ماذا تقرأ هذه الأيام يا غلام؟ لا شيء غير الشعر. عيب أصلاً أن نتفرغ لقراءات أخرى. فالخريف هو فصل الشعر بامتياز: الخريف كله شعر. الخريف فصل الشعر والحزن في آن. لا أعرف لماذا أشعر بالحزن الهادئ العميق في فصل الخريف. لا أعرف لماذا أشعر بالحنين الجارف إلى شيء أجهله... اسألوا لامارتين وكل الرومانطيقيين. ألا يتساقط عمرك قطعة قطعة مع أوراق الشجر؟ تكاد تلمس الشعر بيدك لمساً وأنت تتمشَّى تحت ظلال الأشجار. هناك منافس وحيد للشعر هو الحب. ولكنهما شيء واحد. وهناك منافسة خطيرة جداً هي الفلسفة. ولكن هذه مسألة أخرى ضخمة وشائكة. أرجوكم لا تعقدوا لي حياتي أكثر مما هي معقدة حتى الآن.
هل تريدون مثالاً على ذلك؟ في الطريق بالطائرة من تونس إلى المغرب رحت أتسلى بالجرائد التي وُزعت علينا. وفجأة تسمر بصري على أبيات في أعلى الصفحة من دون ذكر اسم الشاعر. فلنستمع إليها:
أنا قطار الحزن
... أركب آلاف القطارات
وأمتطي فجيعتي
وأمتطي غيم سجاراتي
حقيبة واحدة... أحملها
...فيها عناوين حبيباتي
...من كن بالأمس حبيباتي
بالطبع نحن التعساء كل عشر سنوات حتى «تظبط» معنا واحدة، وبالكاد! أما نزار قباني فيترامين عليه كل يوم بالعشرات، ولا يعرف كيف «يكشهن» عن حاله... ولذلك يقول: «من كن بالأمس حبيباتي». كم لسعني الحسد عندما قرأت ذلك! كم نهشتني الغيرة نهشاً!.. لكن لنتابع القصيدة، ولنستمتع بها كاملة:
يمضي قطاري مسرعاً... مسرعا
يمضغ في طريقه لحم المسافات
يفترس الحقول في طريقه
يلتهم الأشجار في طريقه
... يلحس أقدام البحيرات
لاحظوا هذه العبارة المدهشة: «يلحس أقدام البحيرات»! إنها تساوي ديواناً بأسره. أو لاحظوا كلمة «يفترس الحقول، يلتهم الأشجار». الشعر فعلاً «لغة عليا» كما قال الناقد الفرنسي جان كوهين في كتاب شهير. إنه لغة سحرية تعلو على كل اللغات. ولا تستطيع لغة الفلسفة أن تضاهيها أبداً. لكن لنتابع المسيرة فقد وصلنا إلى النهاية تقريباً:
يسألني مفتش القطار عن تذكرتي
... وموقفي الآتي
... وهل هناك موقف آتي؟
فنادق العالم لا تعرفني
... ولا عناوين حبيباتي
...لا رصيف لي
أقصده... في كل رحلاتي
أرصفتي جميعها... هاربة
...هاربة... مني محطاتي
...هاربة مني... محطاتي
أقسم بالله كنت منزعجاً في الطائرة وضجراً بالحياة، وكلَّ ما هو موجود، فإذا بهذه القصيدة تأتي صدفة، لكي تنعشني وتعيد إليَّ الروح. هنا تكمن كيمياء الشعر وسحره الخالد. وبهذه المناسبة أود القول بأن جان كوهين كان قد كرس حياته كلها لهدف واحد: اكتناه سر اللغة الشعرية، أي معرفة كيف تنقدح الشرارة الشعرية، أو كيف تتولد الشحنات الشعرية عن طريق تركيب معين لكلمات اللغة العادية. وهو هنا يلتقي دون أن يدري بنظرية النظم لناقدنا الكبير عبد القاهر الجرجاني لكن مع تطوير كبير لها بواسطة كشوفات البنيوية وعلم الألسنيات الحديثة. وكنت قد قابلته في باريس أيام زمان عندما كنت أحضر شهادة الدكتوراه عن تيارات النقد العربي الحديث بين عامي 1950 - 1975، وقد خصصتها لدراسة ظاهرة الشعر الحديث في العالم العربي ورأي مختلف التيارات النقدية فيها. وهي أطروحة جامعية لم تنشر حتى الآن ولم تترجم إلى العربية.
الشعر في الخريف
تأملات
الشعر في الخريف
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة