تعددية التعليم في مصر... فرص نجاح لمن يمتلك «القدرة الشرائية»

مخاوف من زيادة الفجوة الطبقية واستبعاد الأقل حظاً

الإشكالية في أنظمة التعليم المصري تكمن بوجود أنماط متعددة وتمييز داخل التعليم الحكومي (غيتي)
الإشكالية في أنظمة التعليم المصري تكمن بوجود أنماط متعددة وتمييز داخل التعليم الحكومي (غيتي)
TT

تعددية التعليم في مصر... فرص نجاح لمن يمتلك «القدرة الشرائية»

الإشكالية في أنظمة التعليم المصري تكمن بوجود أنماط متعددة وتمييز داخل التعليم الحكومي (غيتي)
الإشكالية في أنظمة التعليم المصري تكمن بوجود أنماط متعددة وتمييز داخل التعليم الحكومي (غيتي)

يعاني المجتمع المصري من أزمة تعددية أنماط التعليم منذ عهد محمد علي باشا، الذي وافق على إنشاء مدارس مدنية في مقابل التعليم الأزهري الديني. وظهرت الأزمة بوضوح في بدايات القرن العشرين، حيث وجدت أنماط تعليمية خاضعة للإرساليات الدينية، والتي أخذت على عاتقها نشر التعليم الفرنسي. وأدى وجود جاليات أجنبية متعددة إلى تأسيس مدارس لا دينية تعزز تعليم اللغة الإنجليزية في مقابل الفرنسية، وبعد ثورة 1952 تم تأميم عدد كبير من تلك المدارس الأجنبية، ولكن ظهرت أنظمة تعليمية أخرى أحدثها المدارس الدولية الأميركية والإنجليزية والألمانية والكندية، والتي أصبحت تقدم للمصريين تعليما بشهادات دولية، وبمصروفات خرافية تتراوح ما بين 65 ألف جنيه، وتصل إلى 400 ألف جنيه سنويا (الدولار الأميركي يعادل 17.6 جنيه مصري).
ويأتي هذا التعدد في أنظمة التعليم انعكاسا للفجوة المتزايدة بين طبقات المجتمع المصري، حيث تأتي متواكبة مع ظاهرة انتشار المجمعات السكنية المغلقة «كومباوند» والتي تقام بداخلها المدارس الدولية وفروع الشركات متعددة الجنسيات التي تعزل ساكنيها عن باقي أفراد المجتمع. ومؤخرا صرح الإعلامي أحمد خيري، المتحدث الرسمي باسم وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، بأن قاعدة بيانات وزارة التربية والتعليم تشير إلى أن إجمالي المدارس الرسمية الحكومية (43223) مدرسة، والمدارس الرسمية الحكومية لغات (2445) مدرسة، والمدارس الخاصة (7777) مدرسة، بإجمالي عدد (53445) مدرسة.
أما إجمالي عدد المدارس الدولية فبلغ (768) مدرسة، موزعة على أنحاء الجمهورية بين مدارس دولية رسمية بعدد (5) مدارس، ومدارس دولية رسمية لغات بعدد (18) مدرسة، ومدارس دولية خاصة لغات بعدد (745) مدرسة. كما تتضمن القاعدة مدارس التعليم الفني بإجمالي عدد (2249) مدرسة، موزعة بين مدارس التعليم الثانوي الصناعي بعدد (1137) مدرسة، ومدارس الثانوي الزراعي بعدد (241) مدرسة، ومدارس الثانوي التجاري بعدد (755) مدرسة، ومدارس التعليم الفندقي بعدد (116). أما عدد مدارس التربية الخاصة التي تتضمنها قاعدة البيانات هي (948) مدرسة.
يقول الخبير التربوي دكتور عبد الحفيظ طايل، رئيس المركز المصري للحق في التعليم لـ«الشرق الأوسط»: هناك شكلان لتعدد أنماط التعليم، الأول: «ينطوي على تعدد الخيارات التعليمية المجانية أمام الأطفال والأوصياء، وهو الذي يعنى بإتاحة أشكال متعددة من التعليم، لكن شرط المجانية هنا هو الحاكم؛ أي أنه من المفترض أن يقدم المجتمع أنماطاً متعددة مجانية يمكن للأوصياء أو أولياء الأمور الاختيار من بينها، أما الشكل الثاني: تقديم أنماط تعليمية مرتبطة بالقدرة الشرائية للأسرة، وفي هذه الحالة، يقوم المجتمع بعمل استبعاد اجتماعي لأبناء الفقراء ويحدث تمييز بين الفقراء وأبناء الأميين وطبقة الأغنياء الميسورين».
«هناك تمييز منهجي رسمي يمارس بحكم القانون والقرارات الوزارية واللوائح ضد الفقراء»، يوضح طايل أن الإشكالية في أنظمة التعليم المصري تكمن في وجود أنماط متعددة وتمييز داخل التعليم الحكومي، قائلا: «تقدم الدولة تعليما مجانيا، وتعليما تجريبيا وتشترط فيه أن يكون الأب والأم حاصلين على مؤهل عال، وينقسم التجريبي بدوره إلى تجريبي عربي، وتجريبي لغات، وذلك تحت شعار أنه أكثر جودة من التعليم المجاني، ثم تقدم الدولة التعليم المميز، وهو التعليم الحكومي بمصروفات تبلغ قيمتها 3 أضعاف التعليم التجريبي، ثم هنالك مدارس النيل وهي حكومية بمصروفات تبلغ قيمتها 15 ألفا في السنة».
ويشير طايل إلى أن التعليم الأزهري أيضا بداخله أنماط متعددة منها «أزهري عادي، وأزهري تجريبي، وأزهري لغات، أما من يفشل في الالتحاق بأي من هذه المدارس فيلجأ إلى التعليم الفني، وهو للأسف يضم 65 في المائة من الطلاب الفقراء في مصر، ويتم الالتحاق به بعد المرحلة الإعدادية، فضلا عن عشرات الاختيارات داخل نمطي التعليم الخاص اللغات، والمدارس الدولية».
ينتقد طايل تلك التعددية في العملية التعليمية المصرية، لافتا إلى أن «المعيار الحاكم فيها هو القدرة الشرائية أي قدرة الأسرة على دفع النفقات، وبهذا الوضع يتفاقم (الاستبعاد الاجتماعي) للطبقات الفقيرة وستكون النتائج واضحة بعد 10 سنوات حيث تزداد الفجوة الاجتماعية ويتقلد خريجو التعليم الدولي الوظائف العليا كافة، وهو ما يعد جريمة مكتملة الأركان ضد الفقراء».
تقدر أحدث الإحصاءات الصادرة من الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، أن نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر 27.8 في المائة، ووفقا للإحصاءات والتقارير الحكومية الرسمية في بداية العام الحالي، يقع نحو 30 مليون مصري تحت خط الفقر.
وحول ما إذا كانت المدارس الدولية تقدم الجودة التعليمية التي تفتدها المدارس الحكومية والتي أفرزت ظاهرة «الدروس الخصوصية»، يقول طايل: «تقدم تلك المدارس تعليما أقل سوءا، وتقدم ما يمكن أن نسميه (حالة فندقية) بمحتوى تعليمي أفضل وكثافة فصول أقل، لكن المحصلة النهائية ليست جيدة».
ترى الدكتورة مها بالي، أستاذ ممارس مساعد بمركز التعلم والتدريس بالجامعة الأميركية بالقاهرة، أن مبدأ وجود اختيارات مختلفة للتعليم ليس أمرا سيئاً، ولكن تكمن الإشكالية في أنه يثير مشاكل مختلفة متعلقة بأبعاد تعليمية واجتماعية وثقافية أخرى.
