري. أما الاحتلال الثاني؛ فهو الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني الذي أتى نتيجة مباشرة لدخول الحزب والممانعة بالحرب بطريقة غير شرعية ودستورية، مع استمرار الكيان الإسرائيلي بالغلو وإبراز تفوقه».

ويعتبر الشحيمي في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «الدولة اللبنانية المتمثلة بالعهد الحالي، تعمل بجهد كبير بين ألغام الداخل الممانع وضغوطات الخارج الملحة، بحيث تنكب سلطتها التنفيذية بثنائية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة على تجنيب لبنان المآسي والحرب، حيث كان لتعيين السفير الأسبق سيمون كرم رئيساً للوفد اللبناني في (الميكانيزم) صدى إيجابي محلياً ودولياً»، لافتاً إلى أن «هذه الخطوة وضعت لبنان على سكة الدولة الراشدة والمتكلمة عن نفسها، وهو ما كان يطلب منها في الأروقة الدولية كأي شرط طبيعي في ملف المفاوضات، ذلك أن وجود شخصية مدنية سياسية تتسلم زمام الأمر اللبناني التنفيذي ضمن الأطر الاتفاقية، جنّب لبنان الاستهدافات الإسرائيلية للبنية الحيوية الرسمية والحكومية، وهو ما تجهد عناصر دول العالم الصديقة المولجة مساعدة لبنان على تثبيته وتأمينه، خصوصاً في واشنطن وباريس».

ويرى الشحيمي أن «استمرار (حزب الله)، في المقابل، بتعنته وتمسكه بالسلاح وتفريقه بين شمال الليطاني وجنوبه (...) هو إعلان صريح بخرقه اتفاق نوفمبر 2024، الذي وضع أسس ومراحل تنفيذ وقف إطلاق النار، وهذا ما يضع لبنان من جديد تحت رحمة الاستهدافات الإسرائيلية من بوابة استهداف الحزب الذي يبرهن عن نفسه كل يوم في كونه أداة إيرانية بعناصر لبنانية على الأرض اللبنانية؛ يُطبّق وصايا الحرس الثوري لأهداف غير لبنانية».

طروحات مقلقة

ويفترض أن ينجز الجيش اللبناني مهمة حصرية السلاح جنوب نهر الليطاني، أي على الحدود مع إسرائيل، نهاية العام الحالي، ويقدّم قائده العماد رودولف هيكل، تقريره الثالث عما تم تحقيقه حتى الساعة، ليفتح بذلك باب النقاش واسعاً على كيفية تطبيق مندرجات قرار مجلس الوزراء بملف السلاح شمال نهر الليطاني، في ظل رفض «حزب الله» التام التعاون وتسليم السلاح في هذه المنطقة.

وتخشى قوى لبنانية معارضة لـ«حزب الله» طروحات يتم التداول بها علناً، وأخرى خلف الأبواب المغلقة بخصوص حل أزمة سلاح الحزب، على غرار إبقاء السلاح المتوسط والخفيف الذي لا يهدد أمن إسرائيل، بيد عناصر الحزب، وكذلك إعطاء الحزب مكاسب سياسية على حساب أطراف أخرى من أجل إقناعه بأن يوافق على تسليم سلاحه. وكان موقف المبعوث الأميركي توم برّاك، الذي اعتبر فيه أنه «ليس من الضَّروري نزعُ سلاح (حزب الله)، إنما منع استعماله»، قد فاقم هذه الهواجس.


خوسيه أنطونيو كاست... «بينوشيه جديد» في تشيلي بصناديق الاقتراع

خوسيه أنطونيو كاست... «بينوشيه جديد» في تشيلي بصناديق الاقتراع
TT

خوسيه أنطونيو كاست... «بينوشيه جديد» في تشيلي بصناديق الاقتراع

خوسيه أنطونيو كاست... «بينوشيه جديد» في تشيلي بصناديق الاقتراع

بعد 35 عاماً على سقوط نظام الجنرال أوغوستو بينوشيه، قرر التشيليون، يوم الأحد الفائت، بأغلبية ساحقة، اختيار أحد أنصاره رئيساً جديداً لهم، في انتخابات مُنيت فيها القوى اليسارية بأقسى هزيمة منذ عودة النظام الديمقراطي في عام 1990. الرئيس الجديد، خوسيه أنطونيو كاست، مولود في العاصمة سانتياغو منذ 59 عاماً من أسرة ألمانية هاجرت إلى تشيلي بطريقة غير شرعية في نهاية الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها والده جندياً في الجيش النازي. يشكّل وصول كاست إلى رئاسة تشيلي التي تنعم بنسبة عالية من الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي في محيطها الإقليمي المضطرب، خطوة متقدمة في الاستدارة اليمينية لأنظمة الحكم في أميركا اللاتينية التي تحظى باهتمام خاص من الإدارة الحالية في الولايات المتحدة. سارعت إدارة الرئيس دونالد ترمب إلى تهنئة الرئيس المنتخب، معربة عن استعدادها لفتح صفحة جديدة من التعاون معه.

