كتاب وشعراء وفنانون ليبيون على رصيف الحياة

أحمد الفيتوري يجمعهم في «جغرافيا الصورة»

علي مصطفى المصراتي شيخ الأدباء الليبيين
علي مصطفى المصراتي شيخ الأدباء الليبيين
TT

كتاب وشعراء وفنانون ليبيون على رصيف الحياة

علي مصطفى المصراتي شيخ الأدباء الليبيين
علي مصطفى المصراتي شيخ الأدباء الليبيين

قدم الكاتب الليبي أحمد الفيتوري في هذا الكتاب، قيد الطبع، صورة شديدة الخصوصية لليبيا، الوطن والأم والحلم والثورة، تتوثق هذه الصورة من تلقاء نفسها عبر عين حكاءة، تعرف كيف تسبر ملامحها وأبعادها، ناحتة لها معولا معرفيا شيقا، ما يمكن أن أسميه «جغرافيا الصورة». نحن أمام باقة من البورتريهات السردية الشيقة لشخوص ليبية، بعضهم مهمش ومنسي، ومسكوت عنه، رغم الأدوار الكثيرة التي لعبها، وبعضهم رحل تاركا وصاياه ودماءه وتضحياته قبسا للأجيال القادمة، وبعضهم لا يزال فاعلا بقوة في عمق المشهد بكل ما يعتريه من فواصل وعقد سميكة على شتى المستويات السياسية والثقافية والاقتصادية.
كتاب وشعراء وفنانون، علماء ومناضلون سياسيون، مثقفون ومواطنون عاديون، أحبوا أن تكون الحياة حرة في وطن عادل وحر، ينحاز لهم الكاتب، ويقدر لحظات ضعفهم وهشاشتهم، وأنها ليست وليدة العجز أو المصادفة العابرة، وإنما نتاج نضال عميق في نسيج وجدان لم يهلل للطغاة، أو يمنح بشاعتهم صك العبور خلسة من وراء ظهورهم.
فمن تحت شجرة الصفصاف يلتقط وهبي البوري حَكّاءُ ليبيا، كما يسميه المؤلف، ومن خلال مصفاة سرد شيقة يرافقه في حله وترحاله، من الإسكندرية إلى إيطاليا، وطنجة وبرلين ونيويورك، وغيرها من مدن العالم، وفي زمن الحرب العالمية المدمر.
نكتشف من شريط رحلة البوري أنه في ترحاله قابل نخبة مهمة من زعماء العالم مثل: موسوليني ونهرو ونكروما وعبد الناصر وجون كنيدي، وبات مندوب البلاد في الأمم المتحدة بعد أن توزّر فيها في أكثر من وزارة. ورغم مشاق هذه الرحلة ترجم القصص عن الإيطالية، كما عمل مُحرراً بمجلة «ليبيا المصورة» في ثلاثينات القرن العشرين التي رأس تحريرها «فخري المحيشي» ونشر تحقيقات صحافية كان أولها «رمضان في بنغازي»، وكان أول عربي يكتب وينشر «الكلمات المتقاطعة»، أما القصة القصيرة فكتبها وكان من أوائل روادها في اللغة العربية، ثم عقب هجره القصة تفرغ لترجمة كتب التاريخ.
يوم الاثنين 7 يونيو (حزيران) 2010 لم يرحل إلا وقبلها بساعات معدودات في غرفة العناية المركزة طلب من الأستاذ علي الفلاح، مسؤول بـ(المجلس العام للثقافة) الذي جاء يطمئنُ عليه أن يأتيهُ بعقد كتابه الأخير ليوقعه، وكان «الفلاح» قد جاء إلى بيت البوري لهذا الغرض ولم يكن علم بمرضه، وآخر ما فعل في الرمق الأخير «وهبي البوري» أن وقع كتابَهُ الأخير.
هذه الخيوط الشيقة التي رسمها الفيتوري للوحة البوري، عاشقا ومناضلا وإنسانا، يؤمن أن انحيازه لحلمه البسيط هو انحياز للوطن، بمعناه الأوسع والأعمق على مستويي الحلم والواقع معا؛ تتناسل في ضفيرتها وبزوايا متنوعة شخوص الكتاب، صانعة هذه الجغرافيا الخاصة، التي هي في حقيقتها شهادة على أحلام اختفت تحت وطأة القهر السياسي والاجتماعي لنظام حكم فاسد، وأخرى تنهض من تحت ركام الغبار، محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من إرث وطن يملك كثيرا من المقومات الذاتية على صناعة البهجة والحياة.
هكذا يدلف إلى المشهد علي مصطفى المصراتي، شيخ الأدباء الليبيين، رفيق الحكمة والتسامح، وذلك عبر رسالة حميمة، تناقش أفكاره عن العلاقة بالآخر، وفكرة «القبول بالغير»، من منطلق أن الاعتراف بالحق في الاختلاف من سنن الحياة والتطور، كما أن التسامح لا يعني عدم الاكتراث واللامبالاة، إنما يعني البحث عن الأفضل.
وفي جدل المنسي والمهمّش، ما بين قبضتي الحضور والغياب، تطالعنا صورة المنتصر، الشاعر المقهور (محمود عبد المجيد المنتصر)، وتبدو المفارقة جلية إلى حد السخرية المرة، من تقاطع اسمه مع الواقع. فهو المنتصر بشعره لاسمه، لكن هذا الاسم ظل تحت وطأة واقع متعسف، منسيا في الماضي، مضطهدا في الحاضر، لتبقى حيرة وجوده هي البحث عن معنى للسعادة، التي كثيرا ما تغنى بها في شعره، وظل مفتقدها على أرض الواقع.
أما جاحظ العصر، عبد المُولى لَنقِي، الذي ينعته الفيتوري بـ«كِتَاب ليبيا»، فله حياة أخرى في البحث عن السعادة أيضا. فعلى كاهله حمل ما يُحب، وبلغ هذا الحب ذروته في أن يجعل الكتابَ حبه الأول والأخير، لكن لهذا الكتاب ضرة تزوجها عن حبٍ جارف هي «ليبيا»، أسطورته الأولى والأخيرة، أيضا.
تتكثف اللقطة وملامح الصورة، حين تصوِّب العدسة أشعتها الخاطفة على مشهد بيت لنقِي من الداخل، وينساب شريط السرد على عفويته: «قلت دخلت بيته فوجدت مقامه ومضيفته تعج بـ(خرائط ليبيا)، كثير منها جمعها في ترحاله، بعض الخرائط أصلية كان يُطاردها في مزادات الكتب والخرائط، وفي الأسواق القديمة وعند الباعة المتجولين حيثُ سافر في أماكن كثيرة».
ثمة أشياء هي ابنة الفطرة، وأشياء يفقدها الواقع فطريتها، تنتسب الأولى للجمال الصافي البكر، بينما تنسب الثانية لصورة مشوهة ومستنسخة عن واقع في قبضة نظام غبي لا يملك سوى شعارات مزيفة يروجها عن نمذجة هشة وهجين، تقبع دائما على السطح، بعيدا عما يجري في الأعماق.
في هذه الأعماق بكل صخبها وهدوئها المشمس الرائع، تتبدى صور شخوص، يعرفون كيف يحرثون الأرض ويغرسون البذرة في أوانها المثمر الخلاق... في صدارتهم بالكتاب: أمين مازن الكاتب المعلّق دائما بمسارب الغد، أحد الذين أسسوا «جيل57» الأدبي الطليعي، وصاحب المقولة الأثيرة «علينا أن نخترع أنفسنا»... ثم محمد المفتي الطبيب الجراح الذي انشغل بفكرة «توطين العلم»، بدافع من حبه للأدب والرسم والفن والكتابة، وباسم هذا الحب انخرط في الحياة السياسية، لكن المكافأة كانت في النهاية اعتقاله لمدة عشر سنوات في السجن.
