دولة «داعش»

اتخذ التنظيم من الرقة عاصمة مؤقتة.. وأقام قيادة عسكرية ومجلس شورى لإدارة البلاد.. ومحاكم وسجونا وولايات

دولة «داعش»
TT

دولة «داعش»

دولة «داعش»

يتجاوز الخلاف بين تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» المعروف بـ«داعش»، وتنظيم القاعدة بفرعه السوري «جبهة النصرة»، البعد العسكري المباشر نحو ما هو استراتيجي.
فتنظيم «الدولة الإسلامية» الذي يضم الجيل الجهادي الثالث (بعد بن لادن والظواهري) يعيب على منظري «القاعدة» اهتمامهم بتنفيذ أهداف عالمية ضد مصالح الغرب دون تأسيس دولة تكون مظلة للقوى الجهادية وقاعدة لوجستية لتنفيذ هجمات محتملة. كان العراق البلد الأكثر ملاءمة بسبب اضطرابه الأمني، لتلبية طموحات التنظيم التوسعية، الذي أطلق على نفسه اسم «دولة العراق الإسلامية». ومع انطلاق الحراك الشعبي المعارض لنظام الرئيس بشار الأسد في سوريا ودخول البلاد في حقبة الفوضى العسكرية، وجد التنظيم الفرصة سانحة لمد نفوذه خارج العراق ونقل عملياته إلى «أرض الشام» متبعا استراتيجية واحدة للقتال في البلدين المتجاورين، هدفها الأساس تأسيس دولة مكتملة البنية ليصبح اسمها «دولة العراق والشام الإسلامية».
سيطرة التنظيم المتشدد على مدينة الرقة شرق سوريا شكلت الخطوة الأولى لتثبيت سلطته في البلاد، إذ سارع إلى فتح مراكز له محولا كنيسة الأرمن في المدينة إلى مكتب دعوي. سعى التنظيم في البداية إلى كسب ود السكان المحليين عبر تقديم خدمات إغاثية وتقديم نفسه مخلصا من «فساد الفصائل المقاتلة». لكن سرعان ما كشر التنظيم عن أنيابه ملزما الناس بأحكام متشددة غريبة عن بيئتهم وتقاليدهم تحت طائلة العقوبة أو الاعتقال. المعارضة السورية التي صمتت عن ممارسات التنظيم ظنا منها بإمكانية الاستفادة منه في المعارك ضد النظام، دفعت ثمن هذا الصمت لاحقا بعد أن طرد التنظيم معظم الفصائل المقاتلة من مناطق نفوذه تمهيدا لإعلان دولته. خسائر المعارضة بظهور «داعش» والتواطؤ معها تعدى ما هو ميداني نحو زيادة هواجس الغرب حيال تسليح الجيش الحر في ظل انتشار الكتائب المتطرفة والخوف من وصول السلاح إليها.
وعلى الرغم من أن كتائب المعارضة تحالفت مع الكتائب الإسلامية المعتدلة وشنت حملة عسكرية مشتركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، فإن ذلك لم يغير كثيرا من الوقائع على الأرض، إذ بقيت «الدولة» تحكم سيطرتها على عدد من المدن والبلدات شمال وشرق سوريا.
وقد يكون النظام السوري الطرف الأكثر استفادة من تمدد نفوذ التنظيم لتأكيد روايته بأن المعارضة السورية ليست سوى مجموعة من «الإرهابيين» الذين تجب محاربتهم. يضاف إلى ذلك ما يقوله المعارضون من أن «داعش» تنوب عن النظام في محاربة المعارضة شرقا وتستنزف قواها.