في سبتمبر (أيلول) 1988 ذهب التشيليون إلى صناديق الاقتراع في استفتاء شعبي حول بقاء الجنرال بينوشيه في الحكم أو رحيله. سبقت الاستفتاء حملة واسعة شارك فيها أنصاره ومعارضوه في أنحاء البلاد، وبخاصة في الأوساط الطلابية التي كانت المعقل الرئيسي للقوى المعارضة، من أقصى اليسار إلى اليمين المحافظ والمعتدل. يومها برز بين القوى الطلابية المؤيدة لبقاء بينوشيه في الحكم، شاب في الثانية والعشرين من عمره، يدعى خوسيه أنطونيو كاست، يدرس الحقوق في جامعة سانتياغو الكاثوليكية، ويعتبر أن النظام العسكري الذي يقوده الجنرال، بعد انقلابه على حكومة الشيوعي سالفادور الليندي، هو «لصالح جيل الشباب، ومؤسس لمستقبل زاهر من الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي في تشيلي».

يومها كان ميغيل، الشقيق الأكبر لخوسيه أنطونيو، وزيراً غير مرة في حكومة بينوشيه الأولى وحاكماً للمصرف المركزي، وأحد أركان الدائرة الضيقة التي كانت تحيط بالجنرال وتسعى لبقائه في الحكم، رغم تنامي المعارضة الشعبية ضده وفقدانه للعديد من حلفائه الإقليميين والدوليين. كما أن شقيقاً آخر له، بين أشقائه التسعة، كان قد أدين في تحقيق حول اختفاء عشرات الطلاب والمزارعين وإعدام العديد منهم عام 1973.

بعد مرور أربعين عاماً تقريباً على تلك الحقبة، وصل خوسيه أنطونيو كاست إلى سدة الرئاسة ليقول في أول تصريح له بعد دقائق معدودات من تأكد فوزه مساء الأحد الفائت: «ما كان ليحصل الذي حصل لولا وجود الله معنا»، فيما كان أنصاره يهتفون للرئيس المنتخب الذي «أنقذهم من الشيوعية». في تلك الأثناء، كان الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، الحليف الإقليمي الأوثق للرئيس الأميركي دونالد ترمب، يعلن عن ابتهاجه بفوز من وصفه بالصديق، معتبراً فوزه «خطوة جديدة في المنطقة على طريق الدفاع عن الحياة والحرية والملكية الخاصة»، فيما كانت التهاني تنهال عليه من أقطاب اليمين المتطرف في أميركا اللاتينية وأوروبا.

لكن خلافاً للعديد من قادة القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة الذين تشكّل انتماؤهم العقائدي في كنف الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعيشها بلدانهم، وصعدت شعبيتهم من الرغبة العارمة في التغيير وعلى ركام الأحزاب التقليدية، يمكن القول إن كاست هو من «أنقياء» الآيديولوجيا اليمينية المتطرفة التي نهلها من مشاربها الأصلية منذ المراحل الأولى لنشاطه السياسي الذي بدأ بتربيته العائلية، ثم في مرحلة الدراسة الجامعية عندما انضمّ إلى حزب «الاتحاد الديمقراطي المستقل» الذي أنشأه خايمي غوزمان المنظّر العقائدي لنظام بينوشيه والذي اغتالته المعارضة عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ عام 1991، واستمرت لما يزيد على عشرين عاماً في صفوف ذلك الحزب حيث تولّى مناصب عديدة، منها أربع ولايات متتالية كعضو في البرلمان، قبل أن ينشقّ عنه في عام 2016 لاعتباره أن الحزب قد انحرف عن مشروعه الأصلي وتخلّى عن «المبادئ الأخلاقية» التي وضع أسسها الجنرال بينوشيه.

بعد عام واحد على انشقاقه عن «الاتحاد الديمقراطي المستقل»، قرر كاست خوض المعركة الرئاسية، فحصد في انتخابات عام 2017 فشلاً ذريعاً، إذ لم ينل سوى 8% من الأصوات، ليعلن أنه يؤمن بـ«الله والوطن والعائلة»، وأنه سيواصل مسيرته بعزم وإيمان، قائلاً: «لو كان الجنرال بينوشيه على قيد الحياة لكان صوّت لي». وبعد إعلان هزيمته في تلك الانتخابات، توجّه إلى السجن لزيارة ميغيل كراسنوف الذي كان القضاء قد أدانه بالحبس ألف عام (1000 عام) لارتكابه عشرات الجرائم ضد الإنسانية على عهد بينوشيه. وكان كاست، في حملته الانتخابية تلك، اقترح إغلاق الحدود البرية مع بوليفيا لوقف تدفق المخدرات، وتعيين مدرّس للتعليم الديني في المعاهد الرسمية، والعفو عن المعتقلين لأسباب تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان إبان الحكم العسكري.

في عام 2019، أسّس كاست «الحزب الجمهوري» عشيّة اندلاع موجة الاحتجاجات الشعبية والطلابية التي اجتاحت البلاد ضد النظام الليبرالي الجديد الذي كان بدأ يترسّخ في تشيلي. صارت تلك الاحتجاجات تُعرف لاحقاً بالانفجار الاجتماعي، وتصدّت لها الحكومة بقمع شديد أوقع عدداً من القتلى. وعندما أعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية للمرة الثانية، في عام 2021، خاض حملته تحت عنوان «استعادة الأمن والنظام ومحاربة الانفجار الإجرامي». ورغم تضمين برنامجه عناوين مثل «اليمين الجديد» و«مواجهة الانهيار الآيديولوجي والمؤسسي»، أو مثل «استعادة دور الثقافة في الحياة العامة»، أعلن من غير مواربة معارضته لزواج المثليين والإجهاض، داعياً إلى إلغاء وزارة شؤون المرأة، والمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، معرباً في إحدى الندوات عن خشيته من أن «امرأة تتحول إلى رجل لتصبح فيما بعد كاهناً».

في الجولة الأولى من تلك الانتخابات، حلّ كاست في المرتبة الأولى حاصداً 28% من الأصوات، لكن في الجولة الثانية، ورغم جنوح خطابه نحو الاعتدال وطرح بعض الطروحات التوفيقية، خسر أمام مرشح اليسار الرئيس الحالي غابرييل بوريتش الذي قال له عندما هاتفه ليل الأحد الفائت للتهنئة: «سوف تشعر بوطأة الوحدة في السلطة». بعد هزيمته الثانية تولّى رئاسة «الشبكة السياسية للقيم»، وهي منظمة تضمّ سياسيين وناشطين يمينيين من أميركا اللاتينية وأوروبا والولايات المتحدة وأفريقيا، يعارضون الحركة النسائية الراديكالية والإجهاض والمساواة بين الأجناس الاجتماعية. وقبل أيام من مغادرته ذلك المنصب، صرّح قائلاً: « أولئك الذين يسخرون منّا في وسائل الإعلام ويصبّون علينا حقدهم في وسائل التواصل الاجتماعي، هم الذين يخافون منّا لأنهم يعرفون أننا لا نتراجع أو نستسلم في الدفاع عن مبادئنا وقيمنا».

من الأسباب الرئيسية التي أدّت إلى هزيمته في محاولته الثانية للوصول إلى الرئاسة، كانت التعبئة الواسعة في صفوف النساء والطلاب، وذلك قبل أن يصبح الاقتراع إلزامياً بموجب القانون اعتباراً من السنة التالية. وقد حرص كاست في حملته الانتخابية الثالثة على عدم التعمّق في طروحاته الآيديولوجية المثيرة للجدل، مثل معارضة الإجهاض وزواج المثليين والدفاع عن النظام السابق (نظام بينوشيه)، الأمر الذي أثار بعض البلبلة في الوسط الديني المتزمت الذي ينتمي إليه ويناصره بقوة. وركّز، في المقابل، على ضرورة تشكيل حكومة طوارئ تتفرّغ في المرحلة الأولى من ولايته لمعالجة الأزمة الاقتصادية، والوضع الأمني، والهجرة، والنمو الاقتصادي المتباطئ منذ سنوات.

كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها فوز كاست في انتخابات الرئاسة التشيلية بعد ثلاثة عقود ونصف على رحيل الجنرال بينوشيه وفي خضمّ التحولات التي تعتمل في شبه القارة الأميركية اللاتينية التي تحوّلت، في غضون أشهر قليلة، إلى إحدى أولويات الإدارة الأميركية. هل تغيّرت الخريطة السياسية في تشيلي؟ هل انتهت المواجهة التقليدية بين أنصار النظام العسكري ومؤيدي الديمقراطية؟ أو بين جلادي ذلك النظام وضحاياه؟ أو هل أن وصول كاست إلى القصر الذي شهد مقتل، أو انتحار، سالفادور الليندي، ليس سوى النتيجة الحتمية لنهاية فصل سياسي ولفشل القوى والأحزاب التقليدية، اليسارية والوسطية واليمينية، في معالجة الأزمات التي بدأت تحاصر إحدى أنجح التجارب السياسية الحديثة في أميركا الجنوبية؟

الإجابة عن هذه التساؤلات لا بد من أن تنتظر تسلّم كاست مهامه أواسط مارس (آذار) المقبل حين سيعلن برنامج حكومته الذي على أساسه ستحدد القوى المعارضة موقفها من العهد الجديد وأساليب مواجهته، لا سيما أن الأصوات التي حملته إلى سدة الرئاسة في الجولة الثانية من الانتخابات، لا تعكس، على الأرجح، ما يتمتع به من تأييد حقيقي، بل هي مرآة للقوى الرافضة التجربة اليسارية الراهنة.

أميركا اللاتينية... اليسار يتراجع

> لم تكرر واشنطن في تشيلي ما فعلته في الانتخابات الرئاسية التي أجريت مؤخراً في هندوراس (لم تُعلن بعد نتائجها الرسمية). في هندوراس تدخلت الإدارة الأميركية مباشرة بشخص رئيسها دونالد ترمب الذي أعلن دعمه المرشح اليميني نصري عصفورة وهدد بعقوبات في حال عدم فوزه، وذهب إلى حد العفو عن الرئيس الأسبق الذي كان يقضي عقوبة بالسجن 45 في الولايات المتحدة بتهمة الاتجار بالمخدرات مع منظمات إجرامية. في المقابل، نأت واشنطن عن أي تدخل مباشر أو غير مباشر في انتخابات تشيلي. كان وراء ذلك سببان رئيسيان، على الأرجح. أولاً، لأنها كانت مرتاحة للنتيجة المتوقعة بفوز خوسيه أنطونيو كاست. وثانياً، لأنها تدرك مدى الحساسية التي يثيرها موضوع التدخل الأميركي في الشأن الداخلي لتشيلي نظراً لسوابق التاريخ غير البعيد، وخشية من ردة فعل معاكسة تقلب موازين القوى.لكن ذلك لم يكن حائلاً دون مسارعة الخارجية الأميركية إلى تهنئة الرئيس المنتخب، معربة عن استعدادها لفتح صفحة جديدة واسعة من التعاون مع تشيلي «من أجل ترسيخ الديمقراطية والأمن ومكافحة الهجرة غير الشرعية والإرهاب المنظم»، كما جاء في بيان رسمي أميركي. وكان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو قد أعرب عن أمله في أن تشيلي، بقيادة خوسيه أنطونيو كاست، «ستدفع باتجاه أولويات مشتركة بين البلدين».أكثر المهللين لفوز كاست كان الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي الذي قال إنها «خطوة إقليمية كبيرة على طريق الدفاع عن الحياة والحرية والملكية الخاصة في شبه القارة». وأضاف ميلي: «أشعر بسعادة غامرة لهذا الفوز الساحق الذي حققه صديقي كاست. إنني على يقين من أننا سنعمل يداً بيد كي نحرر أميركا اللاتينية من نير اشتراكية القرن الحادي والعشرين». وختم تصريحاته بنشره على وسائل التواصل الاجتماعي خريطة لأميركا الجنوبية والبلدان التي يعتبرها حليفة: تشيلي، الأرجنتين، باراغواي، البيرو والإكوادور، تحت عنوان «اليسار يتراجع والحرية تتقدم».وليس مستغرباً أن يكون رئيس الأرجنتين أكثر المهللين لفوز كاست، خاصة أن العلاقات بين البلدين اللذين يتقاسمان أكثر من خمسة آلاف كيلومتر من الحدود البرية تميّزت بعداء ظاهر بين ميلي والرئيس التشيلي غابرييل بوريتش منذ وصول الأول إلى الرئاسة. وأعرب ميلي عن استعداده للمباشرة فوراً بالعمل مع كاست من أجل مكافحة تجارة المخدرات والجريمة المنظمة عبر الوطنية. وكان كاست صرّح خلال الحملة الانتخابية بأنه يرى في ميلي مصدر إلهام ونموذجاً يحتذى لإنهاض اقتصاد تشيلي من ركوده.ولا شك في أن فوز كاست يعزز مطامح الرئيس دونالد ترمب في المنطقة، خاصة بعد الطوق الذي بدأ بفرضه منذ فترة حول النظام الفنزويلي ونشره عشرات القطع الحربية في منطقة الكاريبي تحت عنوان مكافحة الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات. وقد تهافت كل من رؤساء الإكوادور وبوليفيا والباراغواي على تهنئة كاست، معتبرين هم أيضاً أن فوزه يمهّد لبداية عصر جديد في أميركا اللاتينية.الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، ونظيرته المكسيكية كلاوديا شاينباوم، نوّها من جهتيهما بشفافية الانتخابات التشيلية وطابعها السلمي، فيما فاجأ الرئيس الكولومبي غوستافو بترو بتصريح ناري في تعليقه على النتائج قائلاً: «رياح الموت تهبّ من الجنوب والشمال... الفاشية تتقدم، ولن أمدّ يدي أبداً لمصافحة نازي أو ابن نازي. من المؤسف أن بينوشيه وصل بالعنف إلى السلطة، لكن من المؤسف أكثر أن الشعوب الآن هي التي تختار بينوشيه بإرادتها».