وتقول بالي لـ«الشرق الأوسط»: «أبرز الإشكاليات التي تظهر فيما يتعلق بتعددية أنظمة التعليم، هي زيادة الفجوة بين نوع التعليم الذي يتلقاه الأثرياء من الشعب، وما يتلقاه باقي الشعب، ما يؤثر بعد ذلك على فرص التعليم العالي وسوق العمل بعد ذلك. أما الإشكالية الثانية فتكمن في وجود اختلاف شديد في مستوى طلاب المدرسة الأجنبية (في أغلب الحالات) في اللغة العربية لزيادة التركيز على اللغة الأجنبية، مع إهمال اللغة العربية في المقابل. وهناك ما يدعو للقلق من ناحية تربية الشخصية والهوية المصرية والانتماء للوطن وثقافته، لا سيما حينما يترعرع الطفل في ثقافة أجنبية ويعتقد أنها تتفوق على ثقافته».
وتثير الدكتورة بالي نقطة خطيرة فيما يتعلق بوجود أنماط متنوعة من التعليم الديني، متسائلة: «ما نوع الرقابة على التعليم الديني للتأكد من أنه معتدل ويدعو لاحترام الآخر وما إلى ذلك؟». لافتة إلى أن تعدد الأنماط التعليمية يؤدي لعرقلة عملية إصلاح العملية التعليمية، قائلة: «عندما يتحدث الشعب عن إصلاح التعليم نحن لا نتكلم عن شيء واحد، بل عن أنماط متعددة مختلفة عن بعضها، لذا فإن أي قوانين توضع لتحسين مستوى التعليم في نظام معين أحيانا لا تساعد نظاما آخر، لأنه مختلف. مثلا هناك قوانين عن حجم الفصل وضعت لتناسب الفصل التقليدي ولكنها غير قابلة للتطبيق مع الفصل الذي يستخدم التكنولوجيا، وأحيانا تعرقل بعض أنواع الإبداع في طرق التعليم».
وتعود لتؤكد أنه رغم هذه الإشكاليات، فإن «وجود اختيارات مختلفة للآباء مفيد، ولكن يجب أن تكون هناك معايير للتأكيد على أن النظم التعليمية الخاصة لا تأخذ من حقوق النظم العامة ولا تنتقص، أو تقصر في تعليم اللغة العربية وترسيخ الهوية المصرية، بل وينبغي أن تكون هناك نظم للتأكيد على أنها ذات مستوى تعليمي لائق، خاصة أن بعضها لا يهتم بالتعليم وجودته».
يعلق الدكتور هاني خميس، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإسكندرية، على ظاهرة التعددية التعليمية وتأثيرها الاجتماعي لـ«الشرق الأوسط»: «لا شك أن وجود أنماط متعددة من التعليم في مصر أثرت على التماسك الاجتماعي، وأدت إلى وجود فجوة طبقية وتمايز بين أفراد المجتمع الذين نشأوا في ثقافات مغايرة عن مجتمعهم ويحملون فكراً وأسلوباً ونمط حياة مختلفاً، فضلا عن كونهم يتحدثون لغات أخرى، مما يخلق لديهم حالة من عدم الاندماج داخل المجتمع، بل وأدت إلى محاولة هذه الفئات الانعزال عن باقي أفراد المجتمع فيما يعزز ذلك الاستبعاد الاجتماعي للطبقات الأخرى».
ويحذر خميس من «تعزيز الأنظمة التعليمية المختلفة لثقافات أجنبية غير متجانسة مع ثقافة المجتمع المصري، سيؤدي إلى صراع اجتماعي طبقي، فمثلا التعليم الدولي سيعزز فرص عمل طلابه في الشركات الدولية ومتعددة الجنسيات، وبالتالي تقل فرص العمل أمام خريجي الأنظمة التعليمية الحكومية، ولا يحدث حراك اجتماعي، بل تتضاءل الطبقة المتوسطة التي هي صمام الأمان لأي مجتمع. للأسف هذه التعددية التعليمية ستظهر مخاطرها بشكل كبير خلال السنوات المقبلة وما يتبعها من تزايد معدلات الجريمة والعنف بكل أشكاله وصوره».


مقالات ذات صلة

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

الولايات المتحدة​ دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

أظهر بحث جديد أن مدى جودة مدرستك الثانوية قد يؤثر على مستوى مهاراتك المعرفية في وقت لاحق في الحياة. وجدت دراسة أجريت على أكثر من 2200 من البالغين الأميركيين الذين التحقوا بالمدرسة الثانوية في الستينات أن أولئك الذين ذهبوا إلى مدارس عالية الجودة يتمتعون بوظيفة إدراكية أفضل بعد 60 عاماً، وفقاً لشبكة «سكاي نيوز». وجد الباحثون أن الالتحاق بمدرسة مع المزيد من المعلمين الحاصلين على تدريب مهني كان أوضح مؤشر على الإدراك اللاحق للحياة. كانت جودة المدرسة مهمة بشكل خاص للمهارات اللغوية في وقت لاحق من الحياة. استخدم البحث دراسة استقصائية أجريت عام 1960 لطلاب المدارس الثانوية في جميع أنحاء الولايات المتحدة

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم العربي مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

نفت الحكومة المصرية، أمس السبت، عزمها «إلغاء مجانية التعليم الجامعي»، مؤكدة التزامها بتطوير قطاع التعليم العالي. وتواترت أنباء خلال الساعات الماضية حول نية الحكومة المصرية «إلغاء مجانية التعليم في الجامعات الحكومية»، وأكد مجلس الوزراء المصري، في إفادة رسمية، أنه «لا مساس» بمجانية التعليم بكل الجامعات المصرية، باعتباره «حقاً يكفله الدستور والقانون لكل المصريين».

إيمان مبروك (القاهرة)
«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

لا يزال برنامج «تشات جي بي تي» يُربك مستخدميه في كل قطاع؛ وما بين إعجاب الطلاب والباحثين عن معلومة دقيقة ساعدهم «الصديق (جي بي تي)» في الوصول إليها، وصدمةِ المعلمين والمدققين عندما يكتشفون لجوء طلابهم إلى «الخصم الجديد» بهدف تلفيق تأدية تكليفاتهم، لا يزال الفريقان مشتتين بشأن الموقف منه. ويستطيع «تشات جي بي تي» الذي طوَّرته شركة الذكاء الصناعي «أوبن إيه آي»، استخدامَ كميات هائلة من المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت وغيرها من المصادر، بما في ذلك حوارات ومحادثات بين البشر، لإنتاج محتوى شبه بشري، عبر «خوارزميات» تحلّل البيانات، وتعمل بصورة تشبه الدماغ البشري. ولا يكون النصُّ الذي يوفره البرنامج

حازم بدر (القاهرة)
تحقيقات وقضايا هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

رغم ما يتمتع به «تشات جي بي تي» من إمكانيات تمكنه من جمع المعلومات من مصادر مختلفة، بسرعة كبيرة، توفر وقتاً ومجهوداً للباحث، وتمنحه أرضية معلوماتية يستطيع أن ينطلق منها لإنجاز عمله، فإن للتقنية سلبيات كونها قد تدفع آخرين للاستسهال، وربما الاعتماد عليها بشكل كامل في إنتاج موادهم البحثية، محولين «تشات جي بي تي» إلى أداة لـ«الغش» العلمي.

حازم بدر (القاهرة)
العالم العربي بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

اعتبر محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، ووزير الخارجية المغربي الأسبق، أن مسألة التعايش والتسامح ليست مطروحة على العرب والمسلمين في علاقتهم بالأعراق والثقافات الأخرى فحسب، بل أصبحت مطروحة حتى في علاقتهم بعضهم ببعض. وقال بن عيسى في كلمة أمام الدورة الحادية عشرة لمنتدى الفكر والثقافة العربية، الذي نُظم أمس (الخميس) في أبوظبي، إن «مسألة التعايش والتسامح باتت مطروحة علينا أيضاً على مستوى بيتنا الداخلي، وكياناتنا القطرية، أي في علاقتنا ببعضنا، نحن العرب والمسلمين».

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

كلية الطب في بيروت... 150 عاماً من النجاحات

كلية الطب في بيروت... 150 عاماً من النجاحات
TT

كلية الطب في بيروت... 150 عاماً من النجاحات

كلية الطب في بيروت... 150 عاماً من النجاحات

التحدث عن كلية الطب في «الجامعة الأميركية» وما حققته من إنجازات وتطورات منذ تأسيسها عام 1867 لا يمكن تلخيصه بمقال؛ فهذه الكلية التي تحتل اليوم المركز الأول في عالم الطب والأبحاث في العالم العربي والمرتبة 250 بين دول العالم بالاعتماد على QS Ranking، استطاعت أن تسبق زمنها من خلال رؤيا مستقبلية وضعها القيمون عليها، وفي مقدمتهم الدكتور محمد صايغ نائب الرئيس التنفيذي لشؤون الطب والاستراتيجية الدولية وعميد كلية الطب في الجامعة الأميركية، الذي أطلق في عام 2010 «رؤيا (2020)»، وهي بمثابة خطة طموحة أسهمت في نقل الكلية والمركز الطبي إلى المقدمة ووضعهما في المركز الأول على مستوى المنطقة.

رؤية 2025

اليوم ومع مرور 150 عاماً على تأسيسها (احتفلت به أخيراً) ما زالت كلية الطب في «الجامعة الأميركية» تسابق عصرها من خلال إنجازات قيمة تعمل على تحقيقها بين اليوم والغد خوّلتها منافسة جامعات عالمية كـ«هارفرد» و«هوبكينز» وغيرهما. وقد وضعت الجامعة رؤيا جديدة لها منذ يوليو (تموز) في عام 2017 حملت عنوان «رؤية 2025»، وهي لا تقتصر فقط على تحسين مجالات التعليم والطبابة والتمريض بل تطال أيضاً الناحية الإنسانية.
«هي خطة بدأنا في تحقيقها أخيراً بحيث نستبق العلاج قبل وقوع المريض في براثن المرض، وبذلك نستطيع أن نؤمن صحة مجتمع بأكمله». يقول الدكتور محمد صايغ. ويضيف خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «لا نريد أن ننتظر وصول وفود المرضى إلى مركزنا الطبي كي نهتم بهم، بل إننا نعنى بتوعية المريض قبل إصابته بالمرض وحمايته منه من خلال حملات توعوية تطال جميع شرائح المجتمع. كما أننا نطمح إلى إيصال هذه الخطة إلى خارج لبنان لنغطي أكبر مساحات ممكنة من مجتمعنا العربي».
تأسَّسَت كلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت عام 1867، وتعمل وفقاً لميثاق صادر من ولاية نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية، ويقوم على إدارتها مجلس أمناء خاص ومستقل.
وتسعى الكلية لإيجاد الفرص التي تمكن طلبتها من تنمية روح المبادرة، وتطوير قدراتهم الإبداعية واكتساب مهارات القيادة المهنية، وذلك من خلال المشاركة في الندوات العلمية والتطبيقات الكلينيكية العملية مما يُسهِم في تعليم وتدريب وتخريج أطباء اختصاصيين.
وملحَق بكلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت مركز طبي يضم أقساماً للأمراض الباطنية والجراحة والأطفال وأمراض النساء والتوليد ‏والطب النفسي. كما يقدم المركز الطبي خدمات الرعاية الصحية المتكاملة في كثير من مجالات الاختصاص، وبرامج للتدريب على التمريض وغيرها ‏من المهن المرتبطة بالطب.

اعتمادات دولية

منذ عام 1902، دأب المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت على توفير أعلى معايير الرعاية للمرضى في مختلف أنحاء لبنان والمنطقة. وهو أيضاً المركز الطبي التعليمي التابع لكلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت التي درّبت أجيالاً من طلاب الطب وخريجيها المنتشرين في المؤسسات الرائدة في كل أنحاء العالم. المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت هو المؤسسة الطبية الوحيدة في الشرق الأوسط التي حازت على خمس شهادات اعتماد دولية وهي JCI)، وMagnet، وCAP، وACGME - I و(JACIE مما يشكّل دليلاً على اعتماد المركز أعلى معايير الرعاية الصحية المتمحورة حول المريض والتمريض وعلم الأمراض والخدمات المخبرية والتعليم الطبي والدراسات العليا. وقد خرَّجَت كلية الطب أكثر من أربعة آلاف طالب وطبيب. وتقدم مدرسة رفيق الحريري للتمريض تعليماً متميزاً للعاملين في مجال التمريض، ويلبي المركز الطبي احتياجات الرعاية الصحية لأكثر من 360 ألف مريض سنوياً.
ويتألف المركز من عدد من مراكز الامتياز كمركز سرطان الأطفال التابع لمستشفى «سانت جود» البحثي في ولايتي ممفيس وتينيسي. كما تتضمن برنامج باسيل لأورام البالغين وفيه وحدة لزرع نخاع العظام، إضافة إلى مراكز طب الأعصاب المختلفة وأمراض القلب والأوعية الدموية ومركز للرعاية الصحية للنساء.
«هناك استثمارات تلامس نحو 400 مليون دولار رصدت من أجل بناء البنية التحتية اللازمة للمركز الطبي مع مشروع افتتاح عدة مبانٍ وأقسام جديدة خاصة بأمراض السرطان وأخرى تتعلق بالأطفال، إضافة إلى نقلة نوعية من خلال زيادة عدد الأسرة لتلبية الحاجات الصحية المختلفة لمرضانا»، كما أوضح د. صايغ في سياق حديثه.

تبرعات للمحتاجين

يعمل المركز الطبي على تأمين العلاج المجاني لأمراض مستعصية من خلال تأسيس صناديق تبرُّع للمحتاجين، هدفها تأمين العلاج لذوي الدخل المحدود. وهي تخصص سنوياً مبلغ 10 ملايين دولار لمساعدة هذه الشريحة من الناس التي تفتقر إلى الإمكانيات المادية اللازمة للعلاج.
وينظم المركز الطبي مؤتمراً سنوياً ودورات وورش عمل (MEMA) تتناول مواضيع مختلفة كطب الصراعات ومواضيع أخرى كصحة المرأة، والصحة العقلية، وعبء السرطان وغسل الكلى أثناء الصراع وتدريب وتثقيف المهنيين الصحيين للتعامل مع تحديات العناية بأفراد المجتمع.
تُعدّ كلية الطب في الجامعة الأميركية السباقة إلى تأمين برنامج تعليمي أكاديمي مباشر لطلابها، بحيث يطبقون ما يدرسونه مباشرة على الأرض في أروقة المركز الطبي التابع لها.
ويرى الدكتور محمد صايغ أن عودة نحو 180 طبيباً لبنانياً عالمياً من خريجيها إلى أحضانها بعد مسيرة غنية لهم في جامعات ومراكز علاج ومستشفيات عالمية هو إنجاز بحد ذاته. «ليس هناك من مؤسسة في لبنان استطاعت أن تقوم بهذا الإنجاز من قبل بحيث أعدنا هذا العدد من الأطباء إلى حرم الكلية وأنا من بينهم، إذ عملت نحو 25 عاماً في جامعة (هارفرد)، ولم أتردد في العودة إلى وطني للمشاركة في نهضته في عالم الطب». يوضح دكتور محمد صايغ لـ«الشرق الأوسط».

رائدة في المنطقة

أبهرت كلية الطب في الجامعة الأميركية العالم بإنجازاتها على الصعيدين التعليمي والعلاجي، ففي عام 1925. تخرجت فيها أول امرأة في علم الصيدلة (سارة ليفي) في العالم العربي، وبعد سنوات قليلة (1931) كان موعدها مع تخريج أول امرأة في عالم الطب (ادما أبو شديد). وبين عامي 1975 و1991 لعبت دوراً أساسياً في معالجة ضحايا الحرب اللبنانية فعالج قسم الطوارئ لديها في ظرف عام واحد (1976 - 1977) أكثر من 8000 جريح. وفي عام 2014 تلقت إحدى أضخم التبرعات المالية (32 مليون دولار) لدعم المركز الطبي فيها وتوسيعه.
كما لمع اسمها في إنجازات طبية كثيرة، لا سيما في أمراض القلب، فكان أحد أطبائها (دكتور إبراهيم داغر) أول من قام بعملية القلب المفتوح في العالم العربي، في عام 1958. وفي عام 2009، أجرت أولى عمليات زرع قلب اصطناعي في لبنان، وفي عام 2017 أحرز فريقها الطبي أول إنجاز من نوعه عربياً في أمراض القلب للأطفال، عندما نجح في زرع قلب طبيعي لطفل.
كما تصدرت المركز الأول عربياً في عالم الطب لثلاث سنوات متتالية (2014 - 2017) وحازت على جوائز كثيرة بينها «الجائزة الدولية في طب الطوارئ» و«جائزة عبد الحميد شومان» عن الأبحاث العربية، و«جائزة حمدان لأفضل كلية طبية في العالم العربي» لدورها في التعليم الطبي لعامي 2001 – 2002.