ولم يكن مفاجئا كثيرا شريط الفيديو الذي يظهر فيه أحد قادة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في منبج بريف حلب ويصف فيه «القوات النظامية بأنهم (أشرف) من مقاتلي المعارضة»، فالقصف النظامي المتواصل على المناطق الشرقية والشمالية حيث يوجد تنظيم «داعش» نادرا ما يستهدف مراكز التنظيم المنتشرة بشكل علني في الرقة ودير الزور وريف حلب، إضافة أن الجبهات العسكرية بين الطرفين غالبا ما تكون هادئة قياسا بتلك التي تشهد معارك ضارية بين المعارضة والنظام أو بين المعارضة والتنظيم نفسه.
محاولات «داعش» التمدد في المناطق المحررة لتأسيس دولته الإسلامية جعل من كتائب المعارضة بكل تلاوينها عدوا أول له يسبق النظام. وقد ساهم تبريد «الدولة الإسلامية» جبهات معاركها مع النظام والتفرغ لمحاربة فصائل المعارضة في نقل القوات النظامية عملياتها من الشرق إلى الجنوب وتحديدا درعا حيث أحرزت تقدما في بلدة نوى ومحيطها.
هذا الواقع يشير إلى علاقة مصلحية غير مُعلنة بين النظام وتنظيم «الدولة الإسلامية»، ففيما يستفيد النظام من استنزاف المعارضة من خلال معاركها مع «داعش» والتفرغ لمحاربتها في مناطق أخرى، يستفيد «داعش» أيضا من عدم استهدافه من قبل النظام للتفرغ لبناء دولته وتوسيع نفوذه في المناطق «المحررة».
ويؤكد عضو الائتلاف الوطني المعارض والخبير في الجماعات الجهادية، عبد الرحمن الحاج لـ«الشرق الأوسط» أن «النظام السوري اخترق تنظيم (الدولة) عبر الضباط البعثيين العراقيين الذين كانوا يخدمون في جيش صدام حسين قبل الاحتلال الأميركي للعراق ليتحولوا بعدها إلى المقاومة العراقية»، ويضيف: «حظي هؤلاء برعاية من النظام السوري الذي استخدمهم لزعزعة استقرار العراق».
ويوضح الحاج أن «الضباط البعثيين انخرط معظمهم في (داعش) مما سهل للنظام السوري اختراق التنظيم وتمرير أجندته من خلاله»، لافتا إلى أن «الانفصال الذي حصل بين (النصرة) و(داعش) والذي تحول إلى صراع مفتوح انعكس تناقصا على عدد المقاتلين داخل (الدولة) وهو ما استغله النظام لاختراق التنظيم بعدد كبير من المتطوعين التابعين له»، مستدلا على ذلك من «ممارسات عناصر التنظيم الوحشية التي تتقاطع مع عناصر النظام».
وسبق لـ«الشرق الأوسط» أن كشفت ضمن وثائق جديدة مسربة عن النظام السوري تحت عنوان «وثائق دمشق السرية» طبيعة العلاقة بين تنظيم «داعش» والنظام السوري؛ إذ تبين الوثائق كيف استفاد نظام الأسد من عدد كبير من العملاء السوريين والعراقيين المزروعين في التنظيم، وكيف منع «داعش» عنه هجمات المعارضة في بعض مناطق الشمال بسبب «سطوته» بين فصائل المعارضة.
كما تبين الوثائق أن «الجانب العراقي تعاون إلى حد كبير مع النظام في تأمين وثائق مزورة لعملاء للنظام لتسهيل اختراقهم (داعش)، كما سهل عبور المقاتلين المؤيدين للنظام في الاتجاهين عبر الحدود».
ولم يتردد «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية» في وصف العلاقة بين تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ونظام الأسد بـ«العضوية»، موضحا في أحد بياناته أن «التنظيم يحقق مآرب عصابة الأسد بشكل مباشر أو غير مباشر»، وأضاف أن «سيل دماء السوريين على يد هذا التنظيم رفع الشك بشكل نهائي عن طبيعته وأسباب نشوئه والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها والأجندات التي يخدمها، ما يؤكد طبيعة أعماله الإرهابية والمعادية للثورة السورية».

هيكلية التنظيم
«الدولة الإسلامية في العراق والشام» سُميت في السابق «دولة العراق الإسلامية»، مما يعني أن مجلس الشورى فيها وقياداتها ليسوا حديثي العهد، بحسب ما يؤكد الناشط القريب من التنظيم محمد الحلبي لـ«الشرق الأوسط»، موضحا أن «الشيخ أبو بكر البغدادي، وهو أمير (الدولة) الحالي، خليفة الشيخ أبو عمر البغدادي، وكلا الشيخين يُعتبران خليفتين للشيخ أبو مصعب الزرقاوي الذي يعود له الفضل في بناء (الدولة الإسلامية)».
ويشير الحلبي إلى أنه بعد موت «الشيخ أبو عمر البغدادي، تولي الشيخ أبو بكر البغدادي بناءً على اجتماع مجلس الشورى، الذي يضم أهل الحل والعقد المتمثلين بأهل العلم وكبار الشخصيات في العشائر المبايعة لـ(الدولة الإسلامية)».
والاسم الحقيقي لأبو بكر البغدادي هو إبراهيم عواد إبراهيم البدري، وقد عمل محاضرا في الدراسات الإسلامية وإماما لجامع أحمد بن حنبل في سامراء، ومن ثم إمام جامع في العاصمة العراقية بغداد، ثم في الفلوجة. اعتقلته القوات الأميركية في 4 يناير (كانون الثاني) 2004 لنحو ثلاثة أعوام، ليخرج لاحقا من السجن ويؤسس تنظيما تحت اسم «جيش أهل السنة»، والتحق بعدها بتنظيم القاعدة، وأصبح الرجل الثالث في التنظيم، وتولى القيادة خلفا لأبو عمر البغدادي.
وعلى الرغم من زعامة البغدادي للتنظيم، فإن الحاج بكر كان يعد القائد الفعلي للتنظيم في سوريا قبل أن يُقتل في فبراير (شباط) 2014 خلال معارك بريف حلب ضد «الجبهة الإسلامية». والاسم الحقيقي للحاج بكر هو سمير عبد محمد الخليفاوي. وهو ضابط سابق في الجيش العراقي.
ويقود المجلس العسكري، وهو ما يقابل قيادة أركان عمليات التنظيم، أبو أحمد العلواني مع إدارة ثلاثة ضباط آخرين، مهمتهم التخطيط وإدارة القادة العسكريين ومتابعة «الغزوات». في حين يرأس الهيئات الشرعية أبو محمد العاني، إضافة إلى مهامه في الإرشاد والدعوة ومتابعة الإعلام. مجلس الشورى الذي يضم من 11 إلى 19 عضوا يجري اختيارهم من قبل البغدادي، ويديره أبو أركان العامري ومهمته تزكية الولاة لرئاسة الولايات بعد موافقة البغدادي على أسمائهم. أما مجلس الأمن والاستخبارات الذي يهتم بأمن البغدادي وأمن التنظيم من الاختراق فيتزعمه أبو علي الأنباري، وهو ضابط سابق في الاستخبارات العراقية.
ومؤسسات الإعلام بزعامة أبو أثير الشامي، من أصل سوري، حيث يتابع الإعلام الإلكتروني والمواقع الجهادية. وهي قريبة إلى هيكلية القاعدة المركزية وتتضمن مؤسستي «الفرقان» و«الأندلس».
ويشير عضو الائتلاف الوطني المعارض والخبير في الجماعات الجهادية عبد الرحمن الحاج، في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إلى وجود «تقسيم واقعي وليس ممنهجا داخل الهيكل القيادي في تنظيم (داعش)»، موضحا أن «قيادة التنظيم عراقية متحكمة بقراره على الرغم من وجود مجلس شورى يضم عددا من الجنسيات، لكن القرار الفعلي يبقى للعراقيين»، ويعود ذلك بحسب الحاج إلى كون «التنظيم جرى تأسيسه في العراق بحكم الواقع على الأرض. مؤسسوه بمعظمهم من الضباط المنشقين الذين كانوا ضمن الجيش العراقي الموالي لصدام حسين»، مشددا على أن «المنطق القبلي والجهوي والمناطقي غالبا ما يربط بين قيادات التنظيم، حين يستعين كل قيادي بأبناء قبيلته أو عشيرته في موقع القيادة لضمان ولائهم».
أما الذراع العسكرية الضاربة للتنظيم، فهي، بحسب الحاج، أتباع الجنسيتين التونسية والليبية؛ إذ يتصدر هؤلاء الصفوف الأولى في القتال، وأحيانا يجري الاستعانة ببعض المهاجرين الأجانب. كما يعد القوقازيون خزان الانتحاريين في تنظيم «الدولة» لأنهم يبنون علاقتهم مع الدين بشكل عاطفي، مما يسهل تجييش مشاعرهم الدينية وتجنيدهم في تنفيذ عمليات انتحارية، وفقا للحاج الذي يؤكد أن «السوريين ليس لديهم قرار في (التنظيم) ولا يحتلون أي مواقع قيادية»، مُرجعا ذلك إلى «قلة الثقة بهم إثر الانشقاقات التي حصلت مع (النصرة)».
وتسمي «الدولة الإسلامية» مناطقها بـ«الولايات»، فهناك «ولاية حلب» و«ولاية الرقة» و«ولاية نينوى» و«ولاية صلاح الدين» و«ولاية البادية (حمص)»، و«ولاية الخير (دير الزور)»، وهكذا.. والمدن الكبيرة داخل هذه الولايات يطلق عليها اسم «قاطع»، مثل «قاطع منبج»، و«قاطع جرابلس»، و«قاطع البركة (الطبقة)».
كل ولاية من هذه الولايات لها أميرها الخاص، ولها محكمة إسلامية خاصة بها، ولها مجلس للخدمات الإسلامية يقوم بها، ولكن هذا الأمير وهذه المحكمة وهذه «الهيئة الإسلامية للخدمات» تعود بالنهاية لأمرائها على مستوى المنطقة. فمثلا «قاطع البركة» له مركز خدمات إسلامية هو بمثابة البلدية، ولكن مصدر تمويله وإدارته يعود بالأصل لولاية الرقة، حيث إن «قاطع البركة (الطبقة)» موجود ضمن ولاية الرقة.
ولكل ولاية أمير حاكم، وأمير عسكري (بمثابة القائد العسكري) ولا يمكن بحال من الأحوال أن توجد معلومات عسكرية في حلب يعلمها القائد العسكري أو الأمير في الرقة. كل ولاية ترجع في قراراتها العسكرية والأمنية والمعلوماتية والخدمية إلى قادتها مباشرة دون مشاركة المعلومات مع ولاية أخرى.
كما أن هناك مراكز أمنية كاملة لدى «الدولة الإسلامية»، فيها استخبارات مضادة ضد خصومها، ولديها أجهزة مدنية وأجهزة عسكرية لجمع معلومات متكاملة. ولكل مقر مسؤول لحمايته ودراسة لوازمه، ومجموع المقرات في المدينة الواحدة ترجع إدارتها لشخص وظيفته أنه «مسؤول أمن المقرات»، وهذا ما جعلها تنجح في ضبط أمورها بسرعة قياسية عند دخول أي مدينة سواء في العراق أو سوريا.

* سجون «الدولة».. رعب وإعدامات وجلد أطفال
* يجمع المعتقلون الذين نجوا من الموت في معتقلات وسجون «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على أن الظروف في هذه السجون غير إنسانية، وأشد رعبا من تلك التي يخصصها نظام الرئيس بشار الأسد لقمع معارضيه. وتتوزع هذه السجون بين مبنى المحافظة وإدارة المركبات والمرأب، في مدينة الرقة، بالإضافة إلى سد البعث ومنشأة نفطية في العكيرشي في مناطق أخرى من محافظة الرقة، ومشفى الأطفال، ومقر أحمد قدور في حلب.
وأشارت منظمة العفو الدولية في أحد تقاريرها إلى وجود «أطفال بين المحتجزين في سجون (داعش) ممن تعرضوا لعقوبات جلد كبيرة» وفقا للإفادات التي حصلت عليها المنظمة. وتكشف هذه الإفادات أن «أحد الآباء اضطر للتحامل على نفسه، مغلوبا على أمره، وهو يسمع صرخات ابنه من الألم الناجم عن تعذيبه على أيدي آسريه من عناصر تنظيم (الدولة الإسلامية في العراق والشام) في إحدى الغرف المجاورة»، فيما روى اثنان من المحتجزين كيف شهدا جلد فتى في الـ14 من العمر أكثر من 90 جلدة أثناء استجوابه في سد البعث، أحد السجون التابعة للتنظيم بمحافظة الرقة، وتعرض فتى آخر من العمر نفسه تقريبا للجلد المتكرر على مدى أيام لاتهامه بسرقة دراجة نارية.
ونقلت العفو الدولية عن محتجزين سابقين أن «مسلحين مقنعين اعتقلوهم واقتادوهم إلى أماكن مجهولة، حيث ظلوا قيد الاحتجاز هناك مدة وصلت إلى 55 يوما بالنسبة لبعضهم، ومنهم من لم يعرف أبدا أين كان محتجزا».
ويؤكد أحد الناجين من سجون «الدولة» رؤيته عناصر «داعش» يعدمون سجناء «بينهم فتى كردي في الـ15 من العمر، اتهموه بالاغتصاب والانتماء إلى حزب العمال الكردستاني، الذي يخوض فرعه السوري (حزب الاتحاد الديمقراطي) معارك ضد (داعش)، وقد نفى الفتى الاتهامات الموجهة إليه، إلا أنهم ضربوه طوال خمسة أيام، إلى أن اعترف، حينها أطلقوا النار عليه مباشرة».
بدوره، اكتشف المصور الصحافي عمر الخاني رعب السجون «الداعشية» خلال اعتقاله مرتين لدى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»؛ إذ كان من ضمن المعتقلين داخل مستشفى الأطفال بحلب في أغسطس (آب) الماضي بعد أن حوله التنظيم إلى فرع أمني.
ويشير الخاني إلى أن «قبو المستشفى هو المعتقل والغرف، شديدة الاكتظاظ لدرجة أن المعتقلين كانوا ينامون على أجنابهم ولا مكان للاستلقاء على الظهر»، وأضاف أنه «قضى الأيام الأربعة الأولى واقفا في الممر وهو معصوب العينين، دون أن يُسمح له بالجلوس أو حتى الصلاة».
ولكل سجان في معتقلات «داعش» أسلوبه في التعذيب، وفقا للخاني الذي قال إن محاولات الخنق كانت شائعة.. «كانوا يضعون كيسا بلاستيكيا على رأسي ويحكمون إغلاقه، في البداية كنت أمزقه بأسناني ثم زادوا عدد الأكياس، ويبقونها هكذا حتى أشارف الاختناق.. أما الصعق بالكهرباء فأسلوب آخر يعتمدونه في التعذيب، حيث كانت الصعقات تؤدي إلى فتح قروح كبيرة في الجلد، وبعض السجانين كانوا يستخدمون السلاسل الحديدية في الضرب، وآخرون يعتمدون على العصي. وكان هناك سجان لديه طريقة خاصة في التعذيب، حيث يستعمل قماشة تحوي مادة ما ويضعها على فم وأنف السجين فيقع أرضا ويصاب بنوع من الشلل وألم في الكليتين، ثم يبدأ في ضربه، وكثيرا ما كرر هذا الأمر مع العديد من المعتقلين»، بحسب الخاني.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.