واشنطن تُخاطر بالتحوّل من حليف للاتحاد الأوروبي إلى خصم

الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي محاطاً بقادة أوروبيين ومفاوضين أميركيين في برلين يوم 15 ديسمبر 2025 (أ.ب)
الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي محاطاً بقادة أوروبيين ومفاوضين أميركيين في برلين يوم 15 ديسمبر 2025 (أ.ب)
TT

واشنطن تُخاطر بالتحوّل من حليف للاتحاد الأوروبي إلى خصم

الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي محاطاً بقادة أوروبيين ومفاوضين أميركيين في برلين يوم 15 ديسمبر 2025 (أ.ب)
الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي محاطاً بقادة أوروبيين ومفاوضين أميركيين في برلين يوم 15 ديسمبر 2025 (أ.ب)

شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في عهد دونالد ترمب، بولايته الثانية، تحوّلاً نوعياً وعميقاً، انتقلت فيه القارة الأوروبية من موقع الشريك الاستراتيجي التقليدي إلى هدف سياسي معلن في الخطاب الأميركي الجديد. لم يعد البيت الأبيض يقدّم الاتحاد الأوروبي بوصفه ركيزة للنظام الغربي، بل كعبءٍ حضاري وأمني واقتصادي يحتاج إلى «تصحيح» جذري في البنية والسياسات والقيادة. هذا التغيّر في الرؤية لم يبقَ حبيس اللغة الدبلوماسية، بل خرج في الأسابيع الأخيرة إلى العلن عبر تصريحات نارية من واشنطن وتسريبات لأخبار ووثائق أثارت قلق بروكسل.

لم يقتصر التحول في العلاقات الأميركية الأوروبية على تعديل في الأولويات الاستراتيجية، بل امتد ليلامس جوهر العلاقة، حتى أصبحت المجموعة الأوروبية تبدو وكأنها العدو الجديد الذي حّل محل العدو الروسي القديم. هذا ما يظهر من خلال اللهجة العدائية الجديدة التي تبنتها واشنطن تجاه بروكسل. الصدمة كانت شديدة حين صدر تقرير الأمن قومي الأميركي في ديسمبر (كانون الأول) 2025، وعُدّ الأكثر هجوماً تجاه أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة. لم تكتفِ الوثيقة بتقديم القارة العجوز على أنها فضاء هشّ يهدده «الانهيار الحضاري» بفعل أزمات الهجرة وتآكل السيادة الوطنية، بل ذهبت إلى حد اتهام منظومة الاتحاد الأوروبي بتقويض الدولة الوطنية، والتضييق على حرية التعبير. وبهذا، انتقل الخلاف من مستوى السياسات إلى مستوى تصوّر مختلف لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي المرغوب في الغرب.

تجلى العداء أيضاً في لغة غير مسبوقة استخدمها ترمب في المقابلات التلفزيونية والصحافية، ولا سيما في مقابلته مع الموقع الأميركي «بوليتيكو» التي أُذيعت في الثامن من ديسمبر 2025، إذ استخدم فيها عبارات قاسية وغير دبلوماسية لوصف الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه. وأضاف أن أوروبا تتجه في «اتجاه سيئ» وأن سياساتها الحالية في مجالات الهجرة والأمن تضعف القارة بدلاً من تعزيزها.

كما اتهم الرئيس الأميركي القادة الأوروبيين بأنهم «يتحدثون كثيراً ولا يقدمون حلولاً فعلية»، في إشارة واضحة إلى ما يعدّه ضعفاً في الاستجابة للأزمات الأمنية والاقتصادية. هدد ترمب أيضاً بالانسحاب من التزامات الدعم الأوروبي في حالات الطوارئ، مشيراً إلى أن بلاده لن تكون ملزمة بالوقوف إلى جانب أوروبا إذا واجهت تهديداً أمنياً، وهو تصريح وصفه الكثيرون بأنه تصعيد غير مسبوق في تاريخ العلاقات عبر الأطلسي، خاصة بين حلفاء تاريخيين. لكنها ليست المرة الأولى التي تهاجَم فيه المجموعة الأوروبية بهذه الحدّة، فقد سبق أن تبنّى نائب الرئيس الأميركي، جي. دي. فانس، نبرة ساخرة وقاسية تجاه الأوروبيين خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن» في فبراير (شباط) 2025، داعياً أوروبا إلى تحمل المزيد من الأعباء العسكرية في أوكرانيا والتوقف عن «العيش على نفقة» حلف «الناتو»، ومن ثمّ على نفقة الولايات المتحدة.

ردود فعل رسمية غاضبة

تصاعدت نبرة الغضب عند المسؤولين الأوروبيين، بعد مواقف الإدارة الأميركية الأخيرة، وقد تجلّى هذا الرفض في مواقف رسمية وشعبية. حيث انتقد أنطونيو كوستا (رئيس المجلس الأوروبي) الاستراتيجية الأمنية الأميركية الجديدة بشكل مباشر، مُندداً باتهامات «آيديولوجية» حول الرقابة و«الامّحاء الحضاري» لأوروبا. وحذّر من أي محاولة لـ«واشنطن للتدخل في الحياة السياسية الأوروبية» أو التأثير على اختيار الحكومات، مشدداً على أن العلاقات عبر الأطلسي قد «تغيّرت». أما جوزيب بوريل (الممثل الأعلى للشؤون الخارجية) فقد وصف كلام ترمب عن أوروبا «الضعيفة» و«المنحلة» بأنه قريب من «إعلان حرب سياسية». كما أدان بيدرو سانشيز، رئيس الوزراء الإسباني، تصريحات ترمب، قائلاً إن صعود «الترمبية» في جميع أنحاء العالم يمثل تهديداً للديمقراطية، وإن أوروبا يجب أن تظل موحدة في مواجهة هذه الهجمات. كما رفض المستشار الألماني فريدريش ميرتس الانتقادات الأميركية لضعف القادة الأوروبيين، مؤكداً أن ألمانيا لا تزال ملتزمة بحرية التعبير وأن النصائح الخارجية بشأن القيم الديمقراطية غير مرحب بها. وشدد على ضرورة أن تتحمل أوروبا مسؤولية أكبر عن الأمن. أما وزيرة خارجية بريطانيا، إيفيت كوبر، فأكدت أنه رغم خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي، فإن أوروبا تظهر «كقوة» وليس «كضعف»، مستشهدة بزيادة ميزانيات الدفاع والدعم الكبير لأوكرانيا.

وأشار مسؤولون آخرون في الاتحاد إلى أن الخطاب الأميركي أصبح «يتوافق مع رواية الكرملين» ويسعى للتشكيك في صمود الاتحاد. من جانب القوى الكبرى عدّت كل من باريس وبرلين هذا التحول الأميركي تأكيداً لضرورة «الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي» الذي طالما دافع عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وأكدت الحكومة الألمانية أن العديد من الانتقادات الأميركية تستند إلى «آيديولوجيا» لا تحليل استراتيجي.

الرأي العام الأوروبي مستاء

أما على المستوى الشعبي؛ فقد أظهرت بعض الاستطلاعات الأخيرة أن شريحة متزايدة من الأوروبيين أصبحت تنظر إلى الولايات المتحدة، تحديداً في ظل إدارة ترمب، بوصفها «خصماً» أو «عدواً محتملاً»، أكثر من كونها حليفاً موثوقاً. حيث تُظهر استطلاعات الرأي الأوروبية الحديثة تحوّلاً ملحوظاً في المزاج العام تجاه الولايات المتحدة، في ظل الانتقادات المتزايدة الصادرة عن إدارة ترمب بحق أوروبا. فبحسب دراسة للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، لم يعد نصف الأوروبيين ينظر إلى الولايات المتحدة بعدّها حليفاً تقليدياً كما كان الأمر في السابق، بل هي الآن شريك ضروري تحكمه المصالح أكثر مما تجمعه الثقة. وتؤكد استطلاعات «يورو نيوز» ومؤسسة «بيرتلسمان» هذا الاتجاه، إذ يرى نحو 49 في المائة من مواطني الاتحاد الأوروبي أن الولايات المتحدة لم تعد الحليف الأهم لبلدانهم، فيما تؤيد أغلبية واضحة انتهاج سياسة أوروبية أكثر استقلالاً عن واشنطن. كما تكشف بيانات معهد «يوغوف» عن تراجع حاد في الصورة الإيجابية للولايات المتحدة داخل عدد من الدول الأوروبية الكبرى، حيث لا تتجاوز نسبة الآراء الإيجابية ثلث السكان في دول مثل ألمانيا وفرنسا والدول الإسكندنافية. أما استطلاع «لو غران كونتينان» و«كلوستر 17» فيعكس بعداً عاطفياً أكثر حدّة، إذ عبّر أكثر من نصف المستطلَعين عن شعورهم بـ«الإذلال» إزاء السياسات والاتفاقات الأميركية الأخيرة، فيما أبدى سبعة من كل عشرة أوروبيين استعدادهم لمقاطعة المنتجات الأميركية، ورأى نحو 44 في المائة أن الرئيس الأميركي يمثل خصماً لأوروبا لا شريكاً لها. وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى تآكل متسارع في الثقة الشعبية الأوروبية بالشراكة عبر الأطلسي، وتنامي الدعوات إلى إعادة تعريف العلاقة مع الولايات المتحدة على أسس أكثر توازناً، تقوم على الندية والاستقلال الاستراتيجي، بدل الاعتماد التقليدي الذي طبع العلاقات بين الطرفين لعقود.

الملف الأوكراني ومحاولة تهميش الأوروبيين

شكّلت الحرب في أوكرانيا ميداناً عملياً لاختبار عمق التحوّل في النظرة الأميركية إلى أوروبا. فبينما ترى أوروبا أن الدفاع عن أوكرانيا هو دفاع عن أمنها، تميل الإدارة الأميركية إلى التعامل مع الحرب كملف يجب إغلاقه بأسرع وقت ممكن، حتى وإن تطلّب الأمر فرض تسوية تضر بمصالح كييف ودول المجموعة الأوروبية. في هذا السياق كشف تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية نشر في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) المنصرم عن وجود «ميثاق سرّي» يُقال إن إدارة ترمب بصدّد بلورته بالتعاون مع روسيا، بهدف إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي وتمويل إعادة إعمار أوكرانيا. الخطّة، بحسب الصحيفة، أشبه باتفاق «المال مقابل السلام» ويهدف إلى إنهاء الصراع عبر صفقات اقتصادية ومالية، مع تقليل دور الأوروبيين، الذين تعدّهم واشنطن أطرافاً ثانوية.

ونشرت «وول ستريت جورنال» في تقريرها الذي حمل عنوان «كسب المال، لا الحرب، الخطة الحقيقية لترمب من أجل السلام في أوكرانيا»، تفاصيل اتفاق سرّي مزعوم بين مبعوث واشنطن رجل الأعمال ستيف ويتكوف والمكلف بالاستثمارات الروسية الخارجية كيريل ديمترييف، الذي من المتوقع أن يعتمد على أكثر من 200 مليار يورو من الأصول الروسية المُجمّدة في أوروبا، معظمها في بلجيكا وفرنسا لتسهيل صفقات اقتصادية ضخمة، الهدف منها إعادة إنعاش الاقتصاد الروسي وإمضاء عقود استثمارات أميركية ضخمة في قطاعات استراتيجية روسية. في المقابل، يُنظر في قرض تعويضات بقيمة 45 مليار يورو لأوكرانيا، يتم تمويله من فوائد الأصول الروسية المجمّدة. الأهم هو أن شركات أميركية كبيرة ستستفيد من هذا الاتفاق مثل إكسون موبيل التي ستحصل على حصص في مشاريع طاقة استراتيجية روسية، مثل استخراج الأتربة النادرة، والتنقيب عن النفط في القطب الشمالي. وتشمل المشاريع أيضاً بناء مراكز بيانات ضخمة في أوكرانيا، منها مركز للمعلوماتية في زاباروجيا يعمل بالطاقة النووية.

المخاوف الأوروبية

تسريب تفاصيل هذه الخطّة أثار قلق القادة الأوروبيين، خصوصاً أن هذا المخطّط سيعزز من تعافي روسيا اقتصادياً ويُضعف الاتحاد الأوروبي. كما أن الكشف عن هذه الخطة قد أثار أزمة دبلوماسية مع واشنطن، إذ يرى الأوروبيون أنهم مُهمَّشون تماماً من الصفقة، وأن واشنطن تتعامل مع الأمر وكأنه شأن أميركي - روسي خالص. حيث حذّر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، في كلمة تناقلتها وسائل الأعلام الأوروبية بإسهاب، من أن أي تسوية للحرب في أوكرانيا تسمح لروسيا بإعادة بناء قدراتها العسكرية ستشكّل تهديداً مباشراً لأمن أوروبا. وأكد أن سلاماً لا يقيّد الطموحات الروسية ولا يضمن سيادة أوكرانيا سيكون مجرد هدنة مؤقتة تمهّد لمواجهة جديدة، داعياً الأوروبيين إلى تعزيز قدراتهم الدفاعية والحفاظ على وحدة الصف الأطلسي لمواجهة المخاطر المقبلة.

كما أبدت كايا كالاس، الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، قلقها من أن الخطة الأميركية التي يجري إعدادها، دون مشاركة فعالة من أوروبا أو أوكرانيا، قد تعوق الجهود الدبلوماسية المشتركة وتضعّف موقع الاتحاد الأوروبي في مفاوضات السلام المُرتقبة.

اعتراضات قانونية

كما تواجه الخطة الأميركية الهادفة إلى توظيف الأصول الروسية المجمدة في البنوك الأوروبية لدعم أوكرانيا اعتراضات قانونية متزايدة داخل عدد من دول الاتحاد الأوروبي وبالأخص من قبل فرنسا وألمانيا.

جوهر الإشكال يكمن في أن تجميد الأصول لا يعني قانونياً مصادرتها. فالقوانين الدولية والأوروبية تميّز بوضوح بين إجراء احترازي مؤقت يمنع التصرف في الأموال، وبين نزع الملكية أو تحويلها إلى طرف ثالث، وهو ما يتطلب أساساً تشريعياً أو قضائياً صريحاً. كما تصطدم الخطة بمبدأ الحصانة السيادية للدول، الذي يحمي أصول الدول والبنوك المركزية من المصادرة، حتى في حالات النزاع. وتخشى عدة عواصم أوروبية أن يشكّل تجاوز هذا المبدأ سابقة خطيرة قد تقوّض الثقة في النظام المالي الأوروبي وتعرّض أصولها السيادية مستقبلاً لمخاطر مماثلة. اضافة إلى ذلك، تبرز قيود قانونية وتقنية على المؤسسات التي تحتفظ بهذه الأصول، مثل شركات الإيداع المالي، والتي تلتزم بقوانين صارمة تمنعها من استخدام الأموال أو تحويلها دون غطاء قانوني واضح، تفادياً للمساءلة القضائية.

محاولات أميركية لتفكيك الاتحاد من الداخل

وما يزيد من قلق العواصم الأوروبية هو الشكوك المتنامية حول وجود أجندة موازية سرية للإدارة الأميركية تهدف إلى تفكيك الاتحاد الأوروبي. فبحسب ما أورد موقع «ديفنس وان» الأميركي المتخصّص في الشؤون الدفاعية، فإن النسخة غير المنشورة من الاستراتيجية الوطنية للأمن القومي تتضمن توجيهات تُركّز على تعزيز العلاقات الثنائية مع أربع دول أوروبية هي النمسا، وإيطاليا، والمجر، وبولندا. وتكشف الوثيقة، تحت شعار مستحدث هو «لنجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى»، عن دعوة كرّستها الإدارة الحالية، تقضي بـ«سحب» هذه الدول بعيداً عن تأثير الاتحاد الأوروبي وتقريبها من واشنطن، مستغلةً النزعات القومية والشعبوية الصاعدة في هذه الدول التي يُنظر إليها على أنها الأكثر استعداداً لتبني خطاب يتناغم مع خطاب ترمب، بشكل أفضل، مع الإشارة تحديداً إلى إيطاليا. تنظر بروكسل إلى هذا المخطط على أنه محاولة لتقويض الوحدة الأوروبية من خلال دعم التيارات المناهضة للاندماج الأوروبي. حيث يتحوّل الخلاف عبر الأطلسي إلى عامل من عوامل التفكك الداخلي في الاتحاد، بدلاً من أن يكون حافزاً لتماسكه كما كان الحال خلال الحرب الباردة. وإذا استمر الخطاب الأميركي في التعامل مع أوروبا بوصفها «شريكاً فاشلاً»، فإن الفجوة عبر الأطلسي ستتسع، وربما تتحول إلى شرخ بنيوي، بحسب ما ترى بروكسل.

التركيز الأميركي ينصبّ على إيطاليا... فما السبب؟

تركز واشنطن مساعيها الأوروبية حالياً على إيطاليا، نظراً لعدة عوامل استراتيجية وسياسية. فهناك أولاً موقعها الجغرافي والسياسي داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تعد واحدة من الدول الكبرى من حيث عدد السكان والاقتصاد داخل الاتحاد. لذلك فإن أي تغيّر في موقفها تجاه بروكسل يمكن أن يؤدّي إلى ارتدادات مهمة في السياسة الأوروبية، إضافة إلى التقارب الآيديولوجي بين بعض قطاعات السلطة الإيطالية والإدارة الأميركية الحالية، حيث تظهر العلاقات بين روما وواشنطن، لا سيما بين قادة سياسيين في إيطاليا وحلفاء في الولايات المتحدة، انسجاماً في عدد من القضايا، حيث يوجد بشكل واضح تقارب آيديولوجي بين حزب «إخوة إيطاليا» الذي تتزعمه رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، والقيم السياسية التي يروّج لها دونالد ترمب. ويقوم هذا التقاطع أساساً على خطابٍ محافظ يركّز على السيادة الوطنية، ورفض توسيع صلاحيات المؤسسات فوق الوطنية، إضافة إلى التشديد على ضبط الهجرة والدفاع عما يُسمّى «الهوية الثقافية» و«القيم التقليدية». كما يشترك الطرفان في نظرة نقدية تجاه النخب الليبرالية والمؤسسات البيروقراطية، سواء في بروكسل أو في واشنطن، عادّين أن هذه النخب ابتعدت عن هموم الطبقات الشعبية. كل هذا يعزّز رغبة واشنطن في استخدام إيطاليا بوصفها نموذجاً لشراكة ليست مؤسسية فقط، بل آيديولوجية أيضاً. وقد تكون الظروف الداخلية في أوروبا بين الولاء المؤسسي للاتحاد ورغبات قومية أكثر استقلالية، كما هو الوضع في إيطاليا، هي فرصة لواشنطن لتعزيز قواسم مشتركة مع قادة إيطاليين حول «السيادة الوطنية»، فلئن كانت جورجيا ميلوني قد حاولت تحقيق نوع من التوازن بين ولائها لبروكسل وواشنطن، فإن شخصيات أخرى قريبة منها، كماتيو سالفيني، لم تتردّد في التعبير عن الإعجاب بالرئيس الأميركي، حيث صرّح سالفيني، عقب فوز ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية نهاية العام الماضي، بأنه سيرتدي ربطة عنق حمراء طوال أربع سنوات، تعبيراً عن تقديره واحترامه لسيد البيت الأبيض الجديد.