على مقربة من هذه الصورة تنتصب صورة حسين مخلوف، الذي يتأبط نفسه، معلما ومترجما وناقدا ومعدا للبرامج الإذاعية، وكيف قضى في السجن ردحا من الزمن، متهما بعدم التبرئة من يقينه، بأن التحزب ليس خيانة.
يخرج من إطار الصورة نفسها، رضوان بوشيشة، معشوق الآيرلنديات، طريد طرابلس وحكايته المؤلمة ومحاكمته الهزلية، لأنه طارد لصوص الفساد وكشفهم على قارعة الطريق.
وبنبرة شجن، تحت هذا الرذاذ الآسن يرسم الفيتوري صورة يتلاقح فيها الوضوح والغموض، كأنهما عاشقان التقيا على مقعد مهجور بحديقة الحياة... كتب عن سالم العوكلي، سيد من سادة الحياة، شاعر الظمأ والهوس والجنون، تربى على ثقافة المشافهة، في درنة، مسقط رأسه، مستعرضا نماذج حية لسعيه الدائم لأن تكون درنة قبلة لمبدعي البلاد وكتابها... تلتقط الصورة خيوط الزهد والترفع والرفعة الكامنة في داخل العوكلي على هذا النحو من ألفة الغرابة: «لم يكتب الشعر وحسب بل نثر الشعر في حقل الحياة، وإن لم يحصد ما زرع فلأنه اكتفى بأن يكون الشاعر، ولم يرتض للشاعر وظيفة حتى منصب شاعر، لهذا لم يُداعك من أجل حيزٍ في مكان وما بحث عن صيتٍ في الزمان».
تبلغ جغرافيا هذه الصورة ذروتها المعرفية، في صور ومشاهد مماثلة، تتقاطع معها باسم الوجع والحلم الإنساني معا، ففي سقف جغرافيا الصورة الليبية، يستدعي الفيتوري، صورة الشاعرة الروسية المناضلة المغبونة آنا أخماتوفا، التي ذاقت الأمرين من الحبس والاضطهاد، واغتيال الروح والجسد في عهد الديكتاتورية الستالينية في روسيا، ويكتب عن ناجي العلي، ولوركا الليبي، بمناسبة ترجمة الناقد الليبي خليفة التليسي للديوان الكامل للشاعر الإسباني الأشهر لوركا، مع دراسة ضافية عن شعره وأثره في الشعرية العربية... وفي الصورة يلمح الفيتوري بذكاء أدبي شفيف، لا يخلو من رمزية سياسية لافتة، ما بين مسرحية عرس الدم الشهيرة للوركا، وزواج ابن طرابلس الشاعر محمد الفقيه صالح الذي رحل عن عالمنا في هذا العام 2017، وكان آخر منصب تولاه في عمله الدبلوماسي منصب سفير ليبيا بإسبانيا.
وبمحبة طفل يدخل الفيتوري محراب الشاعر المصري الرائد محمد عفيفي مطر، ويسميه المنسي في الطمي، وعبر مونولوج خاص وحميم، يتقاطع فيه الداخل والخارج، تستجلي الصورة ملامح خفية من حياة مطر، القروي على فطرته، والشاعر الإنسان، العاشق للأسئلة الكاشفة الطافرة بالدهشة والمعرفة الحرة البناءة. تومض هذه الصورة وتتنوع في زوايا حية، ما بين القاهرة وليبيا وبغداد.
يحتفي الكتاب أيضا بصورة المدن، بأساطيرها وناسها، وكتابها وأحلامها المتسربلة في خطاهم... فتطل أساطير طرابلس ودرنة وبنغازي وغيرها من المدن، ما يجعلنا أمام كتاب يقدم زادا معرفيا أصيلا، كما يبني من جغرافيا الصورة حياة شخوص، تركوا رسائل حية، ممتدة في جسد الزمان والمكان.



رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية

الراحل عبد الله العلي النعيم
الراحل عبد الله العلي النعيم
TT

رحيل عبد الله النعيم... المعلم والمهندس قبل أن يحمل الابتدائية

الراحل عبد الله العلي النعيم
الراحل عبد الله العلي النعيم

محطات كثيرة ولافتة وعجيبة شكلت حياة عبد الله العلي النعيم، الذي رحل، الأحد، بعد رحلة طويلة في هذه الحياة تجاوزت تسعة عقود، كان أبرزها توليه منصب أمين مدينة الرياض في بدايات سنوات الطفرة وحركة الإعمار التي شهدتها معظم المناطق السعودية، وسبقتها أعمال ومناصب أخرى لا تعتمد على الشهادات التي يحملها، بل تعتمد على قدرات ومهنية خاصة تؤهله لإدارة وإنجاز المهام الموكلة إليه.

ولد الراحل النعيم في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم وسط السعودية عام 1930، والتحق بالكتاتيب وحلقات التعلم في المساجد قبل إقرار المدارس النظامية، وأظهر نبوغاً مبكراً في صغره، حيث تتداول قصة عن تفوقه، عندما أجرى معلمه العالم عبد الرحمن السعدي في مدرسته بأحد مساجد عنيزة مسابقة لحفظ نص لغوي أو فقهي، وخصص المعلم جائزة بمبلغ 100 ريال لمن يستطيع ذلك، وتمكن النعيم من بين الطلاب من فعل ذلك وحصل على المبلغ، وهو رقم كبير في وقته يعادل أجر عامل لمدة أشهر.

محطات كثيرة ولافتة وعجيبة شكلت حياة عبد الله العلي النعيم

توجه الشاب النعيم إلى مكة بوصفها محطة أولى بعد خروجه من عنيزة طلباً للرزق وتحسين الحال، لكنه لم يجد عملاً، فآثر الذهاب إلى المنطقة الشرقية من بلاده حيث تتواجد شركة «أرامكو» ومشاريعها الكبرى، وتوفّر فرص العمل برواتب مجزية، لكنه لم يذهب للشركة العملاقة مباشرة، والتمس عملاً في إحدى محطات الوقود، إلى أن وجد عملاً في مشروع خط التابلاين التابع لشركة «أرامكو» بمرتب مجز، وظل يعمل لمدة ثلاث سنوات ليعود إلى مسقط رأسه عنيزة ويعمل معلماً في إحدى مدارسها، ثم مراقباً في المعهد العلمي بها، وينتقل إلى جدة ليعمل وكيلاً للثانوية النموذجية فيها، وبعدها صدر قرار بتعيينه مديراً لمعهد المعلمين بالرياض، ثم مديراً للتعليم بنجد، وحدث كل ذلك وهو لا يحمل أي شهادة حتى الابتدائية، لكن ذلك اعتمد على قدراته ومهاراته الإدارية وثقافته العامة وقراءاته وكتاباته الصحافية.

الراحل عبد الله العلي النعيم عمل مديراً لمعهد المعلمين في الرياض

بعد هذه المحطات درس النعيم في المعهد العلمي السعودي، ثم في جامعة الملك سعود، وتخرج فيها، وتم تعيينه أميناً عاماً مساعداً بها، حيث أراد مواصلة دراسته في الخارج، لكن انتظرته مهام في الداخل.

وتعد محطته العملية في شركة الغاز والتصنيع الأهلية، المسؤولة عن تأمين الغاز للسكان في بلاده، إحدى محطات الراحل عبد الله العلي النعيم، بعد أن صدر قرار من مجلس الوزراء بإسناد مهمة إدارة الشركة إليه عام 1947، إبان أزمة الغاز الشهيرة؛ نظراً لضعف أداء الشركة، وتمكن الراحل من إجراء حلول عاجلة لحل هذه الأزمة، بمخاطبة وزارة الدفاع لتخصيص سيارة الجيش لشحن أسطوانات الغاز من مصدرها في المنطقة الشرقية، إلى فروع الشركة في مختلف أنحاء السعودية، وإيصالها للمستهلكين، إلى أن تم إجراء تنظيمات على بنية الشركة وأعمالها.

شركة الغاز والتصنيع الأهلية تعد إحدى محطات الراحل عبد الله العلي النعيم

تولى النعيم في بدايات سنوات الطفرة أمانة مدينة الرياض، وأقر مشاريع في هذا الخصوص، منها إنشاء 10 بلديات في أحياء متفرقة من الرياض، لتسهيل حصول الناس على تراخيص البناء والمحلات التجارية والخدمات البلدية. ويحسب للراحل إقراره المكتب التنسيقي المتعلق بمشروعات الكهرباء والمياه والهاتف لخدمة المنازل والمنشآت وإيصالها إليها، كما طرح أفكاراً لإنشاء طرق سريعة في أطراف وداخل العاصمة، تولت تنفيذها وزارة المواصلات آنذاك (النقل حالياً)، كما شارك في طرح مراكز اجتماعية في العاصمة، كان أبرزها مركز الملك سلمان الاجتماعي.

تولى النعيم في بدايات سنوات الطفرة أمانة مدينة الرياض