رواية «الباغ»... تداخل الذاكرة الشخصية مع التاريخ

العمانية بشرى خلفان ضمنّت فيها كل ما تعرفه عن تاريخ بلدها

رواية «الباغ»... تداخل الذاكرة الشخصية مع التاريخ
TT

رواية «الباغ»... تداخل الذاكرة الشخصية مع التاريخ

رواية «الباغ»... تداخل الذاكرة الشخصية مع التاريخ

من غرائب اللغة العربية أنّ الفعل «روى» يفيد معنيين؛ الأول هو السقي والثاني هو السرد، وهذا ما يحدث مع رواية «الباغ» للروائية العمانية بشرى خلفان، فقد سَقتْ القراء من زلال الحكايات والتاريخ والأزياء والجغرافيا وكل ما يخص هذا البلد الذي يقع جنوب الجزيرة العربية والذي لا يزال للغالبية مجهولاً نوعاً ما. وما من قارئ ينتهي من هذه الرواية إلا ويذهب لتفحص خريطة عمان وجباله وموانئه ومدنه التي ترد في تفاصيل الرواية.
تقع «الباغ» في 334 صفحة، دار «مسعى»، بغلاف لافت بطلاسم حروفية ورقمية ورسوم بحرية اشتهر بها أهل عمان، وما أنّ نفتش عن لوحة الغلاف حتى نكتشف أنها فعلاً صفحة من مخطوط قديم هو «معدن الأسرار في علم البحار» للبحار العماني ناصر بن علي الخضوري. الرواية هي الأولى للكاتبة بشرى الخلفان بعد عدة مجموعات قصصية. و«الباغ» حكاية تمسك بتلابيب القارئ وتقبض على مشاعره تماماً من خلال قصة حب عجيبة تبدأ من أول صفحاتها ولا تنتهي مع نهايتها. لكن هذه القصة لا تشبه قصص الحب التي نعرف، بل هي قصة محبة ومصير بين أخ وأخته. تبدأ الرواية بهذه الجملة: «نخوض، يا نوصل رباعة يا يشيلنا الوادي رباعة»، وخاضت الكاتبة برفقة قرائها وعبر مسالك وشخوص وتتابع أحداث الرواية، رحلة موفقة وممتعة لتنتهي في آخر صفحة بالجملة ذاتها «يا نوصل رباعة يا يشيلنا الوادي رباعة».
ورغم أن عالم السرد لا يحوي الحقائق بل التأويلات، لكننا أبحرنا في حقائق تاريخية عن عمان وتقلباتها السياسية بين السلطان في مسقط والإمام في نزوى، منذ أربعينات القرن الماضي وحتى تسلم السلطان قابوس الحكم. وقد اختارت الكاتبة لبطلي الرواية (ريّا وراشد) أن يَبْدآن رحلتهما عبر الغربة والنفي الإرادي كرد فعل على الظلم الذي تعرضا له من العم والعشيرة عقب وفاة والدهما: «بلاد ما ترد الظلم عن أولادها ما نبات فيها ليلة» ص11. يختار الأخوان ترك قريتهما، لكن المنفى يتضمن فكرة الإلغاء، إلغاء علاقتهما بالأرض والسماء والمجتمع، ثمة خط عمودي يصل بين السماء حيث المعبود وبين الأسلاف في هدأة الموت الطويلة، وثمة خط أفقي يضمُّ (القرية / السراير) حيث المنازل والذكرى وملاعب الطفولة. وفي نقطة تقاطع الخطين يقف الأخوان. هول رحيلهما هو في اقتلاعهما من نقطة التقاطع هذه وازدراعهما في بقعة أخرى لن تكون نقطة التقاطع فيها هي ذاتها، فلا السماء أولى ولا الأسلاف أسلاف ولا الهواء ولا رائحة الزرع ذاتها. لكنهما وصلا مسقط معاً، وكأنما القارئ يحاذيهما في المشي ويتماهى معهما، ويتعرف من خلالهما على جغرافية مسقط ومناطقها وبحرها وقلعتها وأبراجها وبوابتها، وذلك عبر ما يرويه ويصفه الراوي، وهو صوت الشخص الثالث الذي اختارته الكاتبة كآلية سردية. وقدّ تعمّدَتْ الروائية إشراك القارئ لاستكشاف الأمكنة والأحدث مع الأخوين، بهذا الصوت وهذه اللغة الوصفية التفصيلية المتتابعة، فصرنا نعرف جغرافيا مسقط في أربعينات القرن الماضي (بيت فرنس / بيت القنصل الفرنسي، قلعة الميراني، الفرضة، قصر السلطان، بيت الباليوز / مقر القنصل الإنجليزي، مقر الجمارك، كوت الجلالي / السجن، حارة الميابين، بيت الوادي). لنكون شهوداً بما سيحدث من تغيّرْ جغرافي مع تتابع السرد. كان راشد مزارعاً في قريته (السراير)، يهتم بالنخيل والزرع والجني والثمر، ويحوّل مجرى المياه إلى قنوات الفلج، هو ابن الحياة والأرض، لا يعرف القراءة والكتابة، كأنما تقصّد أبوه ذلك لخشيته من اجتماع العلم بالقوة البدنية عند ولده، وعلّم أخته ريّا القراءة وتلاوة القرآن ولم يعلّمه، لكن راشد وقع ضحية جهله حين احتال عليه عمه وسجنه بتهمة ظالمة، وسيهزم راشد جهله بعد حين بتعلم القراءة والكتابة سريعاً من صديقه علي. وما أنّ يصل مسقط حتى يفقد حريته، يفقد نخيله وزرعه ويتحول إلى عتالٍ يحمل البضائع من وإلى السفن ثم شرطي يحمل سلاحاً ثم عسكري في حامية مسقط. البحر مثل مسقط غسل جراحه وهيجها في الوقت ذاته، بينما قرّب علم ريّا وحسن تلاوتها للقرآن من مضيفتها العودة التي تبنّتها وعلّمتها أسرار التداوي بالأعشاب وكيفية تغسيل الميتة وتكفينها، التي ورثتها عن أمها. كان راشد طفلاً غضوباً صموتاً وكانت أخته ريّا أماً رؤومة وعارفة. تتزوج ريّا لاحقاً من علي صديق راشد، كأن زواجها من صديق أخيها هو ارتباط مضاعف به.

جدوى الرواية

إنّ كتابة رواية عن التاريخ القريب لبلد ما، لهو عمل شاق فعلاً، فالكاتبة أرادتْ تضمين كل ما تعرفه عن تاريخ بلدها من خلال حكاية أخ وأخته. مبرر كتابة الرواية هو الكشف والاكتشاف، والرواية التي لا تكتشف جزءاً من الوجود لا يزال مجهولاً هي راوية غير مجدية، وقد تكون المعرفة هي مبرر الرواية الوحيد. وقد كشفت لنا الروائية بمهارة أدبية نادرة، خفايا علاقة إنسانية قلما تناولتها الرواية من قبل وهي علاقة الأخت بأخيها وارتباطهما المصيري معاً، بدءاً من اللحظة التي يربطان نفسيهما معاً وهما فوق ظهر الناقة لعبور الوادي الذي تغمره السيول؛ «ريا ليست بعيدة عنه، يسمع صوت تنفسها فيطمئن».
كشفت هذه الرواية أيضاً الأحداث المهمة خلال حكم السلطان سعيد بن تيمور، هجرة العمانيين للدراسة والعمل وتبنّيهم العقائد السياسية المختلفة، نشوء مسقط الحديثة ثم تولي السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم. هناك تداخل بين الحقائق والمنازعات التاريخية وبين الذاكرة الشخصية للشخوص، بين انتقالات سردية رائعة من الذكريات التي يختزنها راشد في روحه، والمشاهد التي يراها وهو في السيارة العسكرية المكشوفة، في طريقه إلى صحار لبسط سيطرة السلطان المدعوم بالقوات البريطانية على واحة البريمي العمانية المحاذية للحدود مع أبوظبي، لكن بريطانيا دوّلت النزاع الذي لم يُحل إلا قريبا لصالح عمان.
والرواية تستقرئ الأساطير والعادات الشعبية والتداوي بالأعشاب، وتفاصيل الحياة اليومية للناس البسطاء من مأكل (التمر، القهوة، مرق السمك مع التوابل)، الملبس (كمة / طاقية، المصر / العمامة)، (السبلة / مجلس الشيخ، البرزة / مجلس الوالي، الصباح / الدكة التي يجلس عليها حراس البوابات، الباغ / الحديقة). طقوس العرس وأهازيجه، وخليط البشر المتعايشين من هنود البانيان والبلوش والعرب والإنجليز، وكل ذلك بلغة منسابة شاعرية بلا تكلف وصورية بلا إطالة في الوصف. كما نجحت الكاتبة جداً في تطريز السرد والحوارات بالدارجة العمانية، وهو ما منح الرواية نكهتها الخالصة: (مدي يدش وفتحي قلبش) ص64. تقوم البنية السردية في هذه الرواية على حكايا النساء، حكاية ريّا الرائية التي حُجِبت بغلالات من الكلام والأمنيات، والتي رفض أبوها تزويجها من ابن عمها الظالم ثم زواجها وأمومتها، وحكاية أمها من قبلها التي تمت التضحية بها في زواج صلح بين القبائل، حكاية العودة وحكمتها وصندوقها ذو الأسرار، حكاية البيبي البحرينية التي تزوجت تاجراً من عمان. المرأة في هذه الرواية هي من يصنع الحدث ويديره كيفما تشاء باستثناء الحرب التي تُنْبتْ القسوة في القلوب. هي التي تشفي وتُطعم وتُعلّم: «لو علمتهن تكثر كلمة الله ويوم تكثر كلمة الله قلوب الناس ترق» ص116. وهكذا صارت ريّا معلمة في بيت (الباغ / البستان)، الكاتبة هنا أحسنت توأمة العلم والحب مع البستان، وهل من بستان غير الحب والعلم! لكن الاستزادة من العلم تستدعي الخروج من (البستان / الجنة)، وهذا ما حصل مع زاهر ابن ريّا حيث يهاجر إلى الكويت طلباً للعلم تاركاً حبيبته مزنة ابنة البستان وعلى شفتيها شبح قبلة يتيمة. المزيد من العلم سوف يشقيه ويجعله مسكوناً بالأسئلة التي ستقوده إلى مواجهة مع خاله راشد العسكري المنضبط، وإلى مصيرٍ مجهولٍ حتى نهاية الرواية.



